من بين الحقوق الثّابتة شرعا وعُرفا للإنسان ذاك الذي يُعطيه الحقّ في الكلام تعبيرا حُرّا عمّا يُفكِّر فيه أو يَعتقده أو يَطلُب تحصيله. و«الحقّ في حُريّة الرأي والتّعبير» قد صار من بين أهمّ «حُقوق الإنسان» التي تَكفُلها المَواثيق الدُّوليّة وتنُصّ عليها دساتير البُلدان الدِّمُقراطيّة. وإذَا كان «الحقّ في حُريّة الرأي والتّعبير» لازما لكل إنسان من الناحيتين الأخلاقيّة والقانونيّة، فإنّه لا يُحتمَل أن يكون عليه قيدٌ إلّا من هاتين الناحيتين نفسيهما كما تَتعيّنان موضوعيّا بالنسبة إلى كل مجتمع مُحدَّد (عموما هي، بالأساس، قُيودٌ/حُدودٌ أربعة: القذف والتّشهير، التّحريض على الكراهية العرقيّة أو الجنسيّة أو الدينيّة، التّحريض على العنف والقتل، الاعتداء على الملكيّة الفكريّة). لكنْ، لا يَصحّ الخلط بين «الحقّ في حُريّة الرأي والتّعبير» (المُقيَّد قانونيّا وأخلاقيّا) و«الحق في حُريّة الاعتقاد والضمير» (المُطلَق فيما وراء خُصوصيّة القوانين والأخلاق والتّقاليد). إذْ هناك حقٌّ عامٌّ في أن يكون لك رأيُك الخاص وفي أن تُعبِّر عنه كما تشاء في حُدود ما يَنُصّ عليه قانون «الحُريّات العامّة» وتسمح به الآداب المُتعارَفة، وفي الوقت نفسه لك حقّ مُطلَقٌ في أن تعتقد ما تشاء وكيفما تشاء. ومن دون هذا التّمييز، فإنه لا مفرّ من كثير من الالتباس والتّلبيس الذي تستغلّه بعض الجهات لهذا الغرض أو ذاك (مثلا سُخْف: الحُكم بالردّة على من اختار تغيير "الدِّين" كأنّ حريّة الدُّخول فيه تتنافى مع حريّة الخُروج منه! والحُكم بالنِّفاق على من ناقضتْ أقوالُه و/أو أفعالُه مُعتقداته كأنّ الصدق لا يكون إلّا بتسويةٍ آليّةٍ ومُجرَّدةٍ بين الظواهر والسَّرائر!). وعليه، فمن يَرفُض مُطلَقا «الحقّ في حريّة الرأي والتّعبير» يُلْزِم نفسَه بصمتٍ أبَديٍّ لا يَتكلّم إلّا عطالةً تشييئيةً ؛ ومن يُعطي لنفسه «الحقّ في حريّة الرأي والتّعبير» بلا تقييد، يُوجب لغيره سَلْبَه منه بقُوّةٍ مُماثِلة ردًّا عليه أو بقوّة مُبايِنة أخذًا منه. ولا خيار بين عطالةِ الطُّغاة المُكمِّمة للأفواه والقاطعة للألسنة وبين تسيُّبِ السُّفهاء المُهين للكرامات والمُسقط للحُرُمات، وإنّما هو الرفض الباتُّ لهما معا كموقفين مُتطرِّفين وعَدميَّيْن، أوّلهما موقف تلك «السلفيّة الإسلامانيّة» في إرادتها احتكار الحقّ المشروع في الكلام باسم تأويل مُغالٍ للإسلام، وثانيهما موقف هذه «السَّلفيّة العَلْمانيّة» التي لا تُهاجم غريمتها تلك إلّا لتَنْزِع منها حقّ الوعظ باسم نوع من "التّنوير" المُتعاقل (بادِّعاء أصحابُه نهج «عقلانيّة التّنوير» المُتقادِمة!) ؛ وهو ما يُشير إلى أنّهما ليستا سوى وجهين مُتقابلين ل«الإطلاقيّة المعكوسة» إمّا بصفتها تقييدا جامعا وإمّا بصفتها تَنْسيبا مانعا. ومن المُفارَقة أنّ الذين يَسترهبون عامّةَ الناس بمَواعظ مُسهبة في "التّحريم" و"التّكفير" هُم أنفسهم الذين يَسترهبُهم خُصومُهم بأقاويل مُسيَّبة في "التَّحْليل" و"التّحرير"! وإنّ ثُبوت «الحقّ في حُريّة الرأي والتّعبير» حقّا مُؤسَّسا من النّاحية الشرعيّة وحقّا مُنظَّما من الناحية القانونيّة والمَدنيّة لا يَقتضي فقط أنّ كل سجال حوله من هاتين النّاحتين (أيْ من ناحيةِ تأسيسه الشرعيّ ومن ناحية تقييده القانونيّ والأخلاقيّ) يُعَدّ سجالا زائفا، بل يَقتضي أيضا أنّ الرِّهان كُلَّه قائمٌ في أنّ تفعيله العُموميّ لا يَتمّ من دون ترشيده بصفته أحدَ أهمّ مُقوِّمات "المُواطَنة" في إطار «الدّولة الرّاشدة» (طبعا، يَستنكف «أنصافُ الدُّهاة» من كل تقييد أخلاقيّ لحُريّة التّعبير ظنًّا منهم أنّ "التّقْنين" إلزامٌ خالصٌ فيما وراء الخير والشر!). ولذالك، فإنّ «الحقّ في حُريّة الرأي والتّعبير» لا يُفسِدُه أو يُلْغيه، في الواقع، إلّا الاستخفاف بمَسألةِ أنّ شُروطَ «كيفيّة العمل» تُعدّ شأنا عُموميّا يخضع بالضرورة لمنطق «التّوافُقات المعقولة» كمنطق تشاوُريّ وتعاقُديّ لا قيام للأخلاق – وبَلْه القانون- من دُونه. ذلك بأنّ مُمارَسة أيِّ فعل في المجال العموميّ لا تكون مُمكنةً إلّا على أساس قيام/إقامة "التّرشيد" كسيرورة مُتجذِّرة تداوُليّا وعمليّا، بما يُؤكِّد أنّ المُمارَسةَ العُموميّة ل"العقل" محكومةٌ أخلاقيّا وقانونيّا على النّحو الذي يُوجب عدم تجاوُز حُدود «الحريّات العامّة» (المُسطَّرة قانونيّا) واحترام مُقتضيَات «الآداب العامّة» (المُتعارَفة أخلاقيّا)، أيْ تماما بخلاف ما يَظُنّه كثير من أدعياء "العَلْمانيّة" بين ظَهْرانَيْنا في مَيْلهم إلى القول بأنّ ما يَعُدّونه «قِيَمًا كونيّة» يجب أن يُنزَّل تنزيلا من دون قيد أو شرط، وهو ما يجعلهم "سَلَفيّين" مُتنكِّرين في رداء "عَلْمانيّة" مُتعاقِلة ما زال أصحابُها غافلين عن أنّ "المعقوليّة" لا تَتحقّق - كشأن بشريّ- إلّا بما هي «كيفيّةُ عملٍ» تُعَدّ قابلة ل"التّقويم" بقدر ما هي خاضعة ل"التّوضيع" في علاقتها بمجموع الشروط المُحدِّدة لفاعليّة الإنسان في هذا العالَم! وبما أنّ الأمر في تفعيل «حُريّة الرأي والتّعبير» يَتعلّق أساسا بسيرورة "التّرشيد" تعقيلا وتقنينا، فإنّ البحث المُعاصر في تداوُليّات التّخاطُب/التّحاوُر ("پول غريس" و"فرانسيس جاك") وفي أخلاقيّات التّواصُل/المُناقشة ("هابرماس" و"آپل") يَنبغي ألّا يُنظَر إليه عندنا مفصولا عن "فنّ المُناظرة" و"آداب المُباحَثة" كما تبلورت قديما في الحضارة الإسلاميّة-العربيّة وكما بُوشر تجديدُها حديثا في إطار منطق الحِجاج وأُصول الحوار ("طه عبد الرحمن" و"حمّو النقّاري"). وإنّه لمن المُؤسف جدّا، بهذا الخصوص، أن يكون الباحثون والمُثقّفون بيننا شديدي الانبهار بمُنجَزات الفكر الغربيّ ومَيّالين إلى تبخيس تُراثٍ فكريّ وحضاريّ شَمِل كل مجالات الكلام والخطاب (ابتداءً بنَقائض الشِّعْر وانتهاءً بخلافيّات الفقه ومُجادلات النُّظّار) وعَرف أصنافا من دقائق البحث وطرائف التّناوُل. فلا يَصحّ، بالتالي، أن يُرى في «حُريّة الرأي والتّعبير» ذاك التّجلِّي الأُحاديّ لعقلانيّةٍ وافدة يجب – في ظنِّ دُعاة «التّنْوير الكُليّانيّ»- توطينُها أو 0ستنباتها مَحليّا بلا هَوادة وخارج كل نقاش. ولعلّ ما يَنساه (أو يَتناساه) كثيرٌ من مُناضلِيْ «السلفيّة الإسلامانيّة» و«السلفيّة العَلْمانيّة» هو أنّ "القُرآن" - بما هو نصٌّ مُؤسِّس- يُمثِّل نصا حواريًّا وتساؤُليّا بامتياز، من حيث كونُه يشتمل في بنيته الخِطابيّة على حوار بين الله وملائكته، وبين الله والشيطان، وبين الله ورُسله، وبين المُشركين والكُفّار، وبين أهل الجنّة وأهل النار، وبين الإنسان والحيوان، بل إنّه يَضمّ سُورةً كاملةً تحمل اسم "المُجادلة" وتستحضر "تحاوُرا" بين مُتخاطبَيْن (ذكر وأُنثى) استوجب أن يُوثِّقه "الوحيُ" ذِكْرا مُنزَّلا ومَثَلًا مُعلِّما. أفيَكُون كتابٌ هذا شأنُه داعيًا إلى الحَجْر على الآراء وتكميم أفواه الناس؟ أيَضيق "الإسلام"، إذًا، بحوار الإنسان مع الإنسان حتّى بعد أن أَذِن به الديَّانُ وجعل على لسان نبيّه خيرَ الشهداء من يَنطق بكلمةِ حقٍّ عند حاكم جائر؟! وكيف تَصحّ أفهامٌ لا ترى في خطاب "القُرآن" ذاك إلّا «بناءً أُسطوريّا» خلّابًا في الوقت نفسه الذي تَعمى عن صنيع من لا يجد عيبا في أن يُستنبَط «عقل الفلسفة» ذاتُه من «أساطير الأوّلين»؟! وهل يعجب المرء، بالتالي، من وُجود أدب كامل في مجال التّداوُل الإسلاميّ-العربيّ عن «الفِرَق» و«المِلَل والنِّحَل» ("الشهرستاني"، "البغدادي"، "ابن حزم")؟ فكيف يَصِحّ، إذًا، لدى مُنْكري «الحقّ في حُريّة الرأي والتّعبير» أو لدى خُصومهم ممّن يُبيحونه بإطلاق أن يَمُرّوا بسلام على كل ذلك فتراهُم يَفعلون كأنّه لا بَدْء إلّا بهم ولا مآل إلّا على أيديهم؟! أليسُوا جميعا فريقين من الشُّذّاذ كل منهما يُريد، على شاكلته، أن يَستبدّ بالشأن العامّ للأُمة على حساب الذين لا يَعلمون في ظنّه؟! ألَا يَتعلّق الأمر، في «التّطرُّف الإسلامانيّ» و«التّطرُّف العَلْمانيّ» كليهما، بذلك التّجلِّي الخِطابيّ للتّسلُّط الطُّغيانيّ الذي أفرز قديما حنبليّةً مُتشدِّدةً ومُعتزلةً مُتجبِّرةً، والذي لا يزال يُغذِّيهما في صُورة هذا السِّجال الحاضر والمُتجدِّد بين «جَبْريّةٍ قَدَريّة» و«إباحيّةٍ عَدَميّةٍ»؟! وإذَا كانت «السلفيّةُ الإسلامانيّة» - في إنكارها لحقّ التّعبير وسعيها إلى التّحكُّم في حُريّة مُمارَسته عموميّا- لا تفعل شيئا أكثر من تأكيد إرادتها للتّسلُّط باسم مشروعيّةٍ ترتبط ب«تقليد خاص»، فإنّ «السلفيّةَ العَلْمانيّة» لا تكتفي بفرض «تقليد خاص» آخر بصفته تقليدا كونيّا، بل تَرتكب مُفارَقةً عجيبةً تَتمثّل في الغفلة عن مُمارَسة "الإكراه" في مَقام الدّعوة إلى "الحُريّة"، وهو ما يَفضح لا فقط تسلُّفها المُضمَر، وإنما أيضا نُزوعها إلى التّسلُّط باسم ما تَعرضه ك«قيم كونيّة». والحالُ أنّ «الحقّ في حُريّة الرأي والتّعبير» ليس مُعطى يُؤخذ جاهزا، بل هو مُكتسَبٌ يُعاد بناؤُه موضوعيّا ونقديّا في إطار «توافُقات معقولة» تتمّ تبعا لمجموع الشروط الاجتماعيّة والثقافيّة والسياسيّة التي يُمكنها، في الواقع، أن تسمح بقيام "الكُلّيّ" مَحليّا. وقد لا يكفي أن يُشار إلى مُشكلة التّقييد المُمارَس بالضرورة على ذلك الحقّ في عدد من مَعاقل الدِّمُقراطيّة والعَلْمانيّة (فرنسا، ألمانيا، الولاياتالمتحدة، إلخ.). وأكثر من هذا، فإنّ أدعياء «التّنوير العَلْمانيّ» لا يستوقفهم كونُ الحقّ في الكلام يَرتبط، في آن واحد، بحُدود «اللُّغة الطبيعيّة» (ليس كل ما يُمكنُ تصوُّره يَنْقال لُغويّا، ولا كل ما يُراد قولُه تُسعف بنيات اللُّغة في بيانه) وبحُدود «اللُّغة المشروعة» بما هي لُغةٌ لا تنفكُّ عن «العنف الرمزيّ» لكونها تُعبِّر، بالأساس، عن واقع السيطرة اجتماعيّا وثقافيّا على مستوى مجتمع مُعيَّن ؛ ممّا يفرض النّظر إلى آثار التّفاوُت والتّراتُب الاجتماعيّين على النحو الذي يَجعل المُتكلِّمين والمُتخاطبين لا يأتون الكلام إلّا تنازُعا وتغالُبا في مَقامات شديدة التّنوُّع وبالغة التّعقُّد (پيير بورديو). وإنّ عدم التبيُّن في كل ذلك ليَقُود إلى عَرْض (وفرض) «حقّ التّعبير» كما لو كان مُجرّد تنزيل قانونيّ وإجراء شكليّ بعيدا عن كل المُلابَسات المُحدِّدة للتّبلوُر العمليّ والتّداولُيّ لكفاءة الكلام في المَجال العُموميّ بما هو أساسا مجال تنازُعيّ وتفاوُضيّ. ولا يَخفى أنّ من أهمّ الدّوافع إلى جعل «حقّ التّعبير» يُعرَض (ويُفرَض) على ذلك النحو غير المُتبصِّر هو كونُ الأمر يَهُمّ إحدى الذّارئع المُمكِّنة من عَرْض (وإبراز) "الذّات" بصفتها صاحبة امتياز فعليّ يَتمثّل تحديدا في الظهور بمَظهر المُدافع عن «قضية الشعب» كنوع من "الحِمَى". (ورُبّما لا حاجة، هُنا، لتأكيد أنّ مثل هذا التّبيُّن النّقديّ والتّوضيعيّ مطلوبٌ بالنسبة إلى كل «حُقوق الإنسان» من حيث إنّه يُنسى، في الغالب، أنّها حقوق تُصاغ وتُعرض طوعا أو كرها من قِبَل مُسيطرين/غالِبين أو بفعل رغبة في السيطرة/الغَلَبة!). وهكذا، فحقُّك في التّعبير عن رأيك يَستلزم حقِّي في مُساءَلتك عمّا تدِّعيه من "الصواب" و"الصلاح" إنْ شكلا أو مضمونا. وكما أنّ إقرار «حقّك في حريّة التّعبير» لا يُعطيك حقًّا مُطلَقًا في إلقاء الكلام تقوُّلا وتزيُّدا كيفما 0تّفق، فإنّ حقِّي في الِاعتراض والمُساءَلة لا يَتجاوز مُطالَبة المُتكلِّم/المُدَّعي بالأسانيد المُبيِّنة لمَقاصده والمُعلِّلة للأحكام المُتضمَّنة في أقواله. ف«حقّ التّعبير» ليس، إذًا، مجرد «إبداء للرأي» أو «إرسال للحُكْم» كأنّه عملٌ يَحْمِلُ قيمةً قُصوى في حدِّ ذاته، بل هو إقرارٌ من صاحبه بقَبُول المُشارَكة في طلب "الصواب" و"الصلاح" وبالاجتهاد على قَدْر الطاقة لتسوية "النّظر" فكرا مُعلَّلا ولإقامة "العمل" إنجازا مُسدَّدا. وعليه، فلا يُؤْتى «حقّ التّعبير» بمجرد إرسال الكلام أحكاما مُسبَقةً أو ترديدا لفِكَرٍ شائعةٍ، بل يُقام تحليلا موضوعيّا وفحصا نقديّا بعيدا عن أهواء النّفس الدّفينة، وبالانفكاك عن الأغراض العَمَليّة المشبوهة. ولأنّ كُلَّ ابن آدم خطّاءٌ، فإنّ للمرء الحقّ في "الخطإِ" رُبّما أكثر ممّا له الحقّ في "الصواب"، من حيث إنّ الوُقوع في "الخطإ" أسهلُ من الظّفر عمليّا ب"الصواب". لكنّ "الخطأ" نوعان: خطأ عن جهل، وخطأ عن عَمْدٍ ؛ الأوّل سببُه عدم المعرفة أو النّقص فيها، والثاني يكون الدّافع إليه 0تِّباعُ الهوى إغراضا أوعُدْوانا. ولذا، فإنّ المُخطئ عن جهل يُواجَه بالتّصويب ويُطالَب بتحصيل ما يكفي من المعرفة تحقُّقا وتبيُّنا، في حين أنّ المُخطئ عن عَمْدٍ يُراجَع بالتّوجيه إنْ تواضع وبالإعراض إنْ كَابَر. ولا سبيل، في الواقع، إلى اجتناب الخطإ تماما إلّا بتفضيل العطالة تكاسُلا أو بادِّعاء العِصمة تعالُمًا. أمّا النُّهوض الجادّ للمعرفة، فيَقتضي الإيقان بإمكان جَريان الخطإ اجتهادا أو سهوا على النّحو الذي يجعل "المعرفة" لا تَتحدَّد في العمق إلّا بصفتها «مجموعة من الأخطاء المُصحَّحة» ("غاستون باشلار"). وبالتالي، فإنّ «الخَطّائيّةَ» تصير مُقترِنةً ب«التّوّابيّة» ("خطّائيّة" و"توّابيّة" بالقياس على "مَشّائيّة") بحيث لا سبيل إلى تفادي الخطإ تظاهُرًا احتياليًّا بالجهل، وإنّما بالتّواضُع الضروريّ أمام «مسؤوليّة العلم» بالشكل الذي يُوجب الِانخراط الفعليّ في سيرورة بناء المعرفة تفكيرا حواريّا وتخاطُبًا حجاجيّا. ووحده من كان يأخُذ بعزائم الأمر هو الذي لا يُغْريه تواطُؤ المُتساهلين ولا يَثْنيه توقُّح المُتحاملين، فتجده لا يَتردّد أبدا عن القول «رأيي صوابٌ يَحتمل الخطأ، ورأيُك خطأٌ يَحتمل الصواب.» (قول لا يَستخفّ به إلّا من عَمِيَ عن المُقابَلة الجدليّة بين «من يَحتمل أن يُخطَّأ رأيُه» و«من لا يجد غضاضةً في أن يُصوَّب رأيُ غيره»، وهي المُقابَلة التي تُفيد أنّ "الصواب" عند من كان هذا حالَه يُبنى ب«الاشتراك في النّظر» وليس ب«نَظَر مُتوحِّد» يُستدرَج إليه الآخر مُغالَطةً وتضليلا باسم تَفلسُف استسهاليّ!). ومن أجل ذلك، فإنّ "الرأي" المُعبَّر عنه ليس موضوعا للاحترَام كما يُقال عادةً، وإنّما هو عملٌ يُخضَع لشتّى أنواع الفحص والتّقليب اختبارا وتمحيصا على الرغم من كل الاحترام الواجب شرعا وعُرفا لشخص صاحبه. إذِ "الصواب" معيارٌ للآراء، و"الصلاح" غاية للأعمال ؛ وأما شخص القائل أو الفاعل فليس بمعيار أو غاية فيها، إلّا إذَا كان نبيّا اختُصّ بالعصمة (في المدى الذي لا يكون النبيّ إلّا بشرا يُوحَى إليه ؛ وحتّى في حال إنكار النبوّة، فإنّ المعترض لا يُجديه نفعا أن يَستخفّ بقول من يُعَدّ نبيّا كأنّ هذا الأمر يُعفيه من إبطال إمكان النبوّة أصلا!). وأكيدٌ أنّه لا صواب في كلامٍ يُلْقى به على عواهنه و/أو يُرسَل بلا قيد أو من دون سند، كما أنّه لا صلاح في عمل بلا علم أو بقصد فاسد. وبِما أنّ المُتخاطبين والمُتحاورين تَحكُمهم بالضرورة شُروط تداوُليّة وإكراهات موضوعيّة تُؤدِّي إلى تحريف ما يَأتونه من أعمال الكلام على النّحو الذي يجعلُهم يُمارسون كثيرا من المُغالَطة والتّضليل والتّشغيب، فإنّ مُمثلِّي «السلفيّة العَلْمانيّة» ليسوا بِدْعا من الناس ؛ بل إنّهم لا يَقِلُّون في ذلك عن أصحاب «السَّلفيّة الإسلامانيّة» ؛ إذْ هُم جميعا لا يَتورّعون عن تهويل سَيّئات الخصم وتهوين حسناته، كما يَتعاطون خطابا لا يخلو من "التّرهيب" أو "الاسترهاب" على الرغم من ظاهره الوعظيّ عند هؤلاء وطِلائه العقلانيّ عند أولئك. ولا شكّ أنّ الذين يَأبَون إلّا تمييز أنفسهم بالجمع بين "العَقْلانيّة" و"العَلْمانيّة" لن يَستسيغوا إدراجهم في خانة واحدة مع «السّلفيّة الإسلامانيّة». ولهذا، لا يُستبعَد أن يروا في مثل ذلك الإدراج لا فقط ذريعةً للتّقليل من شأن ما يَعُدّونه حكرا عليهم (من حيث إنّهم يحرصون على عرض أنفسهم كمُناضلين في سبيل «حقوق الإنسان»)، بل أيضا كما لو كان حيلةً للالتفاف على «الحقّ في حُريّة الرأي والتّعبير» كقيمة كونيّة تُؤخَذ – حسب ظنِّهم- بلا تجزيء ولا انتقاص. وينبغي، بهذا الصدد، ألّا يغيب عن البال أنّ لُزُوم ذالك الحقّ – مثله مثل كل «حقوق الإنسان» الأُخرى- ثابتٌ شرعا وعُرفا عند جُمهور المُسلمين بما لا يَترُك مجالا لأيِّ إنكار أو تشكيك إلّا لدى قلّة من الناس يُصرّ تُجّار "التّضليل" على جعلها النّاطق الرسميّ والوحيد باسم "الإسلام". لكنّ مَحلّ الإشكال الذي يَتفاداه أدعياء «السَّلفيّة العَلْمانيّة» إنّما هو كونُ «الحقّ في حُريّة الرأي والتّعبير» لا يعلو على مُقتضيات "التّرشيد" في دَورانها على "التّعقيل" تقييدا قانونيّا وتسديدا أخلاقيّا. ومن ثَمّ، فإنّ أكبر تحدٍّ يُقام في وجه من كان ذاك موقفه هو أن يُطالَب بتعليل عقليّ مُجرَّد لمُختلِف «الحُدود/القُيود» المفروضة، في هذا البلد أو ذاك من بُلدان العالَم المعاصر، على حُريّة التّعبير. وأنّى لمن غابت عنه واقعةُ أنّ "العقل" لا يَتنزّل بَشريّا إلّا بصفته موضوعا ل"التّنْسيب" الدّائم أن يَأتي بمثل ذلك التّعليل الذي من شأنه – لو أمكن- أن يُبيِّن أنّ كل ما يَتّصل ب«كيفيّة العمل» لا يَجوز أن يُميَّز فيه بين «مقبول» و«غير مقبول»، أيْ بين «معقول» يُستحسَن صوابا أو مَصلحةً و«لَامعقول» يُستقبَح خطأً أو مَضرّةً! «[...] تلك أمانيُّهم! قُلْ: هاتُوا بُرهانكم، إنْ كُنتم صادقين!» (البقرة: 111).