«بِما أنّ كل تقدُّم في معرفةِ قوانين العالَم الاجتماعيّ يَرْفع درجةَ الضرورة المُدْرَكة، فمن الطبيعيّ أن يَجْلُب العلمُ الاجتماعيُّ على نفسه شُبهةَ "الحَتْميَّانيّة" بقدر ما يَصير مُتقدِّمًا. لكنْ، بخلاف المَظاهر، فإنّ العلم الاجتماعيّ وهو يَرفع درجةَ الضّرورة المُدْرَكة ويُعطي معرفةً فُضلى بقوانين العالَم الاجتماعيّ إنّما يَمْنح مَزيدًا من الحُريّة. فكل تقدُّمٍ في معرفةِ الضّرورة يُعَدّ تقدُّمًا في [اكتساب] الحُريّة "المُمْكِنة". وبينما يَنْطوي تجاهُلُ الضّرورة على شكلٍ من الاعتراف بالضّرورة، بلا شكّ هو الأشدّ إطلاقًا وشُمولًا بما أنّه يَجهلُ نفسَه بما هو كذلك، فإنّ معرفةَ الضّرورة لا تستلزم البتّة ضرورةَ ذلك الاعتراف؛ بل بالعكس، إنّها تَعْمَلُ على إظْهارِ إمْكانِ الاختيار المُسجَّل في كل عَلاقةٍ من نوع "إِذَا" تَوَفَّر لدينا كذا، فسنَحصُل "إِذًا" على كذا: فالحُريّةُ التي تَتمثّل في اختيارِ "إِذَا" أو رَفْضه تَكُون فاقدةً للمعنى طالما بَقِيَتْ مجهولةً العلاقةُ التي تَرْبِطُها ب"إِذًا" ما. وبيانُ القوانين التي تفترض الإباحةَ (أيْ القَبُول غير الواعي بشُروطِ تحقُّق النّتائج المُتوقَّعة) يُوسِّع مجالَ الحُريّة. إِذْ أنّ قانونًا مجهولًا يُعَدُّ طبيعةً، قَدَرًا (هذه هي حالة العَلاقة بين الرّأْسمال الثّقافيّ المَوْرُوث والنّجاح المدرسيّ)؛ في حينٍ أنّ قانونًا معروفًا يبدو كإِمكانٍ لحُريّةٍ ما.» (ﭙيير بُورديو، مسائل في علم الاجتماع، الأصل الفرنسي، 1984، ص. 44-45) «كلٌّ منّا يكتشف الدولة قبل أن يكتشف الحرية أو[،] بعبارة أدَق، تجربة الحرّية تحمل في طيّاتها تجربة الدولة[؛] لأنّ الدولة هي الوجه الموضوعي القائم[،] في حين أنّ الحرية تَطَلُّعٌ إلى شيء غير مُحقَّق. ماذا تعني التربية إذَا لم تَعْنِ مُعاناةَ سلطة الأب أو الأمّ أو الحاكم أو الخالق؟ ماذا تعني الحرية إذَا لم تَعْنِ نقيض المُعاناة المذكورة، أي الوعي بحدودٍ موضوعةٍ على التصرُّف؟» (عبد اللّه العروي، مفهوم الدولة، ط 2011، ص. 5) «[...] للإنسان [خِيارانِ] لا ثالث لهما: إمّا أن يَتعبّد للحقّ، فيَطمع في التغلُّب على الاستعباد في نفسه أو في غيره؛ وإمّا أن يَستعبده الخَلْقُ، فلا يخرج من استعباد إلّا ليَدخُل في آخر، إنْ لم يكن أسوأ منه، فهو يُساويه في السوء[.] وهكذا، فلا يمكن للإنسان أن ينال "الحرية التامة" بغير التعبُّد للحقّ، وإلّا فلا يعدو كونَه "يَتوهّمّ" أنه حُرّ؛ [...]» (طه عبد الرحمن، سؤال العمل، ص. 158) من جرّاء تَفشِّي نوعٍ من «التّضْليل» المُتواقح الذي تحترفه زُمْرةٌ من «أنصاف المُثقَّفِين» و«المُثقَّفِين الإعلاميِّين» حول «الإسلام»، ظَهَر شُبّانٌ وشّابّاتٌ صاروا يُؤْمنون بأنّ «الحُريّة» في المُجتمعات ذات الأكثريّة المُسلِمة لا يُمكن أن تكون إِلَّا مع تكريس الإعلان الدُّستوريّ ل«حُريّة المُعْتقَد والضّمير» بما يُفيد، في ظنِّهم، أنّ «الحُريّة» لن تَتحقّق واقعيًّا ما دام «الإسلامُ» يُفْرَض دُستوريًّا وقانونيّا كدينٍ للدّولة. فهل «حُريّةُ المُعْتقَد والضّمير» تتنافى مع رُوح «الإسلام/الدِّين» بما يُوجب الفَصْل الفعليّ بين «مجال الدّوْلة» (المُتصوَّر فقط كمجال عامٍّ/عُموميٍّ) و«مجال الدِّين» (المُراد حصرُه في المجال الخاصّ/الخُصوصيّ)؟ وإلى أيِّ حدٍّ يستطيع الإنسان، في الواقع المَعيش، أن يَنْقاد إلى الاعتقاد والفعل بإرادةٍ حُرَّةٍ تمامًا؟ لا شكّ أنّ الحديث عن «حُريّة المُعْتقَد والضّمير» في سياق المُجتمعات الإسلاميّة حديثٌ مُثيرٌ جدًّا، ليس لأنّه يَقُوم على إعلانِ وتأكيدِ أنّ ما يُعْتقَد ويُضْمَر يجب أن يَنْبُع من «الاختيار الحُرّ» للشّخص بعيدًا عن كُلِّ إكراهٍ؛ وإنّما لأنّه حديثٌ لا يَنْفكّ عن التَّلْميح إلى أنّ «الإسلام» دينٌ يَقْترن جوهرُه ب«الإكْراه» وأنّ «المُسلِمين» أشدُّ النّاس زُهْدًا في «الحُرِّيّة» من حيث إِنّ دينَهم يُعْرَض (ويُفْرَض) كأنّه دينٌ لا يَطْلُب منهم، بالتَّحْديد، شيئًا آخر غير «الإذْعان» و«الطّاعة» كيفما ﭐتَّفق! والحال أنّه إِذَا كان من الثّابت أنّ ما يَعْقِد الإنسانُ عليه قَلْبَه لا سبيل إلى تَغْييره مهما تَكُنْ أسبابُ الإكْراه، فإنّ «الإسلام/الدِّين» عَلَمٌ على أنّ «الوَلاء» و«الطّاعة» - في تَعْبيرهما عن إرادة المرء الحُرّة- لا شيء منهما يَحِقّ إلّا لِلّه ربِّ العالَمين ﭐبتداءً وﭐتِّباعًا؛ مِمّا يقتضي أنّ «المُسلِم» لا يكون عبدًا إِلّا للّه وحده ولا يَقبل، في سَريرةِ قَلْبه، أن تُنْتقَص حُريّتُه الأَصْليّةُ بما يُكْرِهُه على طاعةِ أحدٍ من دون اللّه. ولذا، فلا شيء أدَلّ على هذه «الحُرِّيّة الأَصْليّة» من كون الإنسان المُكْرَه يَستطيعُ أن يُضْمِر في نفسه خلافَ ما يُعْلِنُ بظاهِر أقواله وأفعاله (كما هو حال «المُنافِقين» عبر التّاريخ وفي كل المُجتمعات و، أيضا، حال «المُؤمنين» في ظلِّ نُظُم القمع والاضطهاد). وعليه، فإنّ تَرْجيعَ الحديث عن «حُرِّيّة المُعْتقَد والضّمير» - بما هو حديثٌ عن شيءٍ حاصل في كُلِّ الأحوال- يُعَدّ مُضلِّلًا تمامًا، لأنه بقدر ما يَفْترض الشُّذوذَ في حالةِ «الإسْلام/الدِّين» يُخْفِي الرّغْبةَ في شيء آخر يُرْجَى حُصولُه. وليس هذا الشّيءُ المطلوبُ، في المجتمعات ذات الأكثريّة المُسْلِمة، سوى الحقّ في إعلان «المُعْتقَد المُضْمَر» (وكلّ ما يَترتَّب عليه من عدمِ ﭐلْتزامٍ بما يَشيعُ حِفْظُه بين النّاس) سواء أكان كُفْرًا بَواحًا أَمْ شكًّا يَتَلمّس طريقَه نحو الإِلْحاد! وإنّ كونَ دساتير الدُّول الإسلاميّة والعربيّة لا تُقِرّ «حُرِّيّةَ المُعْتقَد والضّمير» ليُوفِّر ذريعةً قويّةً للتّضْليل بين أيدي كل الذين لا يستطيعون، في الواقع، أن يُعْلِنُوا مُعتقداتهم المُضْمَرة المُخالِفة لمُعتقَداتِ أكثريّة النّاس في المُجتمعات الإسلاميّة. ومن هُنا، نجد أنّ ذلك العَيْب الدُّستوريّ الصّريح يُستغَلّ سياسيًّا وإعلاميًّا للتّخْفيف من وَطْأةِ «العُنْف الرَّمْزيّ» الذي يَخْضَع له النّاسُ، عادةً، بفعل اضْطرارهم لقَبُول أو تجاهُل «نظام الأشياء والأشخاص» في مُجتمعاتهم بحيث يُحْمَلون - كما يُؤكِّد بُورديو- على النّظر إليه كما لو كان نظامًا طبيعيًّا وبديهيًّا. ينبغي، إذًا، أَلَّا يَخْفَى أنّ الحديثَ عن «حُرِّيّة المُعْتقَد والضّمير» ليس بِدْعًا من الأمر، خصوصا أنه يُؤْتى من دون استحضار مدى إشكاليّة «الحُريّة الفِعْليّة» بالنِّسبة إلى تأسيسها الذاتيّ وتحقُّقها الموضوعيّ؛ وهو ما يُؤكِّد أنه ليس سوى أحد آثار عمل «التّضْليل»، بل إنه - بصفته كذلك - ليُضاعِف هذا العمل في المدى الذي لا يَمُرّ دون اختزال مُشكلةِ «الحُريّة» بجعلها موضوعًا مطروحًا بشكل زائِف أو، بالأحرى، موضوعًا يبدو حقيقيّا على نحو زائف! ولأنّ «الحُريّة» أمرٌ جادٌّ إلى أبعدِ حدٍّ، فَلَا فائدة من المُبادَرة استعجالًا إلى التّأَفُّف من تناوُلٍ كهذا يَحْمِل كل مَظاهر الهُجوم على من يُنادِي ب«الحُريّة» من دون تحديد، بل قد يُفْهَم منه أنّه هُجومٌ على «الحُريّة» في ذاتها. وإِلَّا، فمن البديهيّ تمامًا أنّ «الحُريّة» مَطْلبُ كل عاقلٍ من النّاس وحقٌّ أساسيٌّ لكُلِّ مُواطن إلى الحدّ الذي يَجعلُ تَأْكيدَ هذا الأمر من نافل القول. غير أنّ التَّفْكير المُراد القيام به لا يبدأ ما لم يُدْرَكْ أنّ ذلك التّأْكيد ليس معناه أنّ «الحُريّة» موضوعٌ مفروغٌ منه كما لو كانت، في الواقع الفعليّ، خاصيّةً جوهريّةً مُلازِمة لذاتِ كل فرد من النّاس أو مِلْكًا غير قابلٍ لأيِّ تصرُّف سالِبٍ أو ضارٍّ. وفقط حينما يُدرَكُ هذا، سيُصار إلى مُواجَهةِ المُشكلة الحقيقيّة للحُريّة التي لا يَكفي فيها الإعلانُ عمّا شاعتْ تسميتُه حديثًا ب«حُريّة المُعْتقَد والضّمير» التي أصبح من المُتعارَف عالميًّا أنّها حقٌّ أساسيٌّ من «حُقوق الإنسان». فقبل الحديث عن «حُريّة المُعتقَد والضّمير» كما لو كانت مبدأَ «الحُريّة الفِعْليّة»، ينبغي التّساؤُل عمّا يَمْلِكُه كُلُّ إنسان ﭐبْتداءً: هل أَنْتَ حُرٌّ في أن تَنْوَجِدَ ضمن هذا العالَم؟ هل، حَقًّا، لك من «الحُرِّيّة» ما يَجعلُك تَتَولَّد كما تشاء؟ هل لك من «الحُرِّيّة» ما يَجْعلُك تُعطي لنفسك «الجسد» و«الذِّهْن» الذي تُريد؟ وهل بأَمْرك الحُرّ تختار أبَوَيْك وجنسَك وبلدَك وزمنَك وﭐسْمَك ولسانَك؟ أمْ أنّك في كلّ هذا مُكْرَهٌ ومُجْبَرٌ ضمن كل «الشُّروط الضروريّة» التي تُحدِّد وُجودَك وتَحْكُم فِعْلَك بالنِّسبة إلى عالَمٍ مشروط طبيعيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا وتاريخيًّا ومُتعيِّن كإطار مُؤسَّسيّ وقانونيّ فيما صار يُسمّى «الدّولة»؟ وعليه، فهل إعلانُ «حُرِّيّة المُعْتقَد والضّمير» يَحُلّ مُشكلةَ «الحُرِّيّة» بما هي مُشكلةٌ لا يَنْفكّ فيها البُعد «الوُجوديّ» عن الأبعاد «المعرفيّة» و«الأخلاقيّة» و«السِّياسيّة»؟ إنّ وُجود «الضّرورة» في أكبر جُزءٍ من حياة الإنسان لا يُوجب فقط إعادة النّظر في التّصوُّر الشّائع ل«الحُرِّيّة» الذي يَجعلُها تبدو كما لو كانت بمثابةِ «انتفاء لكل القُيود والشُّروط»، بل يَستلزمُ إدْراكَ أنّ مُعْضلةَ «الحُرِّيّة» في ارتباطها ب«الضرورة» الطبيعيّة والاجتماعيّة لا تَقْبَلُ الفصلَ أبدًا عن «الغَيْب»؛ من حيث إِنّه لا يُمكن تصوُّرُ «التّعالِي» على «الشُّروط الضروريّة» المُحدِّدة لوُجود الإنسان في هذا العالَم إِلَّا بصفته مخلوقًا لبارئٍ حكيمٍ ورحيمٍ، وأيضًا من حيث إِنّ الاكتفاءَ بتأكيد مُقتضيات «الوَضْع البَشَريّ» يَجعلُ فَهْمَ وتَفْسيرَ «فاعليّة الإنسان» مُحدَّدَيْن بالنِّسبة إلى إمكاناتِ «التَّوْضيع» التي تبقى مشروطةً طبيعيًّا واجتماعيًّا وتاريخيًّا بما يَمْتنعُ معه التَّأْسيسُ القَبْليُّ ل«الحُريّة» إلَّا باعتبار واقع «الضرورة الاجتماعيّة» الذي لا تَعُود «الحُرِّيّةُ» مُمْكِنةً بالنِّسبة إليه إِلَّا تَفْعيلًا وتَمْكينًا «بَعْدِيَّيْنِ» تَسمحُ بهما معرفتُنا الموضوعيّة بحقيقةِ ﭐشْتغال تلك «الضّرورة». ومن المُؤْسف أنّ الذين يَبتهجون ب«حُريّة المُعتقَد والضّمير» ما هُمْ إلَّا ضحايا تصوُّرٍ يَظنُّون بمُوجبه أنّ الإنسان مُنْفَكٌّ، فيما يَعتقد ويُضْمِر، عن كل «الشُّروط الضروريّة» المُحدِّدة في الواقع لوُجوده وفعله. وبِما أنّهم يَأْبَوْن إلَّا تأكيد غَفْلتهم عن التّلازُم بين «الحُريّة» و«الضرورة»، فإنّهم باعتقادهم أنّ قَبُول «الإسلام» يَتعارض مع «حُريّة المُعتقَد والضّمير» يُثْبِتُون أنّهم لا يَفِرُّون من «الخُضوع الطَّوْعيّ» في الدِّين إلَّا لنفي «الخُضوع الاضطراريّ» الثّابت ضمن الوُجود والفعل بالنِّسبة إلى مُختلف شُروط هذا العالَم الضروريّة. وإذَا ثَبَت أنّه ليس مُمْكنًا تحقُّق «الحُريّة» إنسانيًّا إلَّا بالنِّسبة إلى شُروط «الضّرورة» على النّحو الذي يَجعلُ الأمر يَتعلَّق ب«تحرير/تحرُّر» يُؤْتَى بقدر ما يُبْنَى موضوعيًّا ومُؤسَّسيًّا من أسباب «التَّمْكين/التَّمكُّن»، فإنّ الحديث عن «حُريّة المُعتقَد والضّمير» لا يبقى له معنى إلَّا في صلته بمجموع «حُقوق الإنسان» منظورًا إليها ك«اشتراك مَدَنيّ يُستكْمَل باستمرار» في مُختلف القُدرات والكفاءات الكفيلة بتحقُّق «الإنسان» بصفته فردًا ضمن مجتمع «المُواطنين الأحرار والمُتساوِين». ومن البيِّن أنّه لا شيء من ذلك يُمكن أن يكون إلَّا على أساس عملٍ جماعيّ يَصيرُ فيه «التَّنْوير» قرينَ «التَّحْرير» بما يُوجب تَوْفيرَ ونَشْرَ كُلِّ الأسباب والوسائل المُمكِّنة ل«الحياة الطيِّبة» كتعبير ذاتيّ يُفعِّل الإمكانات الموضوعيّة في التَّمْييز الواعي والاختيار الإراديّ. وهكذا، ف«حُريّة المُعتقَد والضّمير» رهينةٌ باشتغال مَجالات إنتاج وتوزيع «الحُظوظ الموضوعيّة» المُمَكِّنة لمُختلِف «الآمال الذاتيّة»، تمامًا كما يُمْكن أن يَسمح به القيام العُموميّ والمُؤسَّسيّ لكل مَرَافق «التَّغْذية» و«التَّرْبيَة» و«التَّعْليم» و«التَّشْغيل» و«الإسكان» و«التَّطْبيب» و«الإعلام» و«التَّرْفيه» في إطار سيرورةٍ عامّة ودائمة ل«التَّرْشيد» الذي يصير، بالتّالي، مُحدَّدًا بما هو عملٌ مُترابطٌ بنيويًّا ومُتكاملٌ وظيفيًّا من أجل التّحقُّق الموضوعيّ لأسباب «المعقوليّة» وشُروط «المسؤوليّة». لكنّ المُفارَقةَ أنّ رَبْط «الحُريّة» بنوع من «التَّنْوير» و«التَّحْرير» اللَّذين لا يَحصُلان إِلَّا بالنِّسبة إلى ذلك «التَّمْكين» المشروط تاريخيًّا واجتماعيًّا يَجعلُها أشبه بتشريع أو تبرير ل«الخُضوع الاضطراريّ» الذي يُعاش ك«سَيْر عاديّ وطبيعيّ» والذي يُراد له أن يُمْتثَل ك«خُضوع طَوْعيّ» في إطار مُجتمعاتٍ صارتْ تتحدّد كاستئناس ل«أشكال العُبوديّة المَدَنيّة» المُرتبطة بالوُجود والفعل ضمن شُروط هذا «العالَم الدُّنْيويّ»، وهو استئناسٌ ناتجٌ عن اشتغال آليّات «التَّدْهير/التَّدْنِيَة» التي ما فَتِئ مُفكِّرون مُعاصرون يُلَطِّفونها تحت ﭐسم «الخُروج عن الدِّين»! ما أكبر، إذًا، وَهْمَ الذين صدَّقوا أنّ إعلان «حُريّة المُعتقَد والضّمير» يُنْجِزُ مَطْلَبَ «الحُريّة» ويَحْسِمُ إشكالَها؛ بل ما أعظم انخداع الذين أُقْنِعوا بأنّ «حُريّة المُعتقَد والضّمير» لا تكون إِلَّا إذَا فُصِلَ «الدِّينُ» عن «الدّولة» بما يُفيد عندهم وُجوب عدم النّص في الدُّستور على أنّ «الإسلام دين الدّولة». ذلك بأنّ إعلانَ «حُريّة المُعتقَد والضّمير» لا يُوهِمُنا فقط بأنّ «الدّولةَ» - كمُؤسَّسات وسُلطات عُموميّة- يُمْكنُها أن تكون مُحايدةً عَقَديًّا وخُلقيًّا إذَا أصبحتْ مُلْزَمةً قانونيًّا بضمان واحترام كل مُقتضيَات «حُريّة المُعتقَد والضّمير»، وإنّما يُوهِمُنا أيضًا بأنّ ذلك الإعلان لا شيء فيه من «الاعتقاد الدِّينيّ» وبأنّه لا شيء من المُعتقَدات يُمكن أن يُفْرَض – بالخصوص تعليميًّا وإعلاميًّا- في إطار ما يُسمّى «الدَّولة العَلْمانيّة». والحالُ أنّ هذَين الوَهْمين يُمثِّلان التّجلِّي الفاضح لعمل «التَّضْليل» كما يتعاطاه مُحترفُو الخطاب بين «أنصاف المُثقّفِين» و«المُثقّفِين الإعلاميِّين» الذين لا يُعبِّرون بتفرُّغهم المُغْرِض إِلَّا عن آثار «التَّفْريغ المُعَلَّب» لسياسةٍ عَلْمانيّةٍ تُعيدُ إنتاجَ أشكال «السَّيْطرة الاجتماعيّة» بﭑسم ما يُزْعَم ل«الدّوْلة» من حياد عَقَديّ وخُلُقيّ. وحينما نصلُ إلى هذه النّقطة، فلا بُدّ أن نقف عند كون الذين يَدْعُون إلى «حُريّة المُعتقَد والضّمير» - في إطار النِّضال من أجل «حقوق الإنسان»- إنّما يُمارسون تضليلًا منهجيًّا يُزيِّف الوعي ويَعُوق التّحرُّر، لأنّهم يَنْقُلون ولا يَنْقُدون فتراهُم يَعْرِضون بابتهاج ما يَظنُّونه عينَ «التَّنْوير» غافلين تمامًا عن أنّ ارتهانَهم للتَّقْليد بﭑسم «الحداثة» يبدو كأنّه يُغْنِيهم عن النُّهوض بما يُقيمُ العمل اجتهادًا مُجدِّدًا وتنويرًا مُحرِّرًا! وفيما وراء ذلك، فإنّ حِرْصَ أدعياء «العَلْمانيّة» بيننا على الدّعوة إلى «حُريّة المُعتقَد والضّمير» لا يَأْتي من رُسوخ إيمانهم ب«حُقوق الإنسان» في تأكيدها ل«أَصالة الإنسان» بما هو عاملٌ مُتعقِّلٌ ومُكَلَّفٌ مسؤولٌ، وإنّما يَأْتي من كونهم لا يَجدون سبيلًا آخر للتّغلُّب على ضُعفهم العَدَديّ في مُجتمعات أكثريّتُها من المُسلمين الذين يُمثِّلُون السّند الأقوى لجماعات «الإسلاميِّين» وأحزابهم. فلا مَناص، بالتّالي، لأدعياء «العَلْمانيّة» من رفع شعار «حُرِّيّة المُعتقَد والضّمير» حتّى يَتأَتّى لهم تَبْريرُ وَضْعهم بصفتهم أُناسًا لا يُؤْمنون ب«الدِّين» إِلَّا كأَمْرٍ شخصيٍّ أو يُنْكرون أَمْرَ «الدِّين» بإِطلاقٍ ذاهِبِين إلى نَفْيِ «الأُلوهيّة» و«النُّبوّة» و«الحياة الآخرة». ولهذا، فضمانُ «حُرِّيّة المُعتقَد والضّمير» يُحقِّق مصلحةَ أدعياء «العَلْمانيّة» مُضاعَفةً: لأنّه يَفْرِض على «الدّوْلة» حمايتَهم من أيِّ خطرٍ مُحتمَل للقتل أو الاضطهاد (في مُجتمَعٍ يُهَوَّلُ، باستمرارٍ، تعصُّبُه وعدمُ تسامُحه!)، ولأنّه يُمَكِّنهم من تَكْثير عددهم بما يُعْطيهم فُرْصةً للظُّهور العُموميّ والمُنافَسة على مَناصب تدبير «الشّأْن العامّ» كما تسمح به الانتخابات. ولكنْ، هُناك ما هو أشدُّ وأَدهى في الدّعوة إلى «حُريّة المُعتقَد والضّمير» كما يَحْرِص عليها أدعياءُ «العَلْمانيّة» وحُلفاؤُهم من الأطراف الأجنبيّة، إنّه العمل على «التَّعْديد» بَدلًا من «التَّوْحيد» بالشّكل الذي يجعل «حُريّة المُعْتقَد والضّمير» تُمثِّل، في ظنِّهم، خيرَ تعبيرٍ عن مبدإِ «التّعدُّديّة». ولهذا نجد أدعياءَ «العَلْمانيّة» لا يَتردّدُون عن مُحاوَلة تَعْقيلِ فكرة «تَعْديد الآلهة» وتفضيلها على فكرة «تَوْحيد اللّه» التي هي رُكْنٌ أساسيٌّ في «الإسلام/الدِّين». غير أنّهم يَنْسَوْنَ أَنّ ظاهرَ «الحُرِّيّة» المُتجلِّي من وراء فكرةِ «تَعْديد الآلهة» ليس سوى إخفاء لواقع «تعدُّد العُبوديّة» الذي يُراد تَشْريعُه بﭑسم الحقّ في اختيار «المُعتقَد» و«المعبود»، إذْ أنّ من يَرْفُض العُبوديّة لِلّه وحده مُضْطرٌّ لا مَحالة إلى الوُقوع في أنواعٍ من «العُبوديّة» بالخضوع لأربابٍ من دُون اللّه (أبرزُها «الهَوَى» تشهِّيًا أو تَسَيُّبًا و«العقل» تحكُّمًا أو تسيُّدًا و، بالخصوص، «المجتمع» و«التاريخ» بصفتهما العامِلَيْن الأساسيَّيْن في سَيْرُورة ابْتناءِ «الأهواء» و«الآراء»). وهكذا، فالقولُ بمعقوليّةِ «تَعْديد الآلهة» إنّما يُعبِّر - بما هو قَبُولُ إمْكان اشْتراك مُتعدِّدين في «الأُلوهيّة»- عن «تَشْتيتِ السُّبُل» بما يُبْعِدُ عن التَّحقُّق ب«الحُريّة» خُروجًا من «الشِّرْك» ودُخولًا في العُبوديّةِ لِلّه وحده بما هو «ربُّ العالَمين» و«المعبود بحقٍّ» (نفي «الأُلوهيّة» عن كُلِّ الأرباب الزّائفة وإثْباتها ل«اللّه» رَبًّا واحدًا ومعبودًا بلا شريكٍ هو عينُ «التَّوْحيد» الذي مُقتضاهُ خَوْضُ عمل «المُجاهَدة» كتجربةٍ حَيّةٍ تَستغرقُ عُمر المرء كُلِّه سَعْيًا في مَدارجِ «التّزَكِّي» تَنْزيهًا للخالق المعبود وتَخْليقًا للعبد العامل). وينبغي، من ثَمّ، أَلَّا يَخفى أنّ تَشْجيعَ أدعياءِ «العَلْمانيّة» لحركاتِ «التَّنْصير» و«التَّشْييع» و«التَّغْريب» يَأْتي نتيجةً لذلك التَّفْضيل، إِذْ أنّ أكثريّةَ المُسلمين السُّنّة لا يُمكنُ التّغلُّبُ عليها إِلَّا بتَعْديدِ الجماعات المُعارِضة سواء أكانتْ بﭑسم دينٍ آخر قائمٍ على «التَّثْليث» أو بﭑسم مذهب آخر يَتواصلُ فيه «الشِّرْكُ» كإمامةٍ معصومة أو بﭑسم «الحداثة» مُتصوَّرة كفَتْحٍ لإمكاناتِ «الإبْداع/الإحْداث» تَأَلُّهًا وتَسيُّبًا! ومن أجل ذلك كلِّه، فإنّ التَّرْكيز على «حُريّة المُعتقَد والضّمير» وإغفال مدى إشكاليّتها وتجريديّتها يُعَدّ من «التّضْليل» الذي لا يَمُتّ بصلةٍ إلى «التَّنْوير» ولا يَسمحُ قطعًا ب«التَّحْرير». فلا معنى لشعار «حُريّة المُعتقَد والضّمير» في ظلِّ واقعٍ قائمٍ على تَسْخير كل المَوارد الماديّة والخَيْرات الرّمْزيّة لاستعباد النّاس إمّا في اتِّجاه «تسلُّفٍ إسلامانيّ» وإمّا في اتِّجاه «تَسيُّبٍ عَلْمانيّ». ولذَا، ليس غريبًا أن يكون أصحابُ هذين التوجُّهين أكثر من يَعملُ، في واقعِ مُجتمعاتِ المُسلمِين، على جعل «الإسلام» يبدو مُتعارِضًا مع «حُريّة المُعتقَد والضّمير». وإجمالًا، فإنّ من يُصِرّ على النَّظر إلى «الإسلام» كدينٍ يَتنافى مع مَطْلَب «الحُريّة» واقعٌ في واحدٍ من مُحالَيْن: إِمّا القول بأنّ «الإسلام/الدِّين»، في قيامه على «التّكْليف» و«الحساب»، يُوجب الإيمان بإرادةٍ عُلْيا تُكْرِهُ النّاس على الوُجود والفعل بكيفيّةٍ مُحدَّدةٍ حَتْمًا بما يَستلزم بُطْلانَ «التَّكْليف» و«الحساب» والقول، من ثَمّ، بمعقوليّةِ «الكُفْر» و«الفُسوق»؛ وإِمّا القول بأنّ العملَ ب«الإسلام/الدِّين» لا يَتِمّ إِلَّا بالتّخلِّي عن «الحُريّة» فِعْلًا أو تَرْكًا بلا اختيار. وأنّى لمن غاب عنه إدْراكُ هذين المُحالَيْن أنْ يَنْتبه إلى مُحالٍ ثالثٍ يَستلزمُه القولُ بأنّ «حُريّة المُعتقَد والضّمير» حقٌّ طبيعيٌّ للإنسان منظورًا إليه ككائن بِلَا إلاهٍ أو ككائن ليس بِإِلاهٍ. ولا يَبْعُد أن يكون الغافلُ عن تلك المُحَالَات الثّلاثة أَحدَ ﭐثْنين: شخصٌ بلا عقل أو ﭐمْرُؤٌ منقوصُ العقل. ومن كان هذا حالَه، فلن يجد ضَيْرًا في تَرْديدِ أنّ «الحُريّة» و«الإسلام» ضِدَّان! ولن يُطْلَب من مثل هذا الشّخص أن يُدْرِك أن التّحقُّق بكامل «الحُريّة» لا سبيل إليه من دون التّحقُّق ب«الإسلام» بصفته السعي من أجل إسلام الوَجْه قَصْدًا وعَمَلًا لربِّ العالَمِين بما يَكْفُل الخُروجَ من كُلِّ عُبوديّةٍ زائفةٍ والاستقامة على التّعبُّد للمعبود الحقِّ وحده تزكِّيًا مُخَلِّقًا وتخلُّصًا مُحَرِّرًا. هو ذَا هَمُّ المُسلِمين العامِلين حقًّا بالإسلام سبيلًا للتَّنْوير والتَّحْرير، بعيدًا عن حُلْمِ «العَلْمانيِّين» وطُوبَى «الإسلامانيِّين» على سواء!