أصدر الدكتور طه عبد الرحمان، الفيلسوف المغربي العربي المعروف، كتابين بشكل متزامن خلال الشهر الماضي/فبراير، الأول بعنوان"سؤال العمل: بحث عن الأصول العملية في الفكر والعلم "، والثاني بعنوان"روح الدين: من ضيق العلمانية إلى سعة الائتمانية"، العمل الأول عبارة عن محاضرات ألقاها طه في مناسبات مختلفة، لكن يجمع بينها موضوع واحد، أما العمل الثاني فهو أطروحة مستقلة قائمة الذات من جهة، وبناء فكري نظري على ما سبق من تراكم فلسفي للرجل من جهة ثانية. وقبل الدخول في مضامين الكتاب، لا بد من الإشارة إلى بعض النقاط الأساسية التي لا بد منها في قراءة أعمال الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمان. النقطة الأولى تتعلق بالجانب اللغوي، وفيها جانبان: الأول أن فلسفة طه عبد الرحمان منبثقة من البناء اللغوي العربي الصميم، وفي هذا خروج على الكتابات التي تحاول أن تدرس التراث من خارج لغته، لأن منطق الفلسفة العربية نفسه مبني على المنطق اللغوي العربي، والثانية أن عبد الرحمان صاغ من خلال هذه اللغة معجمه الخاص الذي بات اليوم موزعا على مجموع أعماله التي نشرها حتى الآن وهي كثيرة، وفي هذا إشارة إلى أن العمل اللاحق ينطلق من العمل السابق، وفهم الثاني يبنى على فهم الأول. والجانب الثاني يتعلق بالجانب المعرفي، ذلك أن عبد الرحمان سعى منذ زمن بعيد إلى تأسيس فلسفة عربية إسلامية، وكما صنع الفلاسفة المسلمون السابقون حينما استندوا على النصوص الدينية المؤسسة وانفتحوا على الفلسفة اليونانية، ينطلق عبد الرحمان اليوم من نفس النصوص وينفتح على الفلسفة الغربية، وخاصة منها الألمانية والفرنسية، بعدما هضم الفلسفة اليونانية كما فعل الأولون، لكن في لغتها لا مترجمة إلى العربية. أما النقطة الثالثة، فهي أن طه عبد الرحمان يتحرك في فلسفته ووراءه إحاطة واسعة بالتراث الفلسفي العربي الإسلامي، وهو يعتبر امتدادا لحركة التجديد في مسار هذه الفلسفة بعد تخليتها من الرواسب التي يرى أنها تسللت إليها، فهي عملية تجديد من داخل التصحيح. من هنا صعوبة قراءة نصوص طه عبد الرحمان، والكتاب الذي نحاول قراءته لا يشذ عن هذه القاعدة، لكننا سنحاول جهدنا. هواجس تراثية هناك فلاسفة مسلمون طرقوا قضية السياسة وعلاقتها بالشرع والدين من زاوية فلسفية في تاريخ الفلسفة الإسلامية، أبرزهم الفارابي في كتابه"آراء أهل المدينة الفاضلة"، وابن رشد في كتابه"تلخيص السياسة" الذي لخص فيه كتاب أرسطو بنفس العنوان، وابن سينا في كتابه"السياسة"، وهناك فلاسفة طرقوا نفس الموضوع من زاوية دينية من بينهم أبو حامد الغزالي في عدة كتب وأساسا"إحياء علوم الدين" و"التبر المسبوك في نصيحة الملوك" و"سر العالمين وكشف ما في الدارين". وقد ناقشت مختلف هذه الأعمال مسائل العلاقة بين الدين والسياسة، علما بأن المفهوم الأخير كان يشير دائما لدى هؤلاء الفلاسفة إلى معنى أوسع من تدبير أمور الدولة والملك، قبل أن يضيق المفهوم في العصر الحديث ويصبح قاصرا على هذا التدبير. هذه خلفية لا بد منها حتى نضع كتاب طه عبد الرحمان في سياقه التاريخي وفي إطاره الموضوعي(نسبة إلى موضوعه). فالكتاب تجديد للنظر العقلي والديني في قضية العلاقة بين الدين والسياسة يتجاوز ما يفهمه البعض اليوم من هذه العلاقة، بمعنى أن الكتاب غير معني بالربيع العربي مثلا أو بوصول الإسلاميين إلى السلطة في هذا القطر أو ذاك أو حتى بالجدل الذي دار ويدور حتى اليوم بين أنصار الربط بين الدين والسياسة وأنصار الفصل بينهما، أي أنه غير خاضع لأي"تأثير" خارج عنه من هذه المؤثرات، بل هو عملية تجديد فلسفية من داخل النسق الديني الإسلامي، وبمعنى أخر هو"رجوع إلى أصل الموضوع"، من خلال التفكير في أصل الدين. لقد كانت العلاقة بين الدين والسياسة موضوع جدل مستمر في العالم العربي والإسلامي طيلة نحو قرن من الزمن في العصر الحديث، مع أن هذا الجدل لم ينقطع في الماضي أبدا، ولكن جدل العصر الحديث كان يدور بين فريقين أساسيين، الفريق الداعي إلى الربط وهم الإسلاميون، والفريق الداعي إلى الفصل وهم العلمانيون، بيد أن هذا الجدل لدى الفريقين كان جدلا سياسيا في أصله، الفريق الأول يريد استثمار الدين في السياسة، والثاني يريد استثمار السياسة بغير دين، وظل الجانب السياسي لدى الفريقين هو المسيطر على ما عداه، لأن هذا الجدل جعل الإسلاميين يضيقون الدين في السلطة والحكم، وجعل العلمانيين يرون فيه مجرد أداة للسلطة والحكم، فضيع الفريقان معناه. إبطال المسلمات هذا الجدل هو ما يسعى كتاب طه عبد الرحمان إلى تجاوزه، ولكي يتجاوزه لا بد أن ينتقد هذا التراكم الجدالي في الموضوع ويستنفذه حتى ينتقل إلى صياغة أطروحته. إنه يعتبر أن مقاربته للموضوع"ذكر لما نسيه "العلماني" وعروج إلى ما قعد عنه "الدياني"(ص17)، وقد أشرنا في الفقرة أعلاه إلى أن دعاة الربط بين الدين والسياسة قصروا الدين على السلطة والحكم، ما استدعى نوعا من العروج أي الارتفاع إلى أبعد من هذا الجانب نحو شمولية الدين، وأن دعاة الفصل بينهما أنكروا الدين نفسه علاوة على أنهم رأوا فيه أداة للحكم والسلطة فقط، ما استدعى تذكيرهم بأن الدين موجود في كل شيء، وأن الإنكار في حد ذاته دين. ولا بد من إشارة مهمة جدا هنا، وهي أن طه عبد الرحمان عندما يناقش العلمانية لا يناقش العلمانية في العالم العربي، بل يناقش العلمانية في أصولها الأوروبية التي تفرعت عنها التصورات الأخرى المنقولة عنها سواء في العالم العربي أو في آسيا وإفريقيا لدى من تأثروا بالفكر الأوروبي حول العلمانية، هو هنا لا يناقش العلمانيين بل يناقش مؤسسي العلمانية أنفسهم وآباءها من الفلاسفة الغربيين. أولى الأصول التي ينطلق منها الكتاب هي إبطال المسلمات العلمانية، فالمؤلف يرى أن بعض الأفكار"تؤخذ مسلمة بالتقليد، فيسقط تعجب العقول منها لكثرة تداولها"(23)، ومن هذه المسلمات مسلمة قصور الوجود الإنساني التي تقول بأن الإنسان يوجد في العالم المرئي فقط وليس له امتداد روحي، مع أن العلمانية الغربية نفسها في نشأتها تناقضت مع هذه المسلمة عندما أنزلت بعض الأوصاف التي تتصف بها الآلهة الإغريقية على الإنسان، فرفعته إلى مرتبة دينية، وعندما أعطت للدولة بعض المواصفات الشمولية التي أخضعت الإنسان وفرضت عليه عبادتها والخضوع لها باسم السيادة مثلا التي هي صفة منسوبة إلى الذات الإلهية. فالعلمانية في النهاية حسب طه عبد الرحمان هي إنشاء دين آخر غير الدين السماوي هو السياسة، إذ أصبحت تعتبر أن السياسة هي الوسيلة الوحيدة التي يمكن أن تحقق السعادة للمجتمع وليس الدين، على أساس أن السياسة تهتم بعالم الواقع والدين بعالم الروح. ولكن هذه المسلمة يبطلها المؤلف من خلال قاعدة"تغييب العالم المرئي وتشهيد العالم الغيبي". وملخص هذه القاعدة أن السياسة تصنع من المثل والشعارات ما يتجاوز الواقع المرئي إلى الواقع غير المرئي، ولتقريب مفهوم طه عبد الرحمان يمكن الاستشهاد بما نسميه ب"الطوباوية" في بعض النظريات السياسية الكبرى كالماركسية مثلا عندما دعت إلى مجتمع بدون طبقات وبدون دولة وبملكية عامة لوسائل الإنتاج، وهذا هو"تغييب العالم المرئي"، أما تشهيد العالم الغيبي فيتمثل في أن الدين منطلقه الغيب أو المثل، لكنه ينتهي بالتشهيد عندما يتحول إلى أعمال وعبادات ملموسة تؤدي إلى الصلاح الاجتماعي، كالصلاة مثلا عندما تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر، والمعروف عندما يصبح تضامنا اجتماعيا أو غيره وينعكس على العلاقات بين الأفراد، وغير ذلك، علما بأن هذا المفهوم يتجاوز قضية المعاملات في علاقتها بالعبادات. الدين المدني والدين السياسي انطلاقا من هذه القاعدة ينتهي المؤلف إلى أن الدين والسياسة ليسا عالمين منفصلين، بل هما طريقان متقابلان للفاعلين الإنسانية، وهذا يتضح حتى في اللسان العربي، إذ تشير عبارة الدين إلى الشرعة والمنهاج كما في القرآن، بينما تشير السياسة إلى طريقة التدبير كما عند فلاسفة المسلمين كابن خلدون، ويعني هذا أن الدين هو الذي يمد السياسة بمنهج التدبير، وأن السياسة لا بد لها من دين، فإما أن يكون دينا من خارجها كالدين السماوي المتعارف عليه، أو يكون من داخلها، لكي تصبح السياسة هي نفسها دينا لا تعترف بدين آخر سوى ما تسطره هي لنفسها، وفي هذه الحالة تكون العلمانية التي تقول بعدم إدخال الدين في السياسة دينا يقدس كيانا سياسيا معينا، لكنه إما أن يكون دينا مدنيا أو دينا سياسيا. يربط طه عبد الرحمان الدين المدني بالدولة الديمقراطية، والدين السياسي بالدولة الشمولية(يسميها المحيطة). فدعوى أن السياسة خالية من التعبد، أو أن العلمانية منافية للدين وليست دينا جديدا، هي دعوى مردودة، لذلك كان من الطبيعي أن تنتج العلمانية الدينين المدني والسياسي بوصفهما السند الوجداني الذي من المفترض أن يرتبط بأي ممارسة دينية، بسبب الحاجة الطبيعة لدى الإنسان إلى وجود مثل هذا السند. بيد أن عبد الرحمان يرى أن الفرق الوحيد بين الدينين هو أن المواطنين في النظام الديمقراطية يتعبدون لمؤسسة الدولة، بينما يتعبدون في النظام المحيط لرئيس الدولة، وهذا النمط الثاني هو "الأشد والأفحش"بالنسبة للمؤلف. غير أن المؤلف، الذي ينطلق من نظرية في الوجود الإنسان كما تحدث عنها في الكتاب مرتكزة على أن الدين هو الأصل بالنظر إلى أصالة الفطرة، لا يرى منطقة وسطى بين حضور الدين وغيابه في الممارسة السياسية للدولة الحديثة، فإما أن الدين حاضر فيها بوجهه الحقيقي (المنزل) وبالتالي فالإنسان يتعبد لله، وإما أنه حاضر بوجهه غير الحقيقي(الوضعي) وبالتالي فالإنسان يتعبد للطاغوت. أين يتمثل حضور الدين في الدولة العلمانية الحديثة، بشقيه المدني والسياسي؟. يتوقف المؤلف هنا عند مثالين بارزين. يتعلق الأول بالنظام الأمريكي الذي يمثل الدين المدني، إذ يتم تصوير الشعب الأمريكي في المخيلة الجماعية الأمريكية كشعب شبيه بشعب إسرائيل، بحيث يتم معاناة الأمريكية محنة الخروج إلى أرض الميعاد (أمريكا) فرارا من الاضطهاد في أوروبا بمعاناة الشعب اليهودي الذي عانى هو أيضا المحنة في خروجه إلى فلسطين فارا من الاستعباد في مصر، وكما اختار الله شعب إسرائيل للقيام بدور تاريخي تصلح به الإنسانية كلها وأخذ منه الميثاق، فإن الشعب الأمريكي مرشح لنفس الدور، إذ تم تشبيه جورج واشنطن بالنبي عيسى الذي بعث لليهود، ودفع حياته فداء للعباد، مثلما دفع جورج واشنطن حياته فداء للعبيد السود، ويضاف إلى واشنطن في قائمة شهداء الدين المدني جون كنيدي ومارتن لوثر كينغ. ويرى المؤلف أن الدين المدني في أمريكا، مثله مثل اليهودية والمسيحية، له هو الآخر كتبه المقدسة مثل"إعلان الاستقلال" و"الدستور" وتشيد له النصب والمعابد والرموز مثل قبر الجندي المجهول، كما له طقوس وأعياد جماعية مثل يوم الاستقلال ويوم الذكرى ويوم الشكر. أما الدين السياسي فيتمثل في الأنظمة الشمولية غير الديمقراطية مثل النازية والفاشية والبولشفية. فقد وضع هتلر مثلا كتابه"كفاحي" ككتاب مقدس للألمان، وسن مجموعة من الطقوس المستلهمة من الشعائر الدينية المسيحية والتراث الوثني الجرماني مثل الاحتفال بالأبطال والاحتفال بميلاد القائد وبمؤتمر الحزب وبيوم الانقلاب، وغيرها، كما تم وضع قصص أسطورية لرفع الشعور القومي لدى الألمان مثل أسطورة الأصل الآري وأسطورة الاشتراكية الألمانية. العلمانية والثيوقراطية إنهما نموذجان للدولة العلمانية الحديثة الخالية من"الدين التاريخي" بتعبير المؤلف، أو الدين المنزل، يظهران أن دعوى الحيادية في تعامل الدولة العلمانية مع الدين دعوى غير سليمة كما سبق القول، ذلك أن الدولة العلمانية لها هي الأخرى"خيارها العقدي"، وهذا الخيار هو ما يجعلها تفقد دور الحكم بين الأديان، بل تفرض عقائدها على المواطنين. ويرى المؤلف أن هناك نوعين من العلمانية، العلمانية الغافلة التي تدفع الإنسان إلى الاستسلام لها بشكل كلي، أي أن المواطن يأتي أعمالا علمانية في الظاهر مقتنعا بها في الباطن، والعلمانية اليقظة التي هي إتيان أعمال علمانية في الظاهر مع ضعف أو غياب الاعتقاد بها في الباطن. وقد يتبادر إلى الذهن هنا ذلك التمييز الشهير بين العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة لدى المفكر الراحل عبد الوهاب المسيري، بيد أن المسيري يميز بين النوعين بناء على النظامين الاجتماعي والسياسي، بينما يميز عبد الرحمان بين النوعين بناء على الموقف الأخلاقي للفرد. انطلاقا من هذا الموقف يرى طه عبد الرحمان أن العلمانية ليست نمطا لتدبير النقاشات الدينية بين المواطنين، كما تفعل في تدبير النقاشات السياسية، لأنها هي نفسها دين، ولذلك لا بد أن تكون متحيزة إلى نفسها. وهو لا يرى فرقا بين الدولة العلمانية كما تم توصيفها والدولة الدينية أو الثيوقراطية، أي"الدولة التي يسود فيها رموز الدين ويحكمون باسم الدين". ويميز بين نوعين من الثيوقراطية، الثيوقراطية الحصينة، وهي التي"تلتزم بإقامة الدين في كليته مقاومة الفصل العلماني"، والثيوقراطية الهجينة، وهي التي"لا تلتزم بإقامة الدين في كليته ولا تقاوم الفصل العلماني"، ويرى بالتالي أن النوع الثاني لا يشرف على أية سجالات دينية تثمر حلولا مشتركة لا في مؤسسات عامة ولا في فضاءات المجتمع، غير أن الفرق بينهما هو أن الأولى"تصرف الشأن الديني صرفها للعنف المادي في التعامل مع المواطنين، بينما الثانية تستأثر به استئثارها بالقوة المادية في الفصل بين المواطنين، ولا يقل ضرر الاستئثار بالدين على الوجود الإنساني عن ضرر صرف الدين، بل قد يكون أسوأ منه درجات لا تحصى، ذلك أن الصرف العلماني يترك للمواطن حق الاجتهاد في دينه ولو إلى حد معلوم، في حين أن الاستئثار الثيوقراطي يحرم المواطن من هذا الحق كليا، فحقيقة الدين لا تنحصر، كما يتوهم بعض المستأثرين بالدين ، في إتيان بعض رسوم العبادات وإصدار بعض الفتاوى، وإنما في إحياء الروح التي بها حياة كل مدارك الإنسان، بدءا بالعقل وانتهاء بالحس، فما توسع العقل إلا من التشبع بمعاني الدين"(215216). كيف يرسم طه عبد الرحمان علاقة الدولة بالدين؟. سواء في الدولة العلمانية أو الدولة الثيوقراطية فإن هيمنة الدولة على الدين أمر ثابت، لأن كلتيهما تدبر الدين بالطريقة التي تراها، والمخرج بالنسبة للمؤلف هو ما يطلق عليه"مبدأ اختيار منهج التدبير" الذي يقرره المجتمع، لأن تدبير المجتمع للدين"تدبير طوعي"، بينما تدبير الدولة له"تدبير قهري"، وإذا كانت الدولة العلمانية تخل بمبدأ الحياد اتجاه الدين، فإن الدولة الثيوقراطية تفرض على الفاعل أو المواطن أن يتعبد على طريقتها"قدرا وشكلا". العلمانيون والديانيون إذا كان طه عبد الرحمان يرفض الفصل بين الدين والسياسة لدى العلمانيين، فهو يرفض بنفس القدر الوصل الذي يقيمه"الديانيون" بينهما، وحاصل الموقف لديه أن العلمانيين نجحوا في الاتفاق على هذا الفصل بينما فشل الديانيون في الاتفاق على الوصل. ولكي نخرج تعبيرات المؤلف من طابعها الفلسفي الصارم نقول بأن العلمانيين اطرحوا الدين جملة بينما حاول الديانيون الوصل بين جزء منه فقط وبين السياسة، أي أنهم قاموا بتجريء الدين واختزاله في الجانب الفقهي الظاهر وأهملوا الجوانب الأخرى التي تشكل مجتمعة ما نسميه الدين. وقد تجلى الاختلاف بين الديانيين على طريقة الربط بين الدين والسياسة في انقسامهم إلى أربع طوائف يسميها المؤلف: أهل التسييس، وهم القائلون باندراج الدين في السياسة، وأهل التديين، وهم القائلون باندراج السياسة في الدين، ثم أهل التحكيم وأهل التفقيه، وهاتان المجموعتان معا تقولان بتطابق الدين والسياسة، ويستطرد المؤلف هنا قائلا"إلا أن أهل التفقيه استطاعوا أن يقيموا دولة تعمل بموجب هذا التطابق"(319)، والإشارة صريحة هنا إلى إيران حيث تسود ولاية الفقيه. ويقصد المؤلف بأهل التسييس"بعض الحكام في الدول الإسلامية"، الذين ينهجون طريقة في الوصل بين الدين والسياسة"لا ترتضيه المجتمعات التي يحكمونها"، بسبب كونهم جعلوا الدين تابعا للسياسة دون أن يتحرجوا من مخالفة أوامر السلطة الإلهية"إما متعاطين لتأويل النصوص الدينية بما يؤيد هذه المخالفة أو مستنكفين من طلب أية مشروعية لهذه المخالفة في هذه النصوص متى تيقنوا من أن هذا الاستنكاف لا يضر بسلطتهم". أما الطوائف الثلاثة الأخرى فهو يضعها جميعها في خانة واحدة مقابل الطائفة السابقة، لأنها تشترك كلها"في إظهار أنهم يحرصون في ممارسة سلطتهم السياسية البشرية على أن تتوافق مع أوامر السلطة الإلهية، إن صراحة أو ضمنا، مستحضرين أسباب ومضامين ما أنزل من الوحي الإلهي، ومؤولين لها بوجوه محددة"، كما أنها تشترك في أن أصحابها يحاولون إظهار أنهم"يهتمون بالتعبد بهذه الممارسة السياسية نفسها". غير أن مفكرنا عندما يضع ذلك التقسيم فهو في الواقع يشير بطريقته إلى "أهل الحكم" بأهل التسييس، وإلى"أهل المعارضة" بأهل التديين، فالمسألة تتعلق هنا بالموقع الذي يوجد فيه صاحب الوصل، إذا أبقينا على المعجم اللغوي للمؤلف. ذلك أن دين الحاكم ينتهي مع الاعتياد والروتين إلى أن يصبح تحت طائلة المعارضة، وهو ما يحصل في إيران مثلا بين من يسمون ب"رجال الدين" وبين من يطلق عليهم"الإصلاحيين"، مع كونهم معا ينتمون إلى عموم الدين وهو الإسلام وخصوص المذهب وهو الإثنا عشرية، وحصل في السعودية مع أن الحكم فيها انطلق دينيا، كما حصل في السودان مع انقلاب عام 1989 مع أن الذين قاموا به هم"أهل التديين" باصطلاح مفكرنا. وعندما يتحدث عن"الأوامر الإلهية" فهو يتحدث عنها وكأنها أوامر ناجزة ومنضبطة، والحال أن الاختلاف في تلك الأوامر الإلهية وطرائق تنزيلها هو ما كان دائما محل خلاف بين مختلف الطوائف وما يزال. ونفس الأمر عندما يتحدث عن التأويل لدى أهل التسييس، ثم عن نفس التأويل لدى الطوائف الأخرى، بطريقة يفهم منها أن هناك تأويلا محمودا وآخر مذموما، وهي مقابلة غير صحيحة لأن سلطة النص في الإسلام كان يصاحبها دائما سلطة التأويل، فالتأويل إذن"أعدل قسمة" بين مختلف الطوائف الواصلة بين الدين والسياسة، إذا جاز استيراد تعبير ديكارت عن العقل. الطريق الثالث:الائتمانية وبعد أن يلاحظ المؤلف على مختلف الطوائف الأربع أنها اقتصرت في تعاملها مع الدين على"الأمرية"(والمقصود بها هنا الفقه والسلطة الفقهية) ولم تتجاوزها إلى"الشهودية"(وهو مفهوم واسع ومرتبط بالشفوف الصوفي، لكن يمكن اختصاره في عبارة واحدة هي:استحضار الذات العلية)، يخلص إلى أن السبب هو أنها لم تقتحم العمل التزكوي"إما إنكارا له أو جهلا به أو تقاعسا دونه،ففاتها أن تعرف كيف أن الروح تصل بين التدبيرين:الديني والسياسي بفضل شهود المدبر الأعلى فيهما، بحيث يصبح التدبير تعبدا والتعبد تدبيرا"، وواضح أن المقصود بالعمل التزكوي لدى المؤلف التربية الروحية. ولا يرى طه عبد الرحمان في نقائص الديانيين مجرد غياب العمل التزكوي، بل يلاحظ عليهم أنواعا من الخلل حتى في الجانب الخاص الذي اهتموا به في الصيغة التي اختاروها للربط بين الدين والسياسة. أول أنواع هذا الخلل هو"التشويش المفهومي"، ويتمثل ذلك في اقتباسهم لمصطلحات علمانية دون أن ينجحوا في وضع مصطلحاتهم الخاصة المنبثقة عن حضارتهم، لذلك يقول إن"الدياني يتوزع فكره تراث غني وتحديث فقير"(326)، وثاني أنواع هذا الخلل أن الدياني "لا يتمكن من أدوات البناء المنطقي والنظري تمكن العلماني منها"، والثالث أنه يحاكي العلماني في مصطلحاته وتصوراته كيف اتفق دون أن يكون واثقا من قدرته وثوقه بعقيدته، والرابع أنه يتعرض للحرب فيضطر إلى التقية ويجمع "بين القديم والحديث جمعا مشوها". وللخروج من المأزق الذي وقع فيه الديانيون يضع طه عبد الرحمان صيغة ثالثة للوصل بين الدين والسياسة، يطلق عليها"التدبير التعبدي"، وهو تدبير مبناه على الشهود، ويعرفها بأنها"عبارة عن وحدة أصلية نشأت عن موقف غيبي عظيم خاطب فيه المدبر الأعلى الإنسان". ولتقريب هذا الكلام نقول بأن طه عبد الرحمان يقصد أن الله سبحانه أخذ من الإنسان ميثاقه عند خلقه أول مرة، وحمله الأمانة التي أبت أن تحملها السماوات والأرض والجبال، كما جاء في سورة الأحزاب، فهو إذن اختارها بحرية، وهذا ما يسميه مفكرنا"الاختيار الأول"، لكن هذا الاختيار يقتضي القيام بأداء الأمانة التي وكل بها، وهو ما يسميه"تحمل الأمانة"، والتركيب بين الإثنين هو ما يطلق عليه"الاختيار الائتماني" أو"الدعوى الائتمانية"، المقابلة لكل من"الدعوى العلمانية" و"الدعوى الديانية"، وهو تعبير اشتقاقي من الأمانة(449). والائتمانية عند المؤلف هي الجمع بين الظاهر والباطن في التدبير والتعبد، فهي تشترك مع العلمانية والديانية في الظاهر، لكنها تنفرد عنهما بالباطن الذي تستقل به عنهما. وأخيرا فإن طه عبد الرحمان يحاول في هذا الكتاب أن يؤسس لنظرية جديدة للوجود الإنساني المؤسس على الدين، وإعادة الاعتبار إلى"روح الدين"بعدما أفسدته السياسة فأصبح مجرد طقوس ومظاهر. والذين قرأوا الكتاب على أنه محاولة جدالية مع الإسلاميين بعد الربيع العربي أخطأوا التقدير، لأن الأسئلة التي خاض فيها طه عبد الرحمان لها أصداؤها في التراث العربي الإسلامي، وحاول هو في كتابه تجديد النظر فيها من زاوية تجمع بين الفلسفة والتصوف، انطلاقا من القضايا التي طرحت مع العصر الحديث، خاصة بعد نشأة الدولة المعاصرة التي أرادت أن تكون هي السلطة الوحيدة التي لا سلطة فوقها، والمصدر الوحيد للمشروعية التي لا مصدر يعلو عليها. فإذا كانت المعادلة التي ظهرت في هذا العصر الحديث تنبني على تضخيم الدولة مقابل تقزيم الدين، فإن محاولة طه عبد الرحمان كانت ترمي إلى العكس، أي تضخيم الدين مقابل تقزيم دور الدولة، ورفع وصاية الدولة على الدين، أيا كانت.