قراءة في نظرية "ولاية الفقيه الحي" عند طه عبد الرحمن كل الذين يقرأون ما ينشره طه عبد الرحمن من كتب، بدءا من كتاب "العمل الديني وتجديد العقل" إلى كتابيه الأخيرين، "سؤال العمل" و"روح الدين"، مرورا ب"فقه الفلسفة"، و"اللسان والميزان"، و"سؤال الأخلاق"، و"الحق العربي في الاختلاف الفلسفي"... سيجدون أنها كتبا مدهشة. ولعل ذلك يعود، علاوة على أفكارها الطريفة، إلى طريقة كتابته التي تعتمد أساليب منطقية استدلالية محكمة تتحاشى الوقوع في فخ المتناقضات العقلية والمتضادات النظرية. ولعل ما تضمنه كتاب "روح الدين، من ضيق العلمانية إلى سعة الائتمانية"، من أفكار طريفة ومدهشة سيضفي مزيدا من الهالة والتشويق على المشروع الفكري لطه عبد الرحمن. فالكتاب يمثل نقلة نوعية في اهتمامات مؤلفه، فإذا كان الأخير، أي طه، قد دأب على الكتابة في قضايا تتصل بما يسميه أشرف المعارف وأكملها، وهو فقه الفلسفة، فإنه هذه المرة يفتح قارة النظر في "فقه السياسة" ولكن، لا بمنظوره الفقهي الكلاسيكي، كما هو الحال عند الماوردي، وإنما من منظور ه الخاص الذي اختار له من الأسماء، "فقه الفلسفة". هكذا يكون طه قد بدأ مسيرته الفكرية بالنظر في قضايا الفلسفة والترجمة، وما تخلقه من إشكالات وتحديات بالنسبة للمفكر العربي المعاصر، الباحث عن أقرب السبل للإبداع الفلسفي، ومن هذه الجهة طرح طه سؤال منهج دراسة العقل أولا، وسؤال الأخلاق ثانيا، من موقع الناقد للحداثة الغربية المعاصرة، والمداقع عن الحق العربي في الاختلاف الفلسفي، أو قل، الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري. لكن هل يمكن أن يكون نظر "فقيه الفلسفة" في العقل واللغة والأخلاق، أو بكلمة واحدة الإنسان، من دون أن يعقبه قول في "سياسة المدينة" ونظر في ملحقاتها الذاتية المتصلة بقضايا تدبير شؤون الحكم وممارسة السلطة؟ ذلك ما انتبه إليه طه عبد الرحمن في كتابه الأخير "روح الدين"، الذي خصصه كاملا للتأصيل لمشروع سياسي مستقبلي لمسلمي اليوم، يمر عبر هدم "جذري" لضيق العلمانية الغربية، وبناء نظري لما يسميه الكاتب ب"سعة الائتمانية" الإسلامية. وبين عمليتي الهدم والبناء، التي توزعت على ما يزيد عن خمسة مائة صفحة من الكتاب، سيثير دهشة القارئ حرص المؤلف، إلى حد الترف والبذخ، على نحته لألفاظ خاصة، في مبناها ومعناها، من أجل التفرد بمفاهيم مستقلة. يمكن العثور على عدة مداخل لقراءة الكتاب، ولكننا نكتفي بالإشارة إلى ذلك المدخل المعروف عند كل من له دراية بمشروع طه عبد الرحمن الفكري، المشروع الذي يحرص على تصفية الحساب مع كل المشاريع السابقة، والتأسيس لمشروع "جديد"، يريده صاحبه أن يكون غير "مسبوق و لا مألوف". فمنذ الصفحات الأولى يعلن الكاتب تبرأه مما يعتبره نهجا استبداديا عند التيارات العلمانية والإسلامية المعاصرة، موزعا هذا النقد بالتساوي بين الطرفين، مخصصا الباب الأول كاملا لنقض "التسيد العلماني"، والباب الثاني بأكمله لنقد "التسيد الدياني"، ليطرح بديله السياسي المستقبلي المتمثل في التمكين ل"ولاية الفقيه الحي". يعتبر طه عبد الرحمن أن شعار "الإسلام دين ودولة" الذي ترفعه التيارات الديانية اليوم يعتريه القلق من جوانب مختلفة، من بينها أن الوصل بين الدين والدولة في هذا الشعار هو مجرد رد فعل على الموقف العلماني الذي يقول بالفصل ، وليس موقفا أصيلا نابعا من فهم عميق لحقيقة الإسلام. كما يقف طه عند ما اعتبره مفارقة الشعار الذي ترفعه مجموعة من التيارات الإسلامية، وهو شعار "الدولة الإسلامية دولة مدنية"، مبينا تناقضه مع شعار "الإسلام دين ودنيا"، ومشيرا إلى أنه ليس في القول: "الدولة الإسلامية دولة دينية" ما يحيل إلى أي وجه من وجوه الحكم الثيوقراطي أو الكهنوتي، لأن الدولة الإسلامية لا تتأسس، في نظره، على مبدإ "التسيد على الخلق"، وإنما على مبدإ التعبد للحق". لقد اتبعت العلاقة بين الدين والسياسة، في نظر طه، عند العرب السنة بالخصوص، سبيلين اثنين مختلفين، لكنهما يؤديان في نهاية المطاف إلى نتيجة واحدة، وهي التسلط والاستبداد. السبيل الأول اتبعته الأنظمة الشمولية التي سعت إلى توظيف الإسلام توظيفا سياسيا، حتى يتاح لسيطرتها على المواطنين أن تتصرف بغير مراقبة أو تتقوى بغير حد. والسبيل الثاني سلكته التيارات الإسلامية المعاصرة بدمجها الدين في السياسة دمجا دخلت عليه "شبهات تقليد المفاهيم والآليات التدبيرية ذات الأصل العلماني"، الذي يجعل منها "أدوات تسيدية لا تعبدية". ويرجع سقوط الإسلاميين في آفة التقليد إلى أنهم لم يعملوا على الارتقاء بتعبدهم إلى الدرجة التي يصبح معها معينا حيا وثرا يمدهم بأسباب الإنشاء والابتكار. ولما كان هؤلاء قد وقعوا في شبهة تقليد العلمانيين، لزم أن يكون تدبيرهم السياسي، في نظر صاحب "روح الدين"، تدبيرا تعبديا قلقا، لا تدبيرا تعبديا متمكنا. لكن كيف السبيل لهذا التدبير السياسي الذي يريده طه عبد الرحمن أن يكون "تعبديا متمكنا"؟ إذا كان طه يرفض الفصل العلماني بين الدين والسياسة، ويرفض الوصل الأصولي بين الدين والسياسة باعتباره يسقط في الفصل العلماني من حيث يريد الوصل، فهذا يعني أنه يسعى إلى تدبير تماثلي بين الدين والسياسة، بحيث يصل التماهي درجة قصوى من التطابق، يكون فيه الدين سياسة والسياسة دينا. إذا كان هذا هو ما يسعى إليه طه عبد الرحمن، ألا نجد شبيها به في نظرية "ولاية الفقيه" الشيعية؟ تتمسك نظرية التماثل بين الدين والسياسة ب"مبدأ تحكيم الدين" أو "مبدأ تفقيه السياسة"، الذي بفضل ما يقره من شروط فقهية،تعبدية وتزكوية، ينزل بالتدبير السياسي رتبة "عليا"، تتجاوز "تسلط العلمانية" و"تسيد الأصولية". فهل يتعلق الأمر بدعوة طه عبد الرحمن إلى العمل بنظرية ولاية الفقيه الشيعية أم بإخراج لها على مذهب "أهل السنة والجماعة"؟ لا يخفي الدكتور طه رغبة في "تفقيه السياسة" بعدما أفنى عمرا في "تفقيه الفلسفة"، لذلك لا يتردد في لفت الانتباه إلى ما تواجهه نظرية "ولاية الفقيه" من "محنة"، نظرا لما تلاقيه من تشكيك في مشروعيتها من طرف كبار علماء الشيعة، من أمثال "الطالقاني"، و"مداري"، و"منتظري"، و"الخوئي"، و"السيستاني"، و"محمد حسين فضل الله"، و"محمد مهدي شمس الدين". ومن دون أن يفتح طه المجال للحوار مع هؤلاء المعترضين على نظرية ولاية الفقيه، ينتقل مباشرة إلى محاولة إنقاذها من محنتها وذلك بالعمل على توسيع مداها وفتحها على أقصى ما يمكن من إمكانيات نظرية وعملية. وهو ما يمكن اختصاره في العناصر التالية: 1) إذا كانت ولاية الفقيه تركز في تدبير السلوك المدني على الأخلاق الخارجية، أو البرانية، فإن طه يدعو إلى توسيع مداها ليشمل تدبير الأخلاق الداخلية، أو الجوانية، حتى تستجيب بالكامل لشق الآمرية من الحاكمية الإلهية. 2) دعوة طه إلى تحرير" ولاية الفقيه" من تصورها للفقه والفقيه الموروث من العصر الصفوي، الذي تميز بمحاربته لأهل العمل التزكوي، ومواجهته العنيفة للطرق الصوفية، من غير تفريق بين الطرق الصوفية "البدعية" والطرق الصوفية "الشرعية". وذلك بإعادة الإعتبار لأهل التصوف والعرفان الشعبي ليتبوؤوا مكانة الريادة والصدارة في نظام الولاية. 3) العمل على تجاوز منطق الفقه الصناعي، بوصفه علما قانونيا خالصا يضبط الأعمال الإنسانية الظاهرة فقط، إلى منطق الفقه الحي الذي يهدف إلى تهذيب السلوك الجواني للفرد بالإضافة إلى ترتيب فعله البراني. 4) نسيان المعنى الضيق للفقيه الذي يحصره في معنى "الاختصاص القانوني"، والذي يعتبر عملا نخبويا تحتكره فئة محددة من الناس، وتحتكر معه حق ممارسة السلطة والولاية، إلى معناه الموسع الذي يجعل من كل مسلم فقيها بالضرورة، ومطالبا بمعرفة ما يقتضيه الإسلام من التزام ظاهري وباطني في الوقت ذاته. وهذا ما يسميه طه بالفقه الحي تمييزا له عن الفقه الاصطناعي الذي لا يستجيب لشرائط التخلية ولمقتضيات التحلية الصوفية. 5) وبما أن كل فرد مسلم فقيه بالضرورة فإن طه لا يميز بين ولاية الفقيه الفرد وولاية المجتمع المتفقه، طالما أن الفقيه الحي هو الأحق بالولاية العامة على الأمة من الفقيه الصناعي، ويمكن لهذا الفقيه الحي أن يكون أي فرد من أفراد هذا المجتمع المتفقه تفقها حيا. يحق لنا أن نتساءل، من خلال التأمل في العناصر السابقة: ألا يغادر طه نظرية "ولاية الفقيه"، كما هي مثلا، عند الإمام الخميني، إلى القول بنظرية "ولاية الأمة على نفسها" كما نظر لها العالم الشيعي محمد مهدي شمس الدين؟ يقر طه عبد الرحمن أن نظريته في "ولاية الفقيه الحي" تلتقي في ظاهرها مع نظرية "ولاية الأمة على نفسها" عند شمس الدين، لكنها تختلف عنها من حيث الجوهر، فنظرية طه تنطلق، كما يقول، من مبادئ أخلاقية ومعان روحية خالصة، في حين تستند، حسب اعتقاده، نظرية شمس الدين إلى منظور سياسي تسلطي بالدرجة الأولى. ومن هذه الجهة يقف طه موقفا برزخيا يرتفع معه التعارض بين نظرية "ولاية الفقيه" ونظرية "ولاية الأمة على نفسها"؛ فإذا تفقه أفراد المجتمع كلهم تفقها حيا، وتولى أحدهم، كان، من وجهة نظر طه، بمنزلة الفقيه الحي، لأن الولاية السياسية على الأمة لا توجب التخصص في أقوال الفقه، وإنما التخلق بأحكامها ومقاصدها الضرورية، ولا توجب استقلال فئة خاصة من الأمة المسلمة بها، وإنما اشتراك جميع المسلمين فيها. وقبل إنهاء تقديمنا لنظرية ولاية الفقيه الحي عند طه عبد الرحمن نطرح السؤال التالي، على أن نترك الجواب عنه إلى فرصة لاحقة، وهو إلى أي حد يسعفنا وضع التصوف في عمق السياسة، في تحقيق حلم تخليق السياسة أم أن الأمر لا يعدو أن يكون محاولة لتحقيق حلم بحلم؟