«ولو شاء ربُّك، لجعل الناس أُمّةً واحدةً. ولا يزالون مُختلفين، إلّا من رَحِم ربك ؛ ولذلك خََلَقهُم! وتَمَّتْ كلمةُ ربِّك لَأَمْلأنَّ جهنّم من الجِنّة والناس أجمعين!» (هود: 118-119) «ولو شاء اللّهُ، لجَعَلَكُم أُمّةً واحدةً. ولكنْ، يُضلُّ من يشاء ويَهدي من يشاء. ولَتُسأَلُنّ عمّا كُنتم تعملون!» (النّحل: 93) «ولو شاء ربُّكَ، لآمن من في الأرض كُلُّهم جميعا. أفأنتَ تُكرهُ الناس حتّى يكونوا مُؤمنين؟!» (يونس: 92) الظاهر أنّ الذين لهم مُشكلة مع "الدِّين" كُلِّه ليسوا هُم وحدهم مَنْ يَظنّون أنّ "الإسلام" قائمٌ ضدّ «حُريّة المُعتقَد والضمير»، بل هناك كثير من المُسلمين - المُجهَّلين والمُضلَّلين من طرف بعض أدعياء الفقه- يعتقدون، هُم أيضا، أنّ إقرار ذلك الحقّ دُستوريّا معناه تشريعُ الحقّ في "الإباحيّة" و"الردّة". فهل، حقّا، «الإسلام/الدِّين» لا يَقبل «حُريّة المُعتقَد والضمير» أمْ أنّ الأمر يَتعلّق، في الواقع، بسُوء نيّةٍ أو بإساءةِ فَهْمٍ لدى بعض الناس مِمّن لهم مصلحة فعليّة في اعتباره كذلك؟ من المُسلَّم، الآن، أنّ «حُريّة المُعتقَد والضمير» تُعَدُّ أحدَ أهمّ «حُقوق الإنسان» في ظِلِّ مُجتمعاتٍ ما فتئت تفقد وحدتها العَقَديّة والمذهبيّة (ورُبّما فَقَدتها إلى الأبد). ويُفهَم من هذا الحقّ أنّ كل إنسان حرٌّ في أن يعتقد ما شاء أو ألّا يعتقد أيّ شيء، بعيدا عن أيّ إكراه أو تضييق. كما يُفهم من منطوق «حريّة المُعتقَد والضمير» أنّ أيّ إنسان له الحقّ في أن يُمارس دينَه أو مُعتقَده علانيّةً في ظلّ حماية القانون والدولة، بحيث يجب ألّا يَتعرّض لأيِّ تمييز أو اضطهاد. فهل «حُريّةُ المُعتقَد والضمير»، بهذا المعنى، تتنافى مع صريح أُصول «الإسلام/الدِّين»؟ إنّ كل من له أدنى اطِّلاع على «القُرآن الكريم»، بصفته النّص المُؤسِّس والمُقدَّس في «الإسلام/الدِّين»، يَعرف أنّه كتابٌ يَتضمَّن نُصوصا مُحْكَمةً وقطعيّةً تُعبِّر دون لَبْس عن فحوى «حُريّة المُعتقَد والضمير»: فآيةُ «لا إكراه في الدِّين، قد تَبيّن الرُّشدُ من الغيّ، [...]» (البقرة: 256) تَنُصّ – من خلال أداةِ "لا" التي تُعرَف في نحو «لسان العرب» بأنّها «نافيةٌ للجنس»- على نفي أيِّ نوع من أنواع "الإكراه" في "الدِّين"، فهي صيغةٌ عامّةٌ ومُطلَقةٌ ؛ وكذلك آيةُ «ولو شاء ربُّك، لآمن من في الأرض كُلُّهم جميعا. أفَأنتَ تُكْرِهُ الناسَ حتّى يكونوا مُؤمنين؟!» (يونس: 99) فيها استنكارٌ واضح لفعلِ من تُحدِّثه نفسُه بأن يُكْره الناس على "الإيمان" بما يعتقده أو يراه حقّا ؛ وأيضا آيةُ «فَذكِّرْ، إنّما أنتَ مُذكِّر؛ لستَ عليهم بمُسيطر!» (الغاشية: 22) فيها حَصْرٌ لوظيفةِ النبيّ/الرسول في الدّعوة والتّذْكير دون الطمع في "السيطرة" على الناس. وأكثر من هذا، فإنّ آيةَ «وقُلِ: "الحقُّ من ربِّكم"، فمن شاء فليُؤمنْ، ومن شاء فليَكفُرْ.» (الكهف: 29) وآيةُ «إنّ هذه تذكرةٌ، فمن شاء اتّخذ إلى ربّه سبيلا.» ([المُزَّمِّل: 19] و[الإنسان: 29]) وآيةُ «إنْ هو إلّا ذكرٌ للعالَمين، لِمَنْ شاء منكم أن يستقيم.» (التّكْوير: 28) وآيةُ «ولو شاء اللّهُ ما أشركوا. وما جعلناك عليهم حفيظا، وما أنت عليهم بوكيل!» (الأنعام: 107) وآيةُ «إنّا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق. فمن اهتدى، فلنفسه ؛ ومن ضَلَّ، فإنّما يَضلّ عليها. وما أنت عليهم بوكيل!» (الزُّمَر: 41) كُلُّها بيِّناتٌ من الذِّكْر لا تدع فُسحةً أمام قارئ "القُرآن" للتردُّد في تأكيد أنّ "الإيمان" شأنٌ فرديّ واختيارٌ شخصيّ يبقى حالُه بين مَشيئةِ العبد ومَشيئة ربّه ولا دَخَل لأحدٍ آخر به إلّا تذكيرا بالتي هي أحسن. ولهذا السبب حُرِّم الإسراع إلى "التّكْفير" تماما كما حُرِّم السعيُ وراء أسرار الناس وعُيوبهم غِيبةً أو نميمةً أو تجسُّسا. تلك هي رُوح «الإسلام/الدِّين» كما تتجلّى في نُصوصه المُحْكَمة التي لا تقبل تأويلا مُتكلَّفا ولا تقييدا مُخِلًّا. لكنّ "المُبْطلِين"، في ظلّ عجزهم عن استنباتٍ استدباريٍّ ل«مَحاكم التّفتيش» في الواقع التاريخيّ للإسلام، سيُبادرون إلى الاعتراض بأمرين: أوّلُهما أنّ مبدأ «لا إكراه في الدِّين» مبدأٌ نظريٌّ وعامٌّ لم يَكُنْ له أثرٌ حقيقيّ في حياة المُسلمين وتاريخهم (كأنّ المبدأ، عموما، يجب أن يكون تفصيليّا ومُنتصبا، من تلقاء نفسه، يَمشي في الواقع على قدمين!)، وأنّ ثمة آيات وأحاديث أُخرى تُقيِّد هذا المبدأ أو تَنْقُضه (مثلا آيةُ «فإذَا ٱنسلخ الأشْهُر الحُرُم، فٱقتلوا المُشركين حيث وجدْتُموهم وخُذوهم واحْصُروهم واقْعُدوا لهم كل مَرْصد ؛ فإنْ تابوا وأقاموا الصلاة وآتَوْا الزكاة، فخَلُّوا سبيلَهم. إنّ اللّهَ غفور رحيم.» [التوبة: 5]، وحديثُ «من بَدَّل دينَه، فٱقْتُلوه» [صحيح البُخاري: حديث 3017 و6922]). والحالُ أنّ هذا الاعتراض لا يَستقيمُ أبدًا. ذلك بأنّ الثابت تاريخيّا هو أنّ "الرسول" (صلى اللّهُ عليه وسلَّم) بقي، منذ أن أُمر بإعلان الدّعوة، يُبلِّغ رسالةَ "الإسلام" للنّاس مُرغِّبا وناصحا لهم طوال ثلاثة عشر عاما، فأُوذي وحُوصر وشُهِّر به إلى أن اضْطُرَّ هو وأصحابُه إلى الهجرة إلى الحبشة، ثُمّ إلى "يثرب" فرارا بدينهم ؛ وفقط بعد هذا الظُّلْم كُلِّه أُذِنَ للمُسلمين في القتال دفاعا عن أنفسهم وأموالهم ودينهم («أُذِنَ للّذين يُقاتَلُون بأنّهم ظُلِموا، وإنّ اللّه على نصرهم لقديرٌ ؛ الذين أُخْرِجوا من ديارهم بغير حقٍّ إلّا أن يَقولوا "ربُّنا اللّهُ". ولولا دَفْعُ اللّهِ الناسَ بعضَهم ببعض، لهُدِمت صوامعُ وبِيَعٌ وصلوات ومساجد يُذْكر فيها اسمُ اللّه كثيرا. وليَنْصُرنَّ اللّهُ من يَنْصُره، إنّ اللّه لَقَوِيٌّ عزيزٌ.» [39-40]). ولهذا، فإنّ من يَزعُم أنّ "الإسلام" قام منذ الأصل على السيف يُسْقِط المبدأ المُقوِّم له (كونه دعوةً بالرِّفق وبالتي هي أحسن) ولا يُبقي منه إلّا الاستثناء (اللُّجوء إلى القتال دَفْعًا للظُّلْم ورَدًّا على العُدْوان). وهذا دَأْبُ من يَبتغونها عوجا الذين لا يُرضيهم إلّا أن يكون "الإسلام" دينَ عُنفٍ واسترهاب (وهو ما ظَلّ يُردِّده كثيرٌ من المُستشرقين وتلاميذهم)! فأمّا آيةُ سُورة "التَّوْبة"، فقراءتها في سياقها كافيةٌ لكل ذي لُبٍّ ليَستبين أنّ الأمر بقتل المُشركين والكُفّار ليس عامّا كأنّه مبدأٌ أو أصلٌ في «الإسلام/الدِّين»، وإنّما هو حُكْمٌ خاصّ بأُولئك الذين لا يَحترمون عُهودهم ولا يَتردّدُون عن مُحارَبة "الإسلام" و"المُسلمين"، وشاهدُه المُبين وُرودُ الاستثناء مُكرَّرا بالنِّسبة للمُعاهَدِين («إلّا الذين عاهدتُم من المُشركين» [التوبة: 4] و«إلّا الذين عاهدتُهم عند المسجد الحرام...» [التوبة: 7]) وتأكيدُ أنّه يجب أن يُخلَّى سبيلُهم طالما حَفِظوا عُهودَهم ولم يُظاهروا على مُحارَبة المُسلمين («فما استقاموا لكم، فاستقيموا لهم ؛ إنّ اللّه يُحبّ المُتّقين.» [التوبة: 7]). وأمّا حديثُ «من بَدَّل دينَه، فٱقْتُلوه»، فمحكومٌ أوّلا بالأصل العامّ، ثُمّ إنّه مردودٌ إلى المُمارَسة الفعليّة التي تُثبِتُ أنّ الرسول (صلّى اللّهُ عليه وسلّم) لم يَقتُلْ مُنافقا قطّ ؛ فضلا عن أنّ «تبديل الدِّين» لا يَنْحصرُ في تغيير المُعتقَد، بل قد يَشمل تغيير "الولاء" و"الطّاعة" (يَنسى كثيرون أنّ هذا – أيْ "الولاء" و"الطاعة"- من معاني "الدِّين" الأساسيّة!). فهو، إذًا، حديثٌ لا يَنْقُض الأصل المُحْكَم ولا يُشرِّع إطلاقا قتل من يَخْرُج من "الإسلام" إلى دينٍ آخر غيره، وإنّما يَنُصّ على قتل "المُرتّد" الخائن لجماعته والمُحارِب المُتعاوِن مع العدوّ. ولقد عزّ "الإسلام" دينا عالميّا منذ قرون، فلا يُعْتدُّ ببضعة آحادٍ أو عشرات مِمّنْ يُمْكنهم أن يَكفُروا به فيَنتقلون إلى الإيمان بغيره («من يَرتَدَّ منكم عن دينه، فسوف يَأتي اللّهُ بقوم يُحبُّهم ويُحبُّونه، أذِلَّةٍ على المُؤمنين، أعزّةٍ على الكافرين!» [المائدة: 54]). ومن ثَمّ، فإنّ المُسلِمَ العالِم بدينه لا يَمْلك أن يُنْكر «حُريّة المُعتقَد والضمير»، لأنّ ربّ العالمين لم يُكْرِهْ أصلا عبادَه على "الإيمان" به، بل بَعث فيهم الأنبياء والرُّسل مُبشِّرين ومُنْذِرين، وجعل خاتمهم مُحمّدا رسولا مُصدِّقا لمن خلا قبله من الرُّسل ومُصطفًى بصفته «نبيَّ الرحمة» للعالَمين جميعا («وما أرسلناك إلّا كافّةً للنّاس بشيرا ونذيرا.» [سبإ: 28] ؛ «وما أرسلناك إلّا رحمةً للعالَمين!» [الأنبياء: 107]). فالناس، إذًا، قد خيَّرهم ربُّهم وتركهم يَكْدَحون كَدْحًا إلى يومِ لقائه، فلا يَحقّ إطلاقا لأحدٍ من دُون اللّه أن يَستعبدهم فيُلزمهم بما لم يُلْزمهم به ربُّهم سبحانه («قال: "يا قومِ، أرأيْتُم إنْ كنتُ على بيِّنةٍ من ربِّي وآتاني رحمةً من عنده فعَمِيَتْ عليكم، أَنُلْزمُكُمُوها وأنتم لها كارهون؟!» [هود: 28]). وعليه، فإنّ «حُريّةَ المُعتقَد والضمير» أصلٌ مُقوِّم في دين "الإسلام" لا سبيل إلى إخفائه أو التّلاعُب به بحسب الحاجة. وإلّا، فإنّ نفيَه يُؤدِّي إلى إبطال "الإسلام" نفسه الذي لا سبيل إلى قيامه، في الواقع، إلّا على أساس أنّ الناس مَدْعُوُّون إلى الاختيار بإرادتهم بين الحقّ والباطل. وبالتالي، فإنّه لا يَصحّ في منطق الشرع أن يكون المرءُ حُرّا في الدخول إلى "الإسلام" وألّا يبقى كذلك إذَا شاء الخروج منه فيما بعد، وهو ما يُؤكِّد أنّ الإفتاء حديثا بقتل المُرتدّ أقربُ إلى التِّيه منه إلى الفقه! ولأنّ "المُبطلين" لا يَلتفتون عادةً إلّا إلى ما استقرّ داخل أنفسهم، فإنّهم سيَمُرّون سريعا على تأكيد أنّ ذلك الأمر قائمٌ في «الإسلام/الدِّين» بما هو نُصوصٌ مُحكَمة ومُمارَسةٌ نبويّة نموذجيّة. ولن تراهُم إلّا مُنزلقين نحو الحديث عن «الإسلام/التديُّن» في ارتباطه أساسا بالتّجربة العمليّة للأفراد والمجتمعات بما هي تجربةٌ مشروطة تاريخيّا وموضوعيّا. وسيقولون، من ثَمّ، إنّ "الإسلام" لا يَحترم «حُريّة المُعتقَد والضمير» كأنّهم في سعيهم لردّه كدعوة دينيّة لا يَأبهون للخلط بين "المِثال" الثابت و"الواقع" المُتغيِّر! وإنّهم ليَغْفُلون عن أنّ ما تُسوِّل لهم أنفسُهم إجراءَه على "الإسلام" يَصحّ، وَفق منطقهم المغلوط، إجراؤُه على مبادئ "الحداثة" ذاتها مُمثَّلةً في واقع الدُّول الدمقراطيّة الغربيّة التي لم تكتف بغزو القارات الثلاث واحتلالها واستتباعها سياسيّا واقتصاديّا وثقافيّا، بل واصلت نُزوعَها إلى التوسُّع والهيمنة عالميّا مُعتمِدةً على الكَيْل بمكيالين وضاربةً ب«حُقوق الإنسان» عُرْضَ الحائط! وفيما وراء ذلك، لا بُدّ من إدراك أنّ واقع المجتمعات الإسلاميّة شَهِد، منذ «الفتنة الكُبرى» بين أجيال الصحابة والتابعين، تعدُّدا عقديّا واختلافا فكريّا ارتبط بنشأةِ "الفِرَق" السياسيّة (خوارج، شيعة، مُرجئة، إلخ.) التي ما لَبِثتْ أن تبلورت في صورةِ مذاهب "كلاميّة" و"فقهيّة" كان بينها من الخلاف الفكريّ بقدر ما كان بينها من النِّزاع الدنيويّ والفُرقة السياسيّة. وهكذا، فعلى الرغم من أنّ المطلوب دينيّا إنما هو أن تكون «أُمّةُ المُسلمين» واحدةً («إنّ هذه، أُمّتُكم، أُمّةً واحدةً، وأنا ربُّكم ؛ فاعبدون!» [الأنبياء: 92]، «وإنّ هذه، أمّتُكم، أمّةً واحدةً، وأنا ربُّكم ؛ فاتقون!» [المؤمنون: 52])، فإنّ الدُّخول والاستمرار في دُوّامة "الفِتَن" يقود إلى استبعاد تلك الوحدة العَقديّة والدينيّة التي تفترض أن يكون "المُؤمنون" على قلبِ رجل واحد. ومن هُنا، يبدو أنّ الانتماءَ إلى «الإسلام/الدِّين» نفسَه لا يَتحقّق واقعيّا إلّا على مُقتضى التعدُّد والتنوُّع الذي يجعل البناء العُمرانيّ والحضاريّ ل«الإسلام/الأُمّة» يَتِمّ في صورةِ «مجتمع مفتوح» يُتيح التّعايُش والتّعارُف بين كل الأعراق والأديان والثقافات. ولا يخفى، بهذا الخصوص، أنّ المجتمعات الإسلاميّة لم تحتفظ بطوائفها ومِلَلها فقط، بل راكمت من المذاهب والطُّرُق ما يُعبِّر عن رُوح «الإسلام/الدِّين» بقدر ما سَمحت بتمثُّلها شُروط الواقع المَعيش. وفي جميع الأحوال، يَحسُن الانتباه إلى أنّ المُشكلة بالأساس ليست في إقرار «حُريّة المُعتقَد والضمير» حقًّا مكفولا لكل مُواطن تماما كما انتهى الناسُ إلى إقرارها في الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان (1948)، وإنّما هي في وُجود جهات عالميّة ومَحليّة تستغلّ ذلك الإقرار للمُساوَمة والابتزاز في ظلّ أنظمةِ حُكْمٍ فاشلة لا ترى فقط أنّ شرعيّتَها لا تَثْبُت إلّا باعتبار أنّها هي وحدها «حاميَة المِلّة والدِّين»، بل تعمل على استغلال الوُعّاظ والفُقهاء لتبرير سياساتها القائمة على "الاستبداد" و"الإفساد". وإنّه لمن المُؤسف جدّا أن يَنْخرط في "التّضليل"، بهذا الخصوص، كلٌّ من دُعاة «حقوق الإنسان» ودُعاة «حقوق المُسلمين» على السواء، فتجد الأوّلين يَتباكَوْن - بمُناسبةٍ ومن دونها- على الوضع الشكليّ ل«حُقوق الإنسان»، وتجد الآخَرين يَتلكّأُون في الاعتراف اللّازم شرعا بما أقرّه للناس جميعا ربُّهم حتّى يكونوا مُسْلِمين طَوْعا لا كَرْها! وكما أنّ بعض "الإسلاميِّين" (وبَلْهَ "الإسلامانيِّين") مُخْطئون في ظنّهم أنّ إقرار «حُريّة المُعتقَد والضمير» يَفسح حصرا المجال ل"الإباحيّة" و"الردّة"، فإنّ "المُبْطلين" بين "العَلْمانيِّين" واهِمُون جدّا في طمعهم أن يُؤدِّي إقرارُ هذا الحقّ إلى خروج الناس من "الإسلام" أفواجا بما يُمكِّنُهم من تكثير أعدادهم بصفتهم حَمَلةَ "التّنوير" و"الحداثة" في مُحيط من الحُشود "الظلاميّة". وإنّ الفريقَيْن كليهما ليَنْسيان أنّ «الدّولة الرّاشدة» لا تقوم فقط على إقرار مبدإ «حُريّة المُعتقَد والضمير» (ضمن مجموع «حقوق الإنسان» المُتعارَفة عالميّا)، بل تعمل على توفير الشروط الموضوعيّة التي تَكفُل للمُواطن أن يُميِّز ويَختار بين "الحسن" و"القبيح" وبين "الحقّ" و"الباطل". ومن أجل ذلك، وبخلاف ما يَظنُّه أدعياءُ "العَلْمانيّة" بين ظَهْرانَيْنا، فإنه لا يكفي أن يُنَصّ دُستوريّا على «حُريّة المُعتقَد والضمير» حتّى يكون الناس في مَأْمن من الفتنة بالدِّين أو فيه، لأنّ مثل هذا التّنصيص يُعَدّ ذريعةً للإضرار بكل فئات "المَحْرُومين" و"المُفَرَّغين" في ظل واقعِ السياسات الفاشلة عالميّا حيث لا يَضمن لهم نظام "الاقتصاد" من الوسائل ما يَفُكّ رقابَهم من قُيود (وسُيوف) سُوق الشُّغل والتّبادُل، ولا يُمكِّنُهم نظامُ "التّعليم" من الأسلحة المناسبة لمُقاوَمة "التّضليل" العموميّ سواء أكان من قِبَل من يرى أنّ "الإيمان" باللّه واجبٌ بلا "دليل" أمْ من طرف من يَزْعُم أنّ الأخذ ب"العقل" و"العلم" يَفرض نفسَه بلا "إيمان". ولذا، فإن الدّولة لا يجب عليها فقط أن تحمي الناس في مُمارَستهم لأيّ دين أو تصوُّر يَختارونه، بل يجب عليها أيضا وبالأساس أن تُمكِّنهم من امتلاك واستعمال أدوات الدِّفاع عن أنفسهم ضدّ أشكال «العُنف الرمزيّ» في مجال عُموميّ يُفترَض فيه أن يكون مفتوحا للجميع من دون تمييز أو تفضيل. ولأنّ الأمر يَتعلّق، في نهاية المَطاف، بمجتمع يُراد له أن يكون حُرّا ومفتوحا، فإنّ تشريع «حُريّة المُعتقَد والضمير» من شأنه أن يَمنع "الإكره" و"الاضطهاد"، ويُطلَب من ورائه أن يُؤسَّس المجال العموميّ برُمّته على النّحو الذي يجعل «حُريّة الفكر» و«حُريّة التّعبير» آليَّتَيْن مُترابطتين بحيث لا تكون "المعقوليّة" تحُّكما أو تسيُّبا من دون قرينتها "المسؤوليّة" التي تفرض بناءها على "التّشارُك" و"التفاوُض". ومن هنا، فإنّ قيام «الدّولة الرّاشدة» يُوجب إطلاق سيرورة "التّرشيد" بما هي نقلٌ عمليّ ل"المعقوليّة" من مُستوى الامتياز النُّخبويّ إلى مُستوى «الاشتراك العُموميّ في الرُّشْد»، وأيضا بما هي تفعيلٌ ل"المسؤوليّة" ك«مُعامَلة أخلاقيّة تشارُكيّة» (أيْ، بالتّحديد، ك«مُخالَقة تعارُفيّة»). وهكذا، إذَا تبيّن أنّ «الإسلام/الدِّين» لا يَتعارض مع «حُريّة المُعتقَد والضمير» وأنه يدعو إلى إقامة «الدّولة الرّاشدة» كسُلطات مُؤسَّسة شرعيّا وقانونيّا تعمل على تحرير "الفكرة" و"الدّعوة" وعلى حماية الناس من الفتنة بالدِّين أو فيه، فإنّ ما ينبغي تبيُّنه كذلك هو أنّ الذين يَحرِصون على إظهار "الإسلام" كما لو كان دينا قائما على "الاضطهاد" و"الاستبداد" لا يفعلون ذلك إلّا لكي يَضمنوا ظهورهم، في آن واحد، بصفةِ من يَستميت في النِّضال من أجل التّمْكين العُموميّ ل«حُريّة المُعتقَد والضمير» وبصفة من يَتعرّض دوما ل"الاضطهاد" و"التّكْفير" من قِبَل «جُمهور المُسلمين» و، بالأخص، على أيدي وبألسنة "المُتطرِّفين" منهم الذين يُسمُّون أنفسَهم "سَلفيِّين" ويُسميهم خُصومهم "أُصوليِّين"! وإنّ وُجود بعض جُهّالِ المُسلمين أو غُلاتهم، ممن يرفضون «حُريّة المُعتقَد والضمير» ولا يَتردّدُون في إيذاء دُعاتها (بتكفيرهم أو مُقاضاتهم أو حتّى بالتّحريض على قتلهم)، لا يُبرر كل "التّضليل" الذي يَتعاطاه أدعياء النِّضال الحقوقيّ ولا يَكفي لنفي حقيقة أنّ "الإسلام" دينٌ يستنكر "الإكراه" بإطلاق ولا يرضى لأتباعه التّلبُّس بجرائم الظُّلْم والعُدوان. لكنْ يَجدُر تأكيد أنّ من يتفانى في الظهور بمظهر "الضحيّة" بتهويل ذلك الانحراف يسعى، بالأحرى، لإثبات أنّ سبب مُعاناته ليس شيئا آخر غير هذا "الإسلام" القائم جوهرُه، حَسَب زعمه، على "التّكفير" و"اللّاتسامُح". ولا يخفى أنّ من كان ذاك شأنَه إنّما هو مُضلِّلٌ بامتياز، لأنّه في مسعاه ذلك لا يكاد يَهتمّ إلّا بضمان مَصلحته الخاصة أو الفئويّة بأقلِّ التّكاليف، بحيث لا تراه مُستعدّا للعمل على إثبات نفسه بالاجتهاد في بناء الشروط الموضوعيّة المُحدِّدة لقيام "التّرشيد" كتوزيع عادل لوسائل مُمارَسة "المعقوليّة" والنّهوض بأعباء "المسؤوليّة"، وإنما تجده يكتفي دوريّا بإطلاق الفُقاعات وإثارة الزّوابع لِلَفْتِ الانتباه إلى شخصه وترسيخ فكرة أنّه لا سبيل للخلاص إلّا على أيدي أمثاله من حَمَلة "التّنْوير". وكما أنّ "الإسلام" لا يَقبل النِّفاق، فإنّه أيضا لا يخشى المُنافقين مهما تكاثروا أو تكالبوا ؛ ممّا يجعل العمل به وله بصفته «دينَ الحقّ» يُوجب مُواجَهة أصناف "التّضليل" و"المُضلِّلين" تدبيرا عمليّا بالحكمة ومُجادَلةً نظريّةً بالتي هي أحسن.