بعيدا عن بلده الأم إنجلترا، حل والتر هاريس ابن إحدى العائلات البريطانية الغنية بالمغرب في القرن التاسع عشر، وسافر في ربوعه وتعرف على عادات المغاربة وتقاليدهم. بعد سنوات من استقراره في طنجة، تعرض هاريس للاختطاف وسقط في أيدي رجال مولاي أحمد الريسوني، الرجل القوي في طنجة الشهير بكونه قاطع طريق وجبارا ومختطفا. نشر هاريس فصول قصة اختطافه، ولقائه بالسلطان مولاي الحسن وحياة القصور الفخمة بأسلوبه الساخر الممزوج بالطرافة في كتابه «المغرب المنقرض» الذي تنشره «المساء» هذا الصيف على مدى حلقات... ما زلت أتذكر أول لعبة ورق جمعتني بمولاي عبد العزيز، كنت قد دعوته وقتها إلى منزلي بمناسبة حفل عشاء حضرته العديد من الشخصيات الأوروبية شملت وزراء انجليز وفرنسيين وأعضاء سفارتي هذين البلدين في المغرب. جلس السلطان في مقدمة المائدة وتناول كمية قليلة من الطعام إذ لم يكن حينها متعودا على استعمال السكين والشوكة في الأكل، وبعد أن أنهينا وجبة العشاء، بدأنا نستعد للعب الورق. كان شريكي في اللعبة ممثل السفارة الفرنسية، وواجهنا مولاي عبد العزيز رفقة السير ريجينالد ليستر، ممثل بريطانيا العظمى في المغرب في تلك الفترة، وبعد توزيع الأوراق سحبت أصغر عدد من الأوراق. كان السلطان جالسا على يساري، وضعت ورقة وقلت : «قلب». أجاب السلطان أنه لا يتوفر على ورقة تحمل رمز القلب، وطلب مني فجأة بلهجة آمرة أن أسلمه أوراق لعبي. وجدت نفسي مضطرا أن أسلمه ورقة اللعب التي تحمل رسم القلب مقابل الحصول على ثلاث عشرة ورقة لا تضم سوى حظ واحد، لأجد نفسي رفقة شريكي أننا خسرنا خمسة أوراق وبدا السلطان سعيدا بالفوز. لحسن الحظ أننا لم نلعب تلك الليلة مقابل المال.. لم يكن هذا هو الحادث الطريف الوحيد الذي شهدته الحفلة، فقد امتازت تلك الدعوة بحضور فن الاتيكيت الأوروبي الذي شاهد السلطان تفاصيله لأول مرة في حياته. لم يخف مولاي عبد العزيز رغبته في حضور اللقاء عشاء ذلك اليوم، وعوض أن يصل على الساعة الثامنة والربع مساء، وصل مبكرا على الساعة الخامسة، واعتذر عن وصوله قبل الضيوف مبررا ذلك برغبته في معاينة التحضيرات التي تسبق الحفل. بعد مرور دقيقتين على وصوله، توجه دون تردد إلى المطبخ الذي سادته الفوضى لزيارة سليل الرسول وأمير المؤمنين، وفتح الطباخون الأفران وعاين السلطان الأواني التي تطبخ فوق النار مدخلا الملعقة داخل الأكل ليتذوقه، واستهوته آلة صنع المثلجات وطرح آلاف الأسئلة على الطباخ المشرف عليها.. أثار المشرف على ترتيب المائدة اهتمام السلطان، وظل يتابع بحرص أغطيته على حواشي المائدة، وبينما كنت أرتدي ملابسي استعدادا للحفل، جلس إلى جانبي وهو يتحدث مع أحد الخدم المغاربة الذين يعملون لدي وحافظ السلطان على وقاره ولم يخل الحوار العفوي بين الطرفين من عبارات الاحترام المتبادل. لطالما اتصف المغاربة بصفات الشهامة والرجولة كيفما كان المركز الاجتماعي الذي ينحدر منه الشخص، وظل الشعور الوطني دائما ديمقراطيا. لقد ترسخ لدي هذا الرأي في كل حفلات العشاء على شرف مولاي عبد الحفيظ أو مولاي عبد العزيز، إذ يحرص كلاهما دائما على استدعاء أحد الخدم ليناقشه في إحدى القضايا التي تهم الشعب المغربي وسماع وجهة رأيه حولها. وصل الضيوف في الموعد المحدد أي الساعة الثامنة والربع، واقتضى البرنامج أن أخفي السلطان أسفل السلم قبل أن يدخل مرة أخرى إلى البيت. كان مولاي عبد العزيز يرتدي جلبابا أنيقا ناصع البياض، و بعد عبارات الاستقبال المعهودة، لم يخف الأجانب مدى إعجابهم بشخصية السلطان ومقامه الرفيع وسرعة بديهته ورخامة صوته، وهي بلا شك الأسباب التي جعلته أكثر الشخصيات اهتماما في المغرب في ذلك الوقت. عندما حل وقت انصراف السلطان، ناداني إلى ركن في القاعة وأخبرني أن مطبخ قصره يتوفر على أحد التجهيزات التي يجهل كيفية استعمالها قبل أن يرشده طباخي الخاص إلى كيفية استخدامها، وسألني إن كنت أملك كيسا من الفحم لأنه لا يتوفر عليه ولا يود إحراق أي شيء آخر. جاء الخدم بعد ثوان حاملين معهم كيس الفحم المطلوب، نهض الضيوف الأجانب لتوديع السلطان الذي سلم عليهم ورافقته بعدها إلى الباب ليجد في انتظاره بغلة مسرجة وإلى جانبها العبيد الممسكين بلجامها. امتطى أحد ضباط القصر ببذلته البيضاء البغلة الثانية، وحاول قدر المستطاع أن يحافظ على التوازن بعد حمل الكيس على ظهر الدابة. كانت لدي دائما الرغبة في عقد الصلح بين السلطانين مولاي عبد الحفيظ ومولاي عبد العزيز لكنني لم أنجح أبدا في مسعاي. لقد نحى مولاي عبد الحفيظ شقيقه مولاي عبد العزيز عن العرش، لذا لم يكن هذا الأخير سعيدا بما قام به شقيقه في حقه. ومن جانبه لم يتوقف مولاي عبد الحفيظ عن اتهام شقيقه بتخريب المغرب مما جعل البلد يفقد استقلاله..