شرطة بني مكادة توقف مروج مخدرات بحوزته 308 أقراص مهلوسة وكوكايين    تشييع جثمان الفنان محمد الخلفي بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء    الدورة الثانية للمعرض الدولي لكتاب الطفل والشباب 2024.. مشاركة 340 عارضا وتوافد أزيد من 101 ألف زائر    المغرب يوجه رسالة حاسمة لأطرف ليبية موالية للعالم الآخر.. موقفنا صارم ضد المشاريع الإقليمية المشبوهة    حفيظ عبد الصادق: لاعبو الرجاء غاضبين بسبب سوء النتائج – فيديو-    دياز يساهم في تخطي الريال لإشبيلية    فرنسا تسحب التمور الجزائرية من أسواقها بسبب احتوائها على مواد كيميائية مسرطنة    المغرب يحقق قفزة نوعية في تصنيف جودة الطرق.. ويرتقي للمرتبة 16 عالميًا    مقتل تسعة أشخاص في حادث تحطّم طائرة جنوب البرازيل    فاس.. تتويج الفيلم القصير "الأيام الرمادية" بالجائزة الكبرى لمهرجان أيام فاس للتواصل السينمائي    التقدم والاشتراكية يطالب الحكومة بالكشف عن مَبالغُ الدعم المباشر لتفادي انتظاراتٍ تنتهي بخيْباتِ الأمل    الولايات المتحدة تعزز شراكتها العسكرية مع المغرب في صفقة بقيمة 170 مليون دولار!    الجزائر تسعى إلى عرقلة المصالحة الليبية بعد نجاح مشاورات بوزنيقة    انخفاض طفيف في أسعار الغازوال واستقرار البنزين بالمغرب    الرجاء يطوي صفحة سابينتو والعامري يقفز من سفينة المغرب التطواني    العداء سفيان ‬البقالي ينافس في إسبانيا    مسلمون ومسيحيون ويهود يلتئمون بالدر البيضاء للاحتفاء بقيم السلام والتعايش المشترك    جلالة الملك يستقبل الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني    بلينكن يشيد أمام مجلس الأمن بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    وقفة أمام البرلمان تحذر من تغلغل الصهاينة في المنظومة الصحية وتطالب بإسقاط التطبيع    جثمان محمد الخلفي يوارى الثرى بالبيضاء    مباراة نهضة الزمامرة والوداد بدون حضور جماهيري    لقاء مع القاص محمد اكويندي بكلية الآداب بن مسيك    لقاء بطنجة يستضيف الكاتب والناقد المسرحي رضوان احدادو    ملتقى النحت والخزف في نسخة أولى بالدار البيضاء    بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    اتهامات "بالتحرش باللاعبات".. صن داونز يعلن بدء التحقيق مع مدربه    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    "وزيعة نقابية" في امتحانات الصحة تجر وزير الصحة للمساءلة    أكادير: لقاء تحسيسي حول ترشيد استهلاك المياه لفائدة التلاميذ    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    تبييض الأموال في مشاريع عقارية جامدة يستنفر الهيئة الوطنية للمعلومات المالية    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    الأمن في طنجة يواجه خروقات الدراجات النارية بحملات صارمة    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"راشديّةٌ" إنْ شاء الله!
نشر في هسبريس يوم 17 - 11 - 2012

من المُشكلات الزّائفة في العالَم العربيّ-الإسلاميّ ما يُرجِّعه كثيرٌ من المُتدِّخلين (بالخصوص بين المُثقفين-الإعلاميين) بأنّه مسألةُ حياةٍ أو موتٍ في الصراع المُفتعَل بين أنصار «الإسلامانيّة الجامِعة» (إرادة فرض "الإسلام" إطارا جامِعًا عنوانه «الشّريعة حاكمةٌ») ودُعاة «العَلْمانيّة المانِعة» (إرادة فرض «الوَضْع العالَميّ/الدُّنيويّ» إطارا مانِعًا عنوانه «القانون الوضعيّ حاكِمٌ»). ففي الوقت الذي يُصوَّر فيه "الإسلامانيُّون" باعتبارهم يَصدُرون حصرا عن "فِكْرَى" تقول بأنّ «الإسلام هو الحلّ» رافعين شعار «إسلاميّةٌ إنْ شاء الله!» (شعارٌ يُفهم منه، ضمنيّا، أنّ الأمر يَرجع لله في نَصْر دينه وعباده)، يُقدَّم خُصومُهم من "العَلْمانيِّين" بأنّهم يُدافعون بامتياز عن مشروع يُوصف بأنّه "حَداثيٌّ" وغرضُه أن تكون «علمانيّة إنْ شاء الله!» (لا يَخفى أنّه شعار يُشير إلى أنّ "العَلْمانيّ" مُسلِمٌ يُؤمن بأنّ الأمر، على كل حال، يَرجع لله). تُرى، هل لا بديل في سَماء المعقول عن هذا النزاع "الفِكْرَوِيّ" الذي يَتخارَج فيه ذانِك الطرفان كأنّ المطلوب لا يَتحقّق إلا ب"التّسلُّط" تَدْيينًا جامِعًا أو تَدْنيَةً مانِعةً؟
لِنُسلِّمْ، أوّلا، بأنّ المُشكلةَ قائمةٌ بالأساس في "التّسلُّط" سواء أكان باسم "الدِّين" أمْ باسم "الدُّنيا". ويَتمثّل هذا "التّسلُّط" في 0عتبار أنّ كونَ الناس في حالةِ "قُصورٍ" طبيعيّ وَ/أوْ 0جتماعيّ - أيْ غير قادرين، لأسباب طبيعيّة وَ/أوْ 0جتماعيّة، على معرفةِ ما يَصلُح لهم وكيف ينبغي القيام بتدبير أُمورهم- يُوجب إكراهَهم ب"السُّلطان" (الماديّ وَ/أوْ الروحيّ) على 0تِّباع ما يُقرِّره السادةُ من «أُولي الأمر» (سواء أكانوا أربابًا يَملِكون الجاه والحَسَب أمْ أحبارًا يَستأثرون بالعلم والحكمة).
ومُمارَسةُ "التّسلُّط"، بذلك المعنى، هي فرض "الوِصاية" على النّاس رِعايةً أو دِعايةً. وبالتالي، فالمُشكلة إنّما هي إرادةُ إقامةِ أو إدامةِ "الاستبداد" بتدبير «الشؤون العامّة» حفظا لمَصالح معلومة وبدعوى أنّ عامّة الناس (أو الشعب) ليس لهم من "الرُّشْد" ما يَكفُل لهم أن يتشاركوا تعاوُنًا وتداوُلًا في ذلك "التَّدْبير" بصفتهم، في الواقع، هُمُ الأدرى بمَصالحهم والأقدر على العمل عليها بمُقتضى أنّهم قد كُلِّفوا بها "مَسؤوليّةً" ومُطالَبُون بإتيانها "معقوليّةً".
وليس يَخفى أنّ الذين يرون أنّ "الحلّ" قائمٌ سَلفًا فيما يَعدُّونه هُمْ "الصّواب" (سواء أأعطوه صفة المبدأ الدِّينيّ أمْ الدُّنيويّ) إنّما يَطلُبون "التّسلُّط" على عامّة الناس، وذلك حتّى لو كانوا يَحرِصُون على الظهور بمظهر "الصلاح" و"الفلاح" أو يرفعون لواء "الحريّة" و"العقل". إذْ أنّ بعضَهم يَعمل على "تَسْيِيد" فهمه ل"الدِّين" كأصلٍ نهائيّ، ويَميل بعضُهم الآخر إلى "تَسْييد" ما يُدركه من "الدُّنيا" كمعيار للفصل ؛ وهُما تسييدانِ يَؤُولان إلى "إطلاقِ" ما حقُّه أن "يُنَسَّب" باعتباره يَظلّ مشروطا لكونه لا يَتحقّق إلا بالنِّسبة إلى أسبابٍ وظُروفٍ مُحدَّدةٍ تاريخيّا و0جتماعيّا.
وإذَا تبيَّن أنّ تعاطيَ "التَّسْييد" يَتجاوز ضرورةَ "التَّنْسيب"، فإنّه يَثبُت أنّ أصحابَ «الإسلامانيّة الجامِعة» ودُعاةَ «العَلْمانيّة المانِعة» يَشتركون جميعا في إرادة "التّسلُّط" باسم ما يَرونه "الأصل" أو "المعيار" بعيدًا عن مُقتضياتِ "الرُّشد" المُفترَض لدى غيرهم مِن عامّة النّاس الذين يُراد لهم أن يَبقوا تحت "وصايةِ" أربابٍ من دون الله، أربابٍ يَعتقدون إمّا أنّهم "الوُسطاء" وإمّا أنّهم "الفُضلاء".
ومن ثَمّ، فإنّ الميلَ إلى "التَّسْييد" لا يَنْفكّ عن "التّسلُّط" خصوصا أنّه "تسييدٌ" يُؤتَى من موقعِ مَنْ لا يُدرِك أنّ "الرُّشْد" لا يَتحقّق ذاتيّا إلا بقدر ما تُوفَّر شُروطُه الموضوعيّة على المُستوى البنيويّ والمُؤسَّسيّ، أيْ أنّ ما يُراد من "سيادةٍ" للدِّين أو الدُّنيا ليس "مُعطًى" مُعَدًّا وتامًّا بين أيدي الذين يَدَّعُونه، وإنّما هو "بِناءٌ" رهينٌ دائما بسيرورةٍ كاملةٍ يَحسُن أن تُسمّى ب"التَّرْشيد"، وهي السيرورة التي من شأنها أن تُحقِّق عُموميّا وعمليّا كل مُقوِّمات "الرُّشْد" بما هو التّمكُّن من الِانفكاك عن كل "وصايةٍ" والانخراط في العمل 0جتهادًا ومُجاهَدةً، أيْ في "الرّاشديّة" تَعقُّلًا تحاوُريًّا وتَخلُّقًا تعارُفيًّا.
ليس الأمر، إذًا، كما يَظنُّه من يرى أنّ "الحلّ" شعارٌ يُرفَع تظاهُرًا ومُزايَدةً إمّا في 0تِّجاه 0دِّعاء الاستناد إلى "الإسلام" بما هو «الدِّين الخاتم» تنزيلا وتشريعا، وإمّا في 0تِّجاه 0دِّعاء الاعتماد على "الحداثة" بما هي «إعمال العقل» تنويرا وَضْعانيّا وتحريرا دَهْرانيًّا. ولعلّ ما يبدو من تعارُض بين هذين الادِّعائين يَنْكشف زيفُه إذَا ثَبَت أنّ أوّلَهما لا يَنفرد ب"النَّقْل" وأنّ ثانيهما لا يَختصّ ب"العقل" كما يحلو ل«أنصاف الدُّهاة» لَوْكُه بِلا مَلل ولا تبيُّن. ذلك بأنّ السبيل إلى 0متلاك «النَّقْل المحفوظ» لا يكون إلا ب"العقل" قَصْدًا وتقريبًا، كما أنّ "العقل" لا يَستوي تمييزًا وحُكْمًا إلا كما يُؤسِّسه «النَّقل المَوْصُول» في كل مَجال تداوُليّ خاص. وإلّا، فإنّ تجريدَ "النَّقْل" من كل "معقوليّةٍ" يُوجب، بالأحرى، إثبات "لامعقوليّة" ما يُريد له "المُبْطِلون" أن يكون وحده "العقل" على الرغم من ثُبوت "المَنْقُوليّة" كصفةٍ مُلازِمة له سواء أَأُخِذَ في تكوُّنه التّداوُليّ والتاريخيّ أمْ أُخذ في 0رتهانه العمليّ والخُلُقيّ!
وهكذا، إذَا كانت دعوى "الإسلامانيِّين" تجعل "الرّاشديّة" موقوفةً حصرا على القول بأنّ «الإسلام هو الحلّ» تعميما بلا تقييد وتقليدا تسلُّفيًّا بلا تجديد، فإنّ دعوى "العَلْمانيِّين" تقوم على أنّه لا "راشديّة" إلّا بالقول بأنّ «العَلْمانيّة هي الحلّ» تعطيلا عُموميًّا للدِّين أو تحييدًا مُتحكِّما ل«القانون الوضعيّ» الذي ليس، في الواقع، سوى «دِينٍ مَدنيٍّ» باسم "الدّولة". والحال أنّ "الرّاشديّة" تجد قِوَامها في كون الانفكاك عن "الوصاية" لا يتمّ إلا 0جتهادًا عُموميّا مفتوحا وشُورَى تداوُليّة وإجماعًا توافُقيًّا. ولا سبيل إلى ذلك إلَّا من خلال العمل ب"التّرْشيد" إقرارا بأولويّة "الحق" و"العدل" (كتقريب توافُقيّ ل"الكُلّيّ")، ومَنْعًا للإكراه على "الدِّين" فتنةً به أو فيه، وإناطةً ل"الأفضليّة" بالتّقوى عملا صالِحا ومُعامَلةً بالحُسنى.
وكونُ "التَّرْشيد" المَدارَ الأساسيَّ ل"الراشديّة" هو ما يجعل "الرُّشْد" يُكتسَب عَمليّا في عَلاقته بمجموع الشروط الموضوعيّة المُقوِّمة لإعمال "العقل"، بحيث لا يكون سوى التحقُّق الموضوعيّ ل«العاقليّة الخُلُقيّة» في إطار قانونيّ ومُؤسَّسيّ يَتحدّد بصفته «الدّولة الرّاشدة» (دولة "الشرعيّة" المُحدَّدة قانونيّا ودُستوريّا كمجموعة من «التوافُقات المعقولة»، ودولة "المشروعيّة" المَبْنيّة عُموميّا ومُؤسسيّا كآليّات تَكفُل عمليّا التّداوُل التشارُكيّ لكل أعضاء "المجتمع" بصفتهم مُواطنين مُتساوين ومُتضامِنين).
ولذلك، فإنّ من يَكتفي برفع شعار «الإسلام شريعةٌ حاكمةٌ» أو «حقوق الإنسان مبادىءُ كونيّةٌ» يَغفُل عن أنّ واقع التّفاوُت والتّنازُع لا يَرتفع بمجرد 0ستنكاره تظلُّمًا أو 0ستعظامه مَظلوميّةً، بل يرتفع فقط بالعمل ب"التَّرْشيد" توفيرا لكل الأسباب والآليّات التي تُمكِّن النّاس فِعْليًّا من بُلوغ رُشدهم و0متلاكه كقُدرة على "الاجتهاد" 0ختيارا وتقريرا وعلى المُشارَكة تدبيرًا ومُراقَبةً. وعليه، ففي الوقت نفسه الذي نجد "الراشديّة" تُناهِض أن يكون "الدِّين" في تعارُض جوهريّ مع "العقل"، فإنّها تذهب إلى أنّ العمل ب"التّرشيد" يكون فيما وراء "الشَّكْلانيّة" سواء أكانت باسم "الدِّين" أمْ باسم "العقل"، إذْ أنّ الرِّهان الحقيقيّ يَبقى أن يُؤسَّس "الرُّشْد" موضوعيّا وعَمَليّا على النحو الذي يجعل بِمُكْنةِ كل إنسان أن يَنْوجد ويَتصرَّف بصفته فاعلا "راشدا".
ولأنّ «الإسلام/الدِّين» ليس سوى العمل على إسلام الوجه لله وحده، فإنّه يُمثِّل السبيل إلى جعل التوجُّه الإنسانيّ يَنْفكّ عن مركزيّته بما هو «تأنُّس مُتألِّه» يُراد له أن يَتحدّد فقط ك"إنْسيّانيّة". فالإسلام، بخلاف ما يَراه "المُبْطِلُون"، لا يُلغي "الإنسانيّة" بتأكيده لوحدانيّة الله، وإنّما يُخلِّصها من 0نغلاقها الأنانيّ ويُبعدها عن الانحراف الشيطانيّ فيجعلها، بالتالي، «تأنُّسا ربانيّا» يكون التوجُّه فيه إلى الله وحده بما يُحقِّق «الرُّشْد الإنسانيّ» بعيدا عن غوائل «التسيُّد المُتألِّه» وآفات «التّسيُّب المُتشيطن». وهذا ما يجعل «الإسلام/الدِّين» عماد "الراشديّة" من حيث إنّه يُؤكِّد أنّ الإنسان قد خُلق في أحسن تقويم وفُضِّل على أكثر العالَمين بأن أُوتيَ رُشدَه إكرامًا فحُمِّل الأمانةَ 0ستخلافًا في الأرض و0ستُؤْمن على كل ما أُوتي إنعامًا و0بتلاءً. ولهذا كان «الإسلامُ» دينا يَأمُر ب"العدل" و"الإحسان" بالقدر نفسه الذي جَعل أمر الناس شُورى بينهم ولم يُنط "الأكرميّة" إلا بالتقوى عملا صالحا ومُعامَلةً بالحُسنى.
وحُقَّ لدِينٍ هذا شأنُه أن يكون رسالةَ تنويرٍ وتحريرٍ، رسالة بأبعاد عالَميّة لا يُنكرها إلا جاحد ولا يَستخفّ بها إلا من أُشرِب في قلبه أنّ "الراشديّة" لا تكون إلا تنويرا وَضْعانيّا وتحريرا دَهْرانيّا. وأنّى لمن كان هذا حالَه أن يَتبيّن أنّ «الإسلام/الدِّين» لا يَقُوم إلا بما هو "راشديّة" تُؤسِّس "التنوير" تعقُّلا تحاوُريًّا وتَطلُب "التحرير" تخلُّقا تعارُفيًّا.
ومن أجل ذلك، فإنّ السعيَ إلى تعطيل "الراشديّة" بالمجتمعات الإسلاميّة يَأتي في الواقع من "الإسلامانيّة" و"العَلْمانيّة" على السواء حيث نُلاحظ كيف أنّ الدّعوة باسم "الإسلام" أو باسم «حقوق الإنسان» لم تَمنع فئاتٍ مِمّن يَتبنّونها ويَعملون لها من الوُقوف إلى جانب "الاستبداد" دفاعا عنه أو حمايةً لمَصالح مُرتبطة ببقائه. وبالتالي، فما كُلّ ما يبدو شعارا جامِعًا يَجدُر أنّ يُؤخَذ به مَأخذ الجدِّ، وإنّما لا بُد من التمييز بين "الراشديّة" في قيامها على «مَشروعيّة العقل العُموميّ» تشارُكًا وتداوُلًا، وبين "الجاهليّة" في 0ستنادها إلى «مشروعيّة العقل الفَرْدانيّ» كتحكُّم للأهواء الشخصيّة وتحكيم للمَصالِح الفئويّة.
ليست هُناك، إذًا، مشروعيّة بمجرد 0دِّعاء حفظ «قيم التُّراث» أو بادِّعاء 0عتماد «قيم الحداثة»، وإنّما تكون بالانخراط الفعليّ في تأسيس "الراشديّة" بناءً مُستقلا و0ستكمالا مُتجدِّدا على الرغم من تعدُّد المصادر والموارد المعتمدة. ف"الأصالةُ" ليست في 0تِّباع تقاليد الماضي، ولا "المُعاصرَة" مقصورةً على النّسج وَفْق منوال المُحدَثين، بل "الأصالةُ" بُلُوغ الغاية في البِناء بمُقتضى «شُروط الحاضر» في 0ستقلالٍ عمّا أثّلَه القُدامى وراكَمَه المُعاصرون على السواء. وبهذا المعنى تصير "الراشديّة" مُتضمِّنةً لرُوح "الأصالة" و"المُعاصَرة" من دون 0فتراض التّعارُض بينهما أو 0دِّعاء المُواءَمة بينهما كامتياز، لأنّ مُقتضَى "الراشديّة" أن يُتحقّق أصالةً بالاستقلال بالنِّسبة إلى الماضي والحاضر كليهما تمكُّنًا من أسرار عطاءاتهما و0قتدارًا على مُضاهاتها إنجازًا وإحكامًا.
وبِما أنّ "الراشديّةَ" لا تقوم بالأساس إلا لتجاوُز "التسلُّط"، فإنّ تحقُّقَها لا يكون تملُّكا أو تسيُّدا كما يَظُنّ الذين لا يَتصوّرُون "التّحرُّر" إلا بأن يَمتلِك المرءُ أمرَ نفسه وزمامَ العالَم فيصير سيِّدا عليهما. ولو كانت "الراشديّة" لا تأتي في النهاية إلا بهذا، لكانت مجرد إعادة إنتاج للمُشكلة الأصليّة في صورة تبدو معقولةً بهذا القدر أو ذاك. لكنّ "الراشديّة" في عملها ب"الترشيد" تُمثِّل نُزوعا إلى "الاكتمال"، مِمّا يجعلها لا تنفصل عن "التّزكِّي" بما هو السعيُ إلى تخليص النفس من كُل الأهواء والدّوافع التي تدور حول "الأنا" وتُوقف العمل على العاجلة دون الآخرة. وبالتالي، فإذَا كان "الإسلامانيُّ" يُريد التفرُّدَ بالتوجيه حاكميّةً، وكان "العَلْمانيُّ" يَطلُب "التّدبير" كسيادةٍ للأكثريّة، فإنّهما كليهما لا يَستطيعان العمل ب"الحياد" (الأوّل يَقصُر "الصلاح" في جماعته، والآخر لا يرى "الكفاءة" إلا في حزبه المُتغلِّب) ؛ مِمّا يجعل "الراشديّةَ"، في عملها ب"التّرشيد" تزكِّيًا، تَصير إعمالا لأسبابِ وآليّات "التحييد" تعقُّلا وتخلُّقا.
إنّ الحاجةَ لَتَدْعُو، إذًا، إلى تأسيس العمل ب"التّرشيد" 0نفكاكًا عن "التّسلُّط" سواء أكان في 0تِّجاه «إسلامانيّةٍ جامِعةٍ» أمْ في 0تِّجاه «عَلْمانيّةٍ مانِعةٍ». وإنّها ل"راشديّة" إنْ شاء الله على الرّغم من أُنوف الذين يُريدونها عِوَجًا تقليدا لأشياء من الماضي أو الحاضر ووُقوفًا منهم عند مجرد التّظاهُر بالتميُّز لثُبوت عجزهم عن العمل ب"التَّرْشيد" بما هو طلب الصواب والصلاح وَفْق مُقتضيات "المعقوليّة" و"المسؤوليّة" التي لا 0متياز للإنسان الرّاشد إلا بها. وبهذا المعنى، فهي "راشديّة" إنْ شاء اللّهُ إيمانًا بأمره سبحانه ورجاءً لنَصره الموعود دائما لعباده الذين يَعملون صالحا وهُمْ مُؤمنون.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.