ثمة لائحة من القواسم المشتركة تجمع بين الأعمال الأخيرة لطه عبد الرحمن، ونخص بالذكر، كتابيه "روح الدين" و"سؤال العمل"، مع أعمال مصطفى حجازي، نعوم تشومسكي، عبد الرحمن منيف، إدوارد سعيد، هوارد زن، جورج أورويل، إدواردو غاليانو، بيير بورديو.. واللائحة تطول. مجرد الجمع بين هذه الأسماء، يُحيلنا بداية على قاسم مشترك محوري: "قول الحقيقة"، دون سواها، والإحالة هنا على التعريف الأشهر الصادر يوما عن المفكر الأمريكي وعالم اللسانيات نعوم تشومسكي، ومفاده أن "من مسؤولية المثقفين أن يقولوا الحقيقة ويفضحوا الأكاذيب"، كما جاء في ثنايا محاضرة شهيرة وتاريخية ألقاها، ضمن نشاطه السياسي المعادي لتدخل الولاياتالمتحدة في فيتنام، بجامعة هارفارد عام 1966، وجاءت المحاضرة تحت عنوان: "مسؤولية المثقفين". نحن إزاء أقلام تنتمي إلى مجالات تداولية (عقدية ومعرفية ولغوية) مغايرة، وتختلف بالنتيجة في الانتماء لهذه المرجعية الهوياتية أو تلك، ولكنها تتفق بشكل صريح في الانتصار للأدوار المنوطة تاريخيا بالمثقف (أو الفقيه، العالِم، الداعية، الباحث، المفكر، الفيلسوف، المُصلح..إلخ): "قول الحقيقة"، ونضيف مع التعريف المرجعي للألمعي تشومسكي مقتضيات أثر عربي شهير صدر عن الإمام مالك، جاء فيه أن "كُل يُؤخذ من كلامه ويُرد"، حتى لا نسقط في مطب تقديس هذه الأسماء، ونتوقف فقط عند مرتبة التبجيل الضروري والاحترام الواجب، بسبب إكراه العديد من الاعتبارات، أهمها أننا نعيش في زمن عزّ فيه قول بعض الحقائق، وتكاثرت فيه "وزارات الحقيقة"، بمرجعية الأعمال التاريخية للراحل جورج أورويل. (نعتقد أن العودة إلى رائعة "مزرعة الحيوان" لجورج أورويل، سوف تساعد القارئ على حسن قراءة أحداث "الربيع العربي/الإسلامي"). إلى جانب هذا القاسم المشترك الذي يجمع بين هذه الأسماء (قول الحقيقة)، ثمة قاسم مشترك آخر، لا يقل أهمية، ويضفي المزيد من التقدير على المكانة التي يحظى بها هؤلاء لدى النقاد والمتتبعين: تمرير مفاتيح مفاهيمية لفهم ما جرى ويجري، ولا تنقص الأمثلة في هذا الصدد: مع تشومسكي مثلا، يكفي أنه داخل الباب الضيق الذي يضم العشرة الكبار الذين تم الاستشهاد بهم أكثر عبر تاريخ الإنسانية، ومعلوم أننا نجد ضمن هذه اللائحة الضيقة، الأنبياء والفلاسفة. مع هوارد زن، الذي رحل عنا في صمت رهيب في 27 يناير 2010، يطلع القارئ الأمريكي والعالمي على روايات غير رسمية للتاريخ الأمريكي الحديث (منذ قرنين ونيف تحديدا حتى اليوم)، وهي روايات مخالفة بالطبع للروايات الرسمية التي يُحررها المنتصر في الحروب والصراعات، وتذكرنا مثلا، إحالات بما جاء في أعمال منير العكش، أهم باحث عربي اشتهر بفضح المآسي التي تعرض لها الهنود الحمر. مع مصطفى حجاري، وخاصة في رائعته "الإنسان المقهور"، وأيضا "الإنسان المغدور"، وصدرتا عن المركز الثقافي العربي، نطلع على تفكيك رهيب لبنية التسلط والتخلف في المجال التداولي العربي بشكل عام، دون السقوط في الاختزال والتبسيط. وهكذا الحال مع باقي الأسماء وغيرها طبعا، وكلها أسماء تستحق التقدير، هناك في فضاءات مغايرة ومجالات تداولية مختلفة، لا يبدو أن مجالنا التداولي العربي يملك قابلية الاحتفاء بها حاليا، بالرغم من هبوب رياح "الربيع العربي/الإسلامي"، من منطلق أنه يتم تعويض "وزارات الحقيقة" السابقة، ب"وزارات حقيقة" جديدة. نحسبُ أن ثنايا كتاب "روح الدين"، سوف تساهم في و"تأصيل" أو "عقلنة" النزعة الإقصائية التي تُميز مشروع "وزارات الحقيقة" في مجالنا التداولي، في معرض التفاعل العلمي والاحتفالي بأعمال مؤلفه، الفيلسوف المجدد طه عبد الرحمن، والإقصاء هنا لا يهم فقط "وزارة حقيقة" مُعينة دون سواها، وإنما يهم أيضا، ما يمكن أن يصدر عن بعض الفكرانيات (الإيديولوجيات)، يمينية أو يسارية، ومعها أيضا الطرق الصوفية والتيارات السلفية. قبل العروج على معالم "قول الحقيقة" في كتاب "روح الدين"، حري بنا التوقف عند جملة من التساؤلات التي ظلت، منذ ثلاث عقود على الأقل، لصيقة بأعمال أعمال طه عبد الرحمن، ونتحدث عن بعض الأسئلة التي كانت تُروج في كواليس المتتبعين لأعمال صاحب "فقه الفلسفة"، دون أن تجد لها مكانة في النقاش الدائر حول أعماله، سواء كانت أعمال تعريفية أو نقدية، أو تجمع بين الخيارين: 1 يوجد في مقدمة هذه الأسئلة الاستفسار التالي: ما هو موقف الرجل من أوضاع الساحة، سواء تعلق الأمر بما يجري في الساحة القُطرية المحلية (المغرب)، أو الإقليمية أو الدولية؟ 2 ونجد ضمن نفس الأسئلة، موضوع علاقته بطريقة صوفية، نقول هذا ونحن نأخذ بعين الاعتبار تبعات بعض المواقف السياسية التي انخرطت فيها هذه الطريقة خلال السنين الأخيرة في الساحة المغربية. (لن نرتحل مع الإجابة على السؤال الثاني، وإن كنا نحسبُ أن انتقال طه عبد الرحمن من الحديث عن "العمل الصوفي" كما جاء على الخصوص في كتابه المرجعي "العمل الديني وتجديد العقل"، وفي العديد من أعماله نحو الحديث عن "العمل التزكوي" كما جاء بالتفصيل في كتاب "سؤال العمل"، وأيضا في كتاب "روح الدين" قد تدفع المتتبع لأن يطرح العديد من علامات الاستفهام حول طبيعة العلاقة التي تجمع بين الرجل والطريقة الصوفية، وهذا موضوع آخر، ولسنا معنيين بالتفصيل فيه). ..... سوف نُعرج بداية على بعض المفاتيح المفاهيمة (القاسم المشترك الثاني) التي يطلع عليها المتلقي في كتاب "روح الدين"، قبل العروج على معالم "قول الحقيقة" (القاسم المشترك الأول) عند فيلسوف الأخلاق. جاء مقابل "قول الحقيقة" عند طه عبد الرحمن، من خلال ترويجه لمفهوم "الإزعاج الروحي"، حيث استعرض معالمه في ثنايا الفصل الخامس من كتاب "روح الدين"، ويحمل عنوان: "العمل التزكوي ونهاية التسيّد"، والتسيّد هنا مرادف التسلط، بصرف النظر عن طبيعة تسلط النظام الزمني المعني، وطبيعة الفكرانية المؤسسة لطبيعة هذا النظام، سواء كانت مؤسسة على مرجعية قومية أو اشتراكية (الحالة العراقية أو السورية مثلا)، أو مُؤسَّسا على مرجعية إسلامية (الحالة السودانية أو الإيرانية مثلا). يُفرق طه هنا بين ثلاثة أنماط من المقاومات ضد التسيّد (أو التسلط)، وهي المقاومة بالسلطان، المقاومة بالبيان، وأخيرا، المقاومة بالوجدان؛ مُعتبرا أنه إذا كانت الأولى (أي مقاومة التسيّد بالسلطان) تتخذ صورا ثلاثا للوصول إلى الحكم، وهي الثورة والتمرد والانقلاب، وأنه إذا كانت الثانية (المقاومة بالبيان)، تتخذ، لتولي الحكم، صورة الانتخاب، فإن المقاومة بالوجدان، أو ما نُصنّفه في مقتضى "قول الحقيقة" وبالتالي تَحَمُّل المثقف لمسؤوليته الأخلاقية، تتخذ صورة خاصة يُسميها الإزعاج، بما يُفيد أنه لا يتبنى ولا يُروج لخيارات المقاومة بالسلطان أو المقاومة بالبيان، وإنما يتبنى خيار الإزعاج الروحي الذي يُعرفه كالتالي: "نقل من حال أدون إلى حال أعلى" (ص 296)، ولأنه يصعب اختزال معالم ترحال المؤلف مع رؤيته الشخصية لمسؤولية المثقف في قول الحقيقة عبر تفعيل لائحة من مقتضيات مفهوم الإزعاج، فقد ارتأينا التوقف عند بعض الخلاصات الدالة كما جاءت في ثنايا هذا التنظير، وهي خلاصات نحسبُ مجددا أنها تُترجم أجوبة المعني على السؤال المؤرق الخاص بإبداء مواقف مسؤولية وصريحة من أحداث الساعة والساحة، في الرقعة القُطرية أو الإقليمية أو الدولية كما سلف الذكر، وبالتالي، تُترجم طبيعة تعامل مقتضيات مسؤولية المثقف بالأمس واليوم ومستقبلا: قول الحقيقة. مهم جدا التوقف عند بعض أهم مفاتيح مفهوم الإزعاج الروحي في النقاط التالية: الانزعاج شرط في الإزعاج، ولا إزعاج بغير انزعاج، والزاعج لا يستحق لأن يتولى مهمة الإزعاج، حتى يكون قد ترقَّى في أحواله وأخلاقه بالانزعاج، متقلبّا في مراتب الاستبصار والتخلق؛ (ص 297) الإزعاج إرجاع إلى الفطرة، ومن مهام الإزعاج توَلّي المقاوم إحياء روح المتسيّد بعد موتها؛ (ص 298) الإزعاج دفع للتسيّد، والتسيد هنا بقسميه: الاضطرابي والانتخابي؛ وكل قسم منها ينطوي على أصناف ثلاثة من التسيد: التسيد الجلّي والتسيد الخفي والتسيد الأخفى. (ص 298) الإزعاج مبني على الوازع، حيث إن الإزعاج يسعى إلى أن يُولّد في الفرد وازعا من نفسه، حتى يراقب نفسه بنفسه، ممتنعا عن أسباب الظلم؛ ولما كان الإزعاج مقاومة وجدانية تعبدية، كان الوازع الداخلي الذي يُميزه هو وازع الحياء من الله؛ ولا حياء أقدر على دفع ظلم الغير وبسط الأمن بين المحكومين من هذا الحياء، لأنه يجمع بين محبة الله والخشية منه؛ (ص 300) الإزعاج إصلاح للمجتمع، فلو غلب العمل التزكوي على المجتمع، لوُجد من رجال الحكم من يكون قد حظي بممارسة هذا العمل، وانطبع وجدانه بهذه الروح. (ص 302) ..... بعد هذا التنظير لمفهوم "الإزعاج"، نُعرج على بعض مقتضياته على أرض الواقع، من خلال التوقف عند نماذج تطبيقية لطبيعة تفاعل مُسطّر هذا المفهوم مع وقائع الساحة. معلوم أن أبلغ رد لطه عبد الرحمن على قلاقل السؤال الأول (مواقفه من أحداث الساحة العالمية نموذجا )، جاءت بشكل واضح بداية في كتاب "الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري"، والصادر عن المركز الثقافي العربي (ط 1، 2005). نطلع في هذا العمل على قراءة مغايرة لأحداث 11 شتنبر 2001، والتي يصفها الكاتب بأنها "آيات"، على غرار الوصف أو التأمل الذي صدر يوما عن الراحلين جون بودريار وإدوارد سعيد مثلا، ونتحدث عن صنف معين من الأقلام الرصينة التي تبنت خيار "النقد المزدوج" في معرض التعامل النقدي مع الأحداث: 1 بالنسبة لجان بودريار فقد توجه بالنقد إلى الإدارة الأمريكية وتنظيم "القاعدة" في دراسته المرجعية التي جاءت تحت عنوان: "روح الإرهاب"، وصدرت في يومية "لوموند" الفرنسية. 2 بالنسبة لإدوارد سعيد، وعبر صفحات يومية "لوموند" أيضا، سوف يصدر مقالا مرجعيا يحمل عنوان: "صدام الجهالات"، والإحالة هنا على جهل الإدارة الأمريكية وجهل تنظيم "القاعدة"، أما اللجوء إلى مصطلح الصدام، فالإحالة الأبرز والدالة في الواقع، تهم الراحل صامويل هنتنغتون، مُسطّر أطروحة "صدام الحضارات" (والتي سبقها كتاب "الحرب الحضارية الأولى لعالم المستقبليات المغربي المهدي المنجرة). كان علينا انتظار مطلع العام 2012، حتى نطلع على اجتهادات طه عبد الرحمن اللصيقة بموضوع/جدلية الدين والسياسة، مؤسسا اجتهاداته على أرضية لا نجد لها مقابلا لدى الفكرانيات (الإيديولوجيات) السائدة، لاعتبار بَدَهي، مفاده أن الأفق المعرفي لهذه الفكرانيات أو إبستيم هذه الفكرانيات يرفض النهل من حقائق معرفية خارج نسقه الفكراني/الإيديولوجي، سواء كان النسق يمينيا أو يساريا، سلفيا أو صوفيا.. إلخ. ..... نعتقد أنه لا يكفي قراءة "روح الدين" باعتباره آخر إصدارات فيلسوف، وإنما أيضا باعتباره عالِما، معني بترجمة أهم مقتضيات "الإزعاج الروحي"، أو "قول الحقيقة" اللصيقة بدور المثقف/العالِم، كما تجسدت عبر التاريخ، بصرف النظر عن مآلات وتبِعات "قول الحقيقة"، بالصيغة التي جرت مع أرسطو أو جيوردارنو برونو أو أحمد بن حنبل أو نعوم تشومسكي، وغيرهم من الأعلام الكبار الذين لا يمكن أن نتوقع من "وزارات الحقيقة" في المنطقة العربية أن تستقبلهم بالأحضان من أجل إلقاء محاضرة حول أوضاع الساحة/الساعة. هذا غيض من فيض، ومن فيض هذه الانتقادات الصريحة، وبعد التدقيق في طبائع التسيّد في الزمن الراهن، بهذه الجرأة والمسؤولية، فلنا أن نتصور طبيعة التقييم والتقويم الذي يمكن أن يطال أداء تيارات فكرانية محلية أو إقليمية أو عالمية، محسوبة على هذا المجال التداولي أو ذلك، وخاصة المنظومات أو الفكرانيات المعنية بالتفاعل النظري والعملي مع علاقة الدين بالسياسة، أو علاقة التعبد بالتدبر، كما يصفه في تمهيد الكتاب، من قبيل أهل الحاكمية، (الحركات والأحزاب الإسلامية، ومعها التيارات السلفية) أو أهل "ولاية الفقيه"، أو أهل الطرق الصوفية.