أقامت بعض الصحف المغربية هذه الأيام ضجة كبرى حول إبعاد فيلم «ما تريده لولا» لصاحبه نبيل عيوش من افتتاح دورة هذا العام لمهرجان الإسكندرية السينمائي الدولي، يومين بعد الإعلان رسميا عن أن المهرجان سيفتتح عروضه به. وإذا كان من حق الصحافة أن تثير الضجيج حول أي موضوع يبدو لها قادرا على جلب المزيد من القراء (في بلد يتناقص فيه هؤلاء باستمرار)، فإنه ليس من حق أحد أن يقوم بتغليط القراء عن طريق إخفاء حقائق جوهرية وتضخيم معطيات تافهة وبسيطة والقفز على الوقائع الملموسة، قصد الوصول إلى أهداف غير معلنة لا علاقة لها لا بالسينما ولا بالفن ولا بالثقافة بوجه العموم، ويجهلها معظم المساهمين في إذكاء النار هنا وهناك. على رأس الحقائق التي يتم إخفاؤها عن القارئ المغربي أن مهرجان الإسكندرية السينمائي هو مهرجان «أهلي» (بالتعبير المصري)، أي أنه غير حكومي (بخلاف مهرجان القاهرة المدعوم أساسا من قبل وزارة الثقافة المصرية)، وبالتالي فإنه من المضحك أن نعمم ونخلط بين «أهالي» مصر و« حكومتها»، مطالبين هذه الأخيرة، أو مصر بصفة عامة (كما فعل بعض «الصحافيين» مفرطي التحمس) بأن تعتذر عن تصرف هي غير مسؤولة عنه على الإطلاق؛ بل يمكننا أن نضيف، أكثر من ذلك، أن وزارة الثقافة المصرية قامت سابقا، وفي وقت من الأوقات، بدعم مهرجان الإسكندرية دعما محدودا قبل أن توقف هذا الدعم نهائيا بعد أن تبين لها ولكل المهتمين بالشأن السينمائي في مصر أن القائمين على المهرجان (وهم، بالأساس، جمعية لنقاد السينما) عاجزون تماما عن الخروج به من المشاكل التي يتخبط فيها منذ سنوات أو لا يتوفرون على رغبة حقيقية في ذلك، مما حوله من مهرجان واعد في بداياته الأولى إلى واحد من أسوأ مهرجانات السينما في العالم العربي على مستوى البرمجة والتنظيم. ولعل الواقفين وراء الضجة المثارة اليوم لا يعلمون أن احتفال مهرجان الإسكندرية بالسينما المغربية هذا العام لا يتم لأول مرة، حيث سبق له أن «احتفل» مرارا بالسينما المغربية، آخرها كانت عام 2001، حيث نظم «بانوراما» للسينما المغربية؛ ويحتفظ أعضاء الوفد الذي ذهب لتمثيل المغرب عن هذه البانوراما بذكرى «جميلة جدا» عن هذه المناسبة، حيث لم يجدوا أحدا بانتظارهم في مطار القاهرة، واضطروا لتأجير «ليموزين» (كل سيارة أجرة تقف أمام المطار يسميها أصحابها بهذا الاسم) نقلتهم على حسابهم الخاص إلى الإسكندرية؛ وعند وصولهم وجدوا أن أحد المنظمين، وبمبادرة شخصية منه، حجز لهم غرفا بفندق خارج التصنيف (بدعوى عدم وجود أمكنة شاغرة)، فهددوا جميعهم بالعودة حالا من حيث جاؤوا وإلغاء «البانوراما»، لولا أن تضامن معهم عدد كبير من الحاضرين في المهرجان (وعلى رأسهم المؤلف محفوظ عبد الرحمن)، لينقل الوفد إلى مقر إقامة باقي المدعوين معززا مكرما وتمر الأزمة بسلام، خاصة بعد اكتشاف الوفد أن الطريقة التي عومل بها لا ترجع إلى سوء النية بقدر ما ترجع إلى سوء التنظيم أو إلى انعدامه أصلا. وما حصل للوفد المغربي سوف يتكرر مع مدعوين عديدين في تلك الدورة وفي دورات لاحقة: فهذا مخرج روسي دعي إلى لجنة التحكيم وطلب منه، تسهيلا لعمل المنظمين، أن يشتري تذكرة على حسابه من موسكو إلى القاهرة على أساس أن يدفع له مبلغها بمجرد وصوله، إلا أن شيئا من ذلك لم يحصل، مما اضطره إلى التخلي عن «شغله» في لجنة التحكيم وملازمة «الآمر بالصرف» إلى أن دفع له مبلغ التذكرة، بالجنيه المصري، في آخر يوم من أيام المهرجان، وهو على أهبة المغادرة وركوب الطائرة للعودة باتجاه بلده. وهذه مجموعة من المخرجين (بينهم فرنسيون وإسبان، ومن ضمنهم المخرجة الجزائرية ياسمين الشويخ) يدعون لتقديم أفلامهم في المهرجان، وحين وصولهم إلى الإسكندرية بعد رحلة ليلية شاقة ومتعبة يفاجؤون بأن أسماءهم غير مدرجة في لوائح الفندق الذي يقيم به المدعوون، وحين يوقظ أحدهم الشخص الماسك بخيوط المهرجان (ممدوح الليثي، طبعا) يهب في وجهه قائلا إن عليهم أن ينتظروا إلى حين استيقاظ سيادته من النوم ليبت في أمر إقامتهم وما إذا كانوا مدعوين فعلا أم لا (لأنه لا يتذكر أسماءهم من ضمن المدعوين)، ومن لم يعجبه الحال فليعد من حيث أتى. ومرة أخرى كاد الأمر يتحول إلى أزمة دبلوماسية فرنسية-مصرية، حيث أصر الوفد على العودة لولا أن أحد المنظمين «غامر» بإسكانهم في الفندق تحت ضمانته الشخصية إلى حين النظر في أمرهم من قبل أولي الحل والعقد. ولعل من «أطرف» الأمور المعروفة عن المهرجان هو أن أفلامه كانت تعرض في إحدى قاعات الفندق الذي يضم المدعوين (بما في ذلك أفلام المسابقة) دون أن يكون لسكان المدينة علم بوجوده أصلا؛ وحين قرر المشرفون عليه الخروج بالأفلام من الفندق إلى إحدى قاعات المدينة، وجد المد عوون أنفسهم مضطرين لشراء التذاكر قصد مشاهدة تلك الأفلام، وهي سابقة لا يمكن العثور عليها في أي مهرجان آخر عبر العالم. وبصفة عامة فإن كل من رماه حظه إلى هذا المهرجان وشارك فيه ولو لمرة واحدة يقسم على ألا يعود إليه ثانية؛ وينطبق هذا على عدد من المخرجين المغاربة الذين ذهبوا إليه مرة ورفضوا أن يعودوا إليه فيما بعد رغم توصلهم بدعوات مغرية. والجميل أن هؤلاء المخرجين، ورغم كل ما حصل لهم، يشجعون زملاءهم على الذهاب وتكرار التجربة نفسها، تماما مثل حكاية تينك الشخصين الراغبين في التسلل إلى إحدى خيام السيرك، واللذين أدخل أحدهما رأسه تحت غطاء الخيمة متسللا ليبادره حارس بضربة جعلته يخرج رأسه واضعا كفه على فمه وحين استفسره زميله عن الأمر قال له: «طلّ، طلّ، تموت من الضحك.» وبعيدا عن الضجة التي أثيرت حول فيلم «لولا»، فإن المسألة بسيطة تماما في هذا السياق، وهي أن منظمي مهرجان الإسكندرية برمجوا الفيلم لعرضه في الافتتاح قبل أن يشاهدوه (لأن أمور عندهم تتم، عموما، بهذه الطريقة)؛ وحين تمكن بعضهم من مشاهدته اكتشفوا، وهذا صحيح تماما، أنه يقدم صورة تسيء إلى مصر، ويمكن أن نضيف أنها تسيء إلى صورة العربي بصفة عامة، فقرروا التراجع عن العرض الافتتاحي، فاضحين بذلك ارتجاليتهم وسلوكهم الهاوي اللذين يستحقون أن يلاما عليهما وليس على شيء آخر. لقد تحدث مخرج «كل ما تريده لولا» عن أن فيلمه يهدف إلى «ربط الجسور بين الشرق والغرب»، إلا أن هذا الكلام هو مجرد تعبير عن النوايا (وطريق جهنم، كما يقال، معبّد بالنوايا الحسنة)، وذلك لأن ما نكتشفه أثناء مشاهدتنا للفيلم هو العكس تماما، أي «تخريب» تلك الجسور عن طريق إعادة بناء الصورة الاستشراقية «التقليدية» عن العربي (الغدار، الشهواني...) الذي لا يؤتمن جانبه، والذي يعيش حياته متنقلا بين النساء وبين الكباريهات التي تضم راقصات بدينات في منتهى البشاعة، وكذا صورة لمجتمع متخلف يقمع حرية المرأة (طبعا هي هنا المرأة الراقصة التي نشرت الجرائد صورتها مع صديقها فطلقها زوجها «الرجعي» واعتزلت الرقص). هذا طبعا دون إغفال الجهل التام لكتاب السيناريو بالواقع العربي الذي يحاولون الكتابة عنه، إذ إن الواقع يقول في «نازلة» مماثلة ل«نازلة» تلك الراقصة، مثلا، إنه حتى وإن ضبطت هذه وشاهدها الناس في شريط حميمي خاص، فإنها تعود إلى العمل بدون أدنى مشكل، وبتسامح مطلق من قبل المجتمع (هذه هي الحقيقة التي لا تعرفها النظرة الاستشراقية أو لا تريد أن تعترف بها)؛ كما أنه من المثير مشاهدة ممثلة يفترض أنها معلمة للرقص الشرقي (اللبنانية كارمن لبّس) لا تعرف كيف ترقص أصلا، وتبدو هي التلميذة أمام الأمريكية لولا (لورا رامسي) التي تعرف أصول الرقص الشرقي أفضل منها؛ دون الحديث عن هزالة السيناريو وضعف البناء الدرامي... في النهاية، وقبل إنهاء هذه الكلمة السريعة حول الفيلم والمهرجان، لا بد من التنبيه إلى خطأ وقعت فيه عدة منابر صحافية، بل ووقع فيه حتى البيان التضامني لجمعية «الائتلاف المغربي للثقافة والفنون» الذي احتج على «سوء معاملة» مهرجان الإسكندرية ل«الفيلم المغربي ومن خلاله السينما المغربية التي تعرف تطورا ملحوظا»؛ ذلك أن فيلم «كل ما تريده لولا» ليس فيلما مغربيا، وذلك باعتراف أصحابه أنفسهم (أنظر مثلا الموقع الرئيسي لكل أفلام العالم على الإنترنيت: «ذي إنترنيت موفي داتا بايز»)؛ حيث يشير الموقع إلى أن الفيلم كندي-فرنسي، ساهمت في إنتاجه خمس شركات: سيفنث فلور الأمريكية، باطي وبي سي الفرنسيتين، وترانسفيلم الكندية، إضافة إلى أليان المغربية لصاحبها نبيل عيوش مخرج الفيلم والذي يتوفر على جنسيتين، مغربية وفرنسية؛ ومما يزيد الأمور طرافة أنه حتى الشركة المغربية المذكورة يرد في موقع «الإنترنيت موفي داتا بايز» أنها تونسية. ويعرف المهتمون بعالم الفن السابع والعاملون ضمنه في العالم كله (والمغرب ضمنه، فيما نظن) أن أي فيلم في العالم لا ينسب إلى جنسية مخرجه، بل إلى جنسية رؤوس الأموال التي تقف خلفه، لذلك لا يقال عن أفلام مخرج مثل رومان بولانسكي إنها بولونية نسبة إلى بلده الأصلي، بل يقال عنها إنها فرنسية أو أمريكية أو بريطانية... حسب جهة الإنتاج؛ الشيء نفسه ينطبق على مخرج روسي هو أندري كونتشالوفسكي الذي أخرج فيلما «أمريكيا» عام 1984 هو «عشاق ماريا» وفيلما «أمريكيا-إسرائيليا» هو «قطار الهروب» (راناواي ترين) عام 1985؛ أو المخرج اليوناني كوسطا غافراس الذي أخرج عددا لا بأس به من الأفلام «الفرنسية» و«الأمريكية»؛ كما ينطبق الأمر على المخرج الكوري الجنوبي وونغ كار واي الذي أخرج العام الماضي فيلما «أمريكيا» بعنوان «ماي بلو بيري نايتس»، فلم يصل إلى علمنا أن أحدا نسبه إلى الفيلموغرافية الكورية؛ مثلما يفعل عندنا هنا بعض الأفراد الذين يتبرعون من عندهم على «لولا» بالجنسية المغربية، رغم أن علاقة هذه بتلك لا تخرج عن «ريحة الشحمة في الشاقور.» لذلك يصح القول، وبناء على كل ما سبق، أن كل الضجة التي أثيرت حول الفيلم الفرنسي-الكندي المذكور، وحول مهرجان الإسكندرية (أسوأ مهرجان للسينما بمصر) في هذا الصيف وقبيل حلول الشهر المبارك هي مجرد «مندبة كبيرة» بينما «الميت فار». وبه وجب الإعلام والسلام.