في غمرة الجدل الدائر حول حرية الإفطار في نهار رمضان، ومطالبة البعض بإلغاء القانون الذي يجرم الإفطار في يوم الصيام، اعتبر الأستاذ الجامعي الدكتور سعيد شبار، أن الداعين إلى إطلاق الحريات في الإفطار والمعتقدات يحرصون على تحدي الجماعة في اختياراتها ونظامها وإمامتها. وشدد شبار، في مقال توصلت به هسبريس، على ضرورة التمييز بين الحالات الفردية المعزولة ذات الأعذار أو من غير أعذار، وبين المجموعات المنظمة المعلنة للتحدي"، مبرزا أن "جرأة الإشهار لا تقل شناعة عن جرأة الإفطار، بل هي أقبح" وفق تعبيره. وفيما يلي نص مقال الدكتور سعيد شبار كما وصل إلى الجريدة: كلما أهل شهر رمضان الأبرك إلا وأثيرت معه قضية الحرية بين الصوم أو الإفطار، وجر هذا الذيل معه قضية حرية المعتقد كذلك، وتم تعويم هذا النقاش في فضاء الحريات والحقوق ... تبتدئ المسألة من توهم البعض استقلالهم، في إصدار أقوال أو أفعال معينة، بمقتضى الحرية الخاصة، ولو أخل ذلك بمقتضى الحرية الجماعية أو العامة. وواضح هنا أن الأمر يتعلق أولا بفهم معين لمفهوم الحرية، وثانيا بقصور واضح في عدم إدراك نسب التداخل بين الحيز الفردي والجماعي في المفهوم. يتعلق الأمر من جهة أخرى بخلفية فكرية ليبرالية للمفهوم، يغذيها المنظور العلماني للحداثة القائم على تمجيد المتعة و اللذة والانفصال عن القيم والأخلاق، والانفلات من الضوابط و الالتزامات الجماعية .. حينما تطغى النزعة الفردانية والمتعة والاستهلاك اليومي. و حتى هذه الخلفية لا تسعف أصحاب النزعات الفردية في الحرية لأنها تحولت إلى اختيارات جماعية تضع لنفسها حدودا وقيودا، بل و قوانين زجرية للمخالفين .. إلا إذا طرقوها من أبوابها الرديئة جدا، و التي تقع على هامش الأحداث و تخص الأفراد في حياتهم الشخصية، كالشذوذ و المثلية في الزواج والحريات الجنسية.. وغيرها. وإن كانت لها بدورها تداعيات اجتماعية لا تخفى عاجلة او آجلة. فلا يسمح بتجاوز أو بانتهاك الاختيارات العلمانية الكبرى تحت مسمى "الحرية"، ولو في تناقض معها، ولو كانت مفهوما مركزيا في النظام نفسه ومكفولة بالدستور. والصراع حول " الرموز الدينية" و"المقدسات" و"حقوق الأقليات".. واضح في هذا الباب. بل يعجب المتتبع من تجريم الخوض في أحداث تاريخية فيها من الاختلاف أكثر مما فيها من الاتفاق كالتشكيك في "الإبادة النازية لليهود" أو في "إبادة الأرمن".. والمتابعة القضائية للمفكرين والباحثين فيها بما يكاد يشبه محاكم التفتيش. إن الحرية تكون دائما اختيارا فرديا ابتداء ثم تتحول بشكل تدريجي إلى اختيارات جماعية لدى من لهم نفس القناعات، ثم تتحول هذه الاختيارات إلى عناصر لحمة وانسجام بين الجماعة، بل وإلى دعائم في أمنها واستقرارها، بحيث يغدو المنتهك لها باسم حريته منتهكا لحريات غيره، ويكون مطلبه في الحرية معاكسا لمراده منها حينما يوظفها سلاحا لسلب حريات الآخرين، أو التشويش عليها. و إلا ففيم ولم وضعت القوانين والنظم والأعراف ..إذا جاز لكل فرد أن يفعل ما أراد؟ ورغم هذا وذاك تبقى للفرد حريته الخاصة باعتباره ذاتا مستقلة مسؤولة عن اختياراتها، لكنها تتقلص كلما اتسعت دائرة الشراكة والعلائق لتداخلها مع غيرها. كما يمكن القول بأنها كلما ضاقت دائرة هذه الشراكة التي هي اتفاق أو وحدة أو عقد اجتماعي، اتسعت الدائرة الفردية فيما يخصها كذات. وذلك بحسب زاوية النظر المرجحة لمصلحة الفرد أو لمصلحة الجماعة. وتبقى المواطنة حقا مكفولا للفرد وللجماعة معا في ظل القانون المعبر عن الاختيارات السيادية الكبرى، التي تعرف بها هوية المجتمع وخصوصياته الذاتية، كما يعرف بها انفتاحه وانخراطه في المنتظم العالمي والكوني. ونعتقد اختصارا أن المنظور الإسلامي هو من أعمق المنظورات في تقرير مفهوم الحرية، بعد أن لم تكن قبله في النظم الفكرية والعقائدية والسلطوية الا عسفا وإكراها، وتسيدا وعنصرية، وطبقية وفئوية .. ترفع أقواما وتذل آخرين. وذلك انطلاقا من الأصل التوحيدي المحرر من سائر الارتهانات، والمساوي بين الناس، والمُسند حق الاختيار للفرد المكلف المسؤول،مراعيا مبتدأها الفردي وانتهاءها الجماعي، وضابطا لنسب التوازن بين الطرفين.. وفي جملة: لا يستبيح المفهوم ولا يؤممه. والمفهوم مؤطر كذلك بفلسفة التكريم العامة لبني آدم،في تجريد معيار التفاضل بين الناس بجعله قيمة عليا غير قابلة للتحيز هي: "التقوى"، وبعدم الإكراه في أقدس مبدأ في حياة الإنسان وهو: "الإيمان". وبمسؤولية الفرد ذاته في الاختيار، تزكية لنفسه أو تدسية لها، وبربط عالم الشهادة بعالم الغيب مصدر الإيجاد والوجود الأول، حيث يكون لكل فعل أو قول معنى وغاية،وآثارا ومآلا فيهما معا. إن اللذين يدعون إلى إطلاق الحريات في الإفطار والمعتقدات وباقي السلوكيات، لا يكتفون بممارسة ذلك لذواتهم، إذ هو حق لهم في نطاق مسؤوليتهم الذاتية التي منحهم الشرع نفسه إياها، والتي لا حق لأحد في تتبعها أو التنقيب عنها، لكنهم يحرصون على تحدي الجماعة في اختياراتها وفي نظامها وفي إمامتها.. بإشهاره في وجهها رغم علمهم مخالفتهم لها. ينبغي التمييز هنا بين الحالات الفردية المعزولة هنا وهناك ذات الأعذار أو من غير أعذار، وبين المجموعات المنظمة المعلنة للتحدي. فجرأة الإشهار لا تقل شناعة عن جرأة الإفطار إن لم تكن أقبح، لتعلق الأخيرة بحق وحرية الفرد في عدم التدين، وتعلق الأولى بحق وحرية الجماعة في التدين. والشأن الجماعي نظام يصونه ويدبره القانون، وإلا تناسلت المطالب "الفردانية"..خارج الدين ثم داخله ممن يقومون بردود أفعال خارج القانون كذلك، وتلك مقدمات توتر اجتماعي حقيقي لا تحمد عقباه يقينا. إن المغرب قد اختار منذ قرون، وبتضحيات جسيمة، مذهبه في الفقه والعقيدة و السلوك والسياسة، ولا يستطيع الفاحص لها إلا القول بأن عناية ربانية صاحبت هذه الاختيارات التي جمعت محاسن ما تفرق في غيرها، توسطا واعتدالا، ومراعاة للتطور والمصالح، وتهذيبا للفكر والسلوك وصونا للحمة الجماعة ووحدتها .. وإن لم نصل في ذلك درجة مرضية باعتبار ما، فالعمل على الوصول إليها أولى من النقد بغير عمل. لقد غدت بذلك ثوابت عليها مدار الأمن والاستقرار والوحدة والانسجام، فهل يعقل اليوم بدعوى حرية أفراد، أن نفتح باب الاختيار في الفقه والاعتقاد و السلوك والسياسة الجامعة .. وكأن المغرب ولد للتو، ليس له تاريخ و لا تراث أو تقليد ولا هوية ..؟! لو تأمل هؤلاء ونظروا إلى ما يجري حولهم من فتن باسم الدين لا يُسمح فيها بقول أو رأي مخالف، لأدركوا أن الحرية في هذا النموذج متن وليست هامشا، ولكان نقدهم له بناء لا هدما وتقوية لا إضعافا. ولعملوا على صون اختياراته ومكتسباته،فالخروج عن حد التوسط والاعتدال لا يكون إلا إلى أحد طرفي الغلو والتشدد، سواء في الفكر الديني أو في الفكر اللاديني. كما أنهم لو تأملوا ونظروا في النماذج التي يرغبون في استيرادها والتمكين لها، لأدركوا أنها لا تبني حضارة ولا تسهم في تنمية ولا ترقي ذوقا أو سلوكا، لا علم ولا منطق ولاعقل فيها، ولم تكن قط أساسا في نهضة الغرب بل عرضا جانبيا من أعراض نهضته، يعمل الآن على تقنينه بل وتصديره، أمام عجزه التام عن علاجه لضيق نسقه، ولأنه من اللوازم العرضية للاختيار الأصل: الحداثة العلمانية الشاملة، خصم الفطرة والدين والكينونة الإنسانية. فكيف يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير؟!