ترحال مُمتع ذلك الذي أتحفنا به الباحث المغربي إبراهيم مشروح، على هامش عرض أهم معالم مشروع طه عبد الرحمن، كما جاء في كتاب حديث الإصدار، ويحمل عنوان: «طه عبد الرحمن.. قراءة في مشروعه الفكري». (صدر العمل عن مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي. سلسلة أعلام الفكر والإصلاح في العالم الإسلامي. بيروت. 2009.) وجاء الكتاب موزعا على فصول، تضمن الأول نهج سيرة ومسار طه عبد الرحمن، قبل طرق الحفر البحثي، والموجز في أهم محطات مشروع هذا الفيلسوف المجدد، من خلال أربع فصول، وهي «المنعطف اللغوي المنطقي وسؤال الفكر»، «الحقيقة والمنهج في تقويم التراث»، «فقه الفلسفة وسؤال الإبداع»، وأخيرا، «سؤال الحق ومشروعية الاختلاف». منتصر حمادة التوفيق بين الحداثة والأصالة أبدع طه عبد الرحمن في تفكيك جانب كبير من الإشكالية التي أدمنها الفكر الإسلامي المعاصر، ونقصد بها السعي المؤرق إلى تحقيق توفيق بين المعاصرة أو الحداثة والأصالة أو الإسلام، فهو يتوجه بالنقد إلى التصور التقليدي مثلما يتوجه إلى التصور الحداثي، وتكمن دعوى تأسيس الحداثة الإسلامية في الرهان على روح الحداثة كمطلب يمكن أن يتواءم مع التطبيق الإسلامي باعتباره مجاوزة ممكنة لأعطاب واقع الحداثة الغربية، حيث يدمغ طه في عمله «روح الحداثة» مثلا، المسلمة القاضية بتسييد الإنسان على الطبيعة بالبديل الحداثي الإسلامي الذي يبنيه على مصادرة ما أُطلق عليه «الميثاق العظيم»، قائلا في هذا الصدد: «إذا كان لا بد من ميثاق حقيقي أو اعتباري يعقده الإنسان مع غيره، فلا يمكن أن يكون ميثاقا منحصرا في العالم المرئي كما ذهب إلى ذلك أهل التطبيق الغربي للحداثة، بل ينبغي أن يكون ميثاقا يشمل العوالم كلها، المرئي منها وغير المرئي، وذلك لن الفرد لا يتعامل مع غيره إلا ووسائط تعامله ومتعلقاته تشكل عناصر مأخوذة من عوالم مختلفة.. فيلزم أن تكون هذه العناصر أطرافا سوية في هذا الميثاق العظيم، وهكذا فالتعقيل الإسلامي هو تعقيل يأخذ بهذا الميثاق الكوني الشامل». يوجز الباحث أهم الدعاوى الرئيسية في المشروع الفكري لطه عبد الرحمن، في مجالين اثنين: فقه الفلسفة الذي طلب فيه تحرير القول الفلسفي من التبعية والتقليد وذلك من أجل تحقيق الإبداع الفلسفي المنشود بإنتاج فلسفة عربية أصيلة. تأسيس الحداثة الإسلامية، بناء على النقد الأخلاقي للحداثة الغربية، وذلك من خلال تقديم الجواب الإسلامي على إشكالات العصر الدعاوى السبع للمشروع الطاهائي يحيلنا التفصيل في ثنايا هذا المشروع، على سبع دعاوى، وهي التي ارتحل معها الباحث في هذا العمل التعريفي القيّم باجتهادات أحد أبرز أعلام الفكر العربي الإسلامي الراهن، ونوجز بدورنا هذه الدعاوى كما يلي: 1 دعوى المنعطف اللغوي المنطقي، حيث اعتبر طه عبد الرحمن أن المهمة الأساسية الأولى للمفكر العربي مهمة لغوية، لذلك حشد ما أمكنه من عُدة منطقية ولغوية تزوَّد فيها بأحدث ما جدَّ في الدرس المنطقي المعاصر، وما اسُتحدث من نظريات جديدة في اللسانيات، فكانت المسألة اللغوية منطلق تفكيره ومبتدأ مشروعه. 2 دعوى التكوثر العقلي، وهي دعوى بلورها طه عبد الرحمن في كتابه «اللسان والميزان»،، وبيَّن فيها اشتغال العقل في مضامير منطقية ولسانية ورياضية وبلاغية وأصولية وفلسفية في آن، ومفاد هذه الدعوى تأكيد حقيقة العقل الكامنة في كونه نشاطا وفاعلية وليس البتة ذاتا أو جوهرا قائما في النفس حسب زعم الأقدمين. 3 دعوى تجديد المنهج في فهم التراث، حيث اعتبر طه أن منظوره الجديد لفهم التراث يشكل منقلبا جديدا قام به على وجهة نظر تكاملية وانطوى على محددات ثلاثة أحصاها كالآتي: المحدد التداولي، وقد عدّه مظهرا من مظاهر الإنتاجية في التراث المفيدة أو لغة أو معرفة، وهذا المحدد يتجسد في قيود المجال التداولي. المحدد التداخلي، ومقتضاه اشتراك المعارف في التراث في مسائل إنتاج مضامينها بل ونقلها ونقدها. المحدد التقريبي، وهو نابع من المحدد الأول، ومقتضاه أن يخضع كل منقول لتحويل يُجرى عليه بمقتضى المحدد التداولي. 4- دعوى تخلف الإبداع عن الإنتاج الفلسفي العربي، وتنطلق من توصيف الاشتغال الفلسفي العربي بأنه اشتغال مقلد لا تجديد معه وتابع لا إبداع فيه، إذ لم يدخل الفيلسوف العربي عهد الإبداع والحداثة الفلسفية، فقصارى ما وصل إليه هو محاكاة المتفلسف الغربي، يجتر المفاهيم التي أبدعها هذا الأخير، ويتبنى مذهبه أو فلسفته أو رؤيته النظرية قاصرا عن أن يطاوله أو يجاريه أو يكون ندا له. 5 دعوى النقد الأخلاقي للحداثة الغربية، حيث لا يجد طه عبد الرحمن أي حرج في أن يعتبر النقد الأخلاقي أساسا يستند عليه لنقد الحداثة الغربية، ويتوجه بهذا النقد على الخصوص إلى ممارستها القولية والعقلية والمعرفية، تأسيسا على أصول سطّرها هذا الفيلسوف في كتابه «روح الحداثة»، نوجزها في نقاط ثلاث: إن الأخلاق صفة ضرورية يختل بفقدها نظام الحياة، إن ماهية الإنسان تحددها الأخلاق وليس العقل، إن الأخلاق مستمدة من الدين. 6 دعوى وجوب تأسيس الحداثة الإسلامية، وتتأسس على دعوى شهيرة عند طه عبد الرحمن مفادها أنه: «كما أن هناك حداثة غير إسلامية، فكذلك ينبغي أن تكون هناك حداثة إسلامية»، وتتفرع هذه الدعوى على منحين: منحة فلسفي، ويقضي بمجاوزة النظير الفلسفي لمبادئ الحداثة الغربية، ومنحى إسلامي، ويقضي بضرورة الوفاء لمبادئ إسلامية أوسع وأشمل تتحقق بها الحداثة الإسلامية. 7- دعوى الحق في الاختلاف أو سؤال المشروعية، وهي الدعوى التي اعتبرها المؤلف «عمدة الفكر الطاهائي وذرة سنام عطائه»، من منطلق أنها ترتبط بسؤال المشروعية، أي سؤال الحق في الاختلاف، وتنقسم دعوى المشروعية إلى مشروعيتين كرس لهما طه عبد الرحمن عملين من أعماله، وهما تحديدا «الحق العربي في الاختلاف الفلسفي» و»الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري». وواضح أن غاية ما تصبو إليه دعوى المشروعية هو تحقيق الحرية الفكرية للأمة العربية بتحرير القول الفسلفي من التبعية للفلسفة الغربية، بحيث يقتدر المتفلسف العربي على إنشاء فلسفته وابتكار مفاهيمه، وإيجاد الجواب الإسلامي للأمة الإسلامية، وهذا عين ما اطلع عليه المتتبع على الخصوص في عمله «الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري»، والذي تميّز مثلا، ب»اشتباك معرفي طاهائي» مع بيان المثقفين الأمريكيين الشهير الصادر عقب اعتداءات نيويورك وواشنطن. +++ العقلانية والحوارية والأخلاقية لو شئنا مع المؤلف أن نختزل المشروع الفكري لطه عبد الرحمن لرددناه إلى عناصر ثلاثة ألا وهي: «العقلانية»، و»الحوارية» و»الأخلاقية»، وهي بالمناسبة، شعار مؤسسة «منتدى الحكمة للمفكرين والباحثين» الذي يرأسه طه عبد الرحمن، والذي نظم العديد من الندوات والمحاضرات التي تساهم في «الرضوخ» لمقتضيات الحديث عن «العقلانية»، و»الحوارية» و»الأخلاقية». فمن جهة، استوفى المشروع الطاهائي «العقلانية» من جهة دفاعه المستميت عن توسيع العقل وعدم تضييع آفاقه، كما دعا إلى ربطه بالجانب العملي وتقييده بالغايات والمقاصد السامية، وهذا من شانه أن يحد من تجريد العقل ويحول دون تعريته من القيم بحيث يصير قاعا صفصفا، فيكون لتسيبه الأثر الوخيم على النظر والعمل. وأما عن مكانة «الحوارية» في المشروع الفكري الطاهائي فنلفيها في الطابع المناظر نسبة للمناظرة الذي يطغى على كتابات طه عبد الرحمن، فهو لا يكف عن استحضار أو افتراض المخاطب. وأخيرا، يعتبر مظهر»الأخلاقية» من الظاهر القوية في المشروع الطاهائي حتى أنه يُلقب من قبل بعض البعض بأنه «فيلسوف الأخلاق» فهو ينطلق من تجديد مفهوم الإنسان بإخراجه من التحديد اليوناني الذي اختزل الإنسان في العاقلية: الإنسان حيوان عاقل، إلى التحديد الإسلامي الذي اعتبر الإنسان كائنا أخلاقيا، وهو في هذا يلتقي وفلاسفة غربيين أمثال ليفيناس وبول ريكور وغيرهما. ومعلوم لمتتبع أعمل طه عبد الرحمن أن ما يطبع فكره بشكل جلّي، ذلك التركيز على الجانب الأخلاقي، بدليل، كما أشرنا سلفا، كونه يتبنى من غير أدنى حرج النقد الأخلاقي ويستمد من طرائق المنطق ومناهجه التدليل الأخلاقي، والإحالة هنا خصوصا على كتابه «سؤال الأخلاق» الذي يعتبره، كما جاء العنوان الفرعي «مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية»، لذا نجد النقد الأخلاقي يطال العقل ويطال الممارسة الفكرية وكافة أشكال النظر لأنه إذا كان التصرف الإنساني يتقوم بالقيمة وبالتالي يخضع للنقد الأخلاقي، فإنه، من باب الأولى، أن ينعت الإنسان بكونه كائنا أخلاقيا. +++ الانتصار لسؤال المشروعية هناك مكون آخر من دعامات المشروع الفكري لطه عبد الرحمن يتمثل في كون عقلانيته وحواريته وأخلاقيته تنتظم تحت سؤال المشروعية، فدفاعه المستميت عن الخصوصية الفكرية سواء في كتابه «الحق العربي في الاختلاف الفلسفي»، أو في كتابه «الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري» دفعا به إلى تبرير مشروعية الاختلاف وطرح سؤال المشروعية، وتأسيسا عليه، يرى المؤلف أن طه عبد الرحمن يجيب على سؤال المشروعية: مشروعية الاختلاف الفلسفي كما جسدها «فقه الفلسفة» الذي يدعو إلى إبداع فلسفي/عربي متميز يبرز خصوصية التفلسف العربي ويثبت الحق العربي في أن ينتج خطابا فلسفيا مخصوصا يبرز فيه إسهامه الفلسفي في الفكر الإنساني، ومشروعية الاختلاف الفكري الإسلامي الذي يطبعه الجواب الإسلامي على أسئلة العصر مما يدفع عن المسلمين النقد الذي يوجه إليهم بكونهم لا يتوفرون على إجابات مقنعة عن قضايا تطرح على الفكر الإنساني قاطبة. +++ تقويم القراءات التراثية لما كان أحد أبرز الأعمال التي عرّفت طه عبد الرحمن للمتلقي العربي، كتاب «تجديد المنهج في تقويم التراث»، حيث جزم مؤلفه حينها بأنه اهتم بكلية التراث وجمعية دوائره، وكونه أعاد الاعتبار لجوانب من التراث طالها «التشييع الباطل»، وإحياء النظر وتجديد الاعتبار لجوانب أخرى من التراث طالها «الإهمال الفاحش»، إضافة إلى فتحه باب الإمكانية استئناف «عطاء التراث من انتحال آليات منقولة». كان مُسلما به إذن، أن يتوقف الباحث عند الخطوط العريضة لهذا العمل المرجعي، حيث توقف طه عند بعض الدعامات الأساسية للنهوض بالتراث ونلخصها مع المؤلف كما يلي: - دعامة العناية بآليات إنتاج النص التراثي والتوسل بها في فهم مضامين هذا التراث. - دعامة استخراج آليات إنتاج النص التراثي وتحديث إجرائيتها بشحذ العدة المنهجية التراثية وتأهيلها لمواصلة العطاء واستئناف البناء. - دعامة نقد وتمحيص، أي تلقيح وتنقيح الآليات المنهجية المقتبسة من التراث الأجنبي التي ينبغي تسليطها على التراث الإسلامي. - دعامة جعل تنقيح وتلقيح ينصب على الآليات الغربية مثلما ينصب على الآليات الإسلامية. والنتيجة، أصبح النظر في التراث عند طه أكثر حداثة من غيره وأوثق تاريخية مما عداه، بحكم أنه لم يطلب من الحداثة إلا أدواتها، أي وسائلها الناجعة، كما طلب مواءمة هذه الوسائل لخدمة إشكالاتنا، حتى إنه فتح طريق الإبداع العربي من خلال تجديد إجرائية الآليات المنتجة للنص التراثي، وهكذا تتحقق تاريخية هذا الموقف من التراث من حيث كونه طلب تجديد العطاء والدخول في إبداعية تمسك بالخصوصية لتمد بها التجربة الإنسانية الكونية بناء على استمداد مقومات الحضارة وإمدادها بما يجعلها موصولة بتراثنا الإسلامي العربي. وواضح أن كتاب «تجديد المنهج في تقويم التراث»، ساهم في دحض تحامل جل الباحثين المعاصرين، في الغالب على كثير من الجوانب المشرقة في تراثنا مغفلين القيمة المنهجية والعدة المفاهيمية التي تحملها، فجازفوا بأحكام قيمة يقيدونها تارة بمنطلقاتهم المنهجية المستمدة من الفكر الغربي دون وعي بأصولها وفائدتها المحدودة، وتارة بقناعاتهم الإيديولوجية أو الفكرانية، كما ترجمها طه عبد الرحمن التي تجعلهم تارة يبحثون عن «نزعات مادية» أو عن «عقلانية محاصرة، ويفوتون بذلك على أنفسهم الإنصات إلى كلمة التراث المنحدرة إلينا من أنفسنا. +++ رائد الانقلاب الفلسفي العربي يبقى موضوع مراجعة الفلسفة، كما ارتحل معها طه عبد الرحمن في الجزأين الأزل والثاني من مشروعه «فقه الفلسفة». (خُصّص الأول للفلسفة والترجمة، وخصص الثاني للقول الفلسفي)، ويدل فقه الفلسفة، برأي مُسطره، «المتفلسف على طريق الكشف عن الأسباب التي تثوي وراء التصورات والأحكام الفلسفية، حتى يتبين كيفيات تأثيرها في وضع هذه التصورات وبناء هذه الأحكام، فيقتدر على استثمارها يقابلها من الأسباب في مجاله التداولي، منشئا بذلك تصورات وأحكاما تنافس المنقول، استشكالا واستدلالا، وبهذا ترجع منفعة فقه الفلسفة إلى إخراج المتفلسف عامة، والمتفلسف العربي خاصة، من الجمود على ظاهر المنقول الفلسفي إلى الاجتهاد في وضع ما يقابله إن مثلا أو ضدا». تأسيسا على هذه الأرضية التنظيرية، اعتبر محرر إبراهيم مشروح أننا إزاء «انقلاب فلسفي»، جاء في صيغة علم اقترحه طه عبد الرحمن ووضع أسسه ومنطلقاته وحدد موضوعه ومنهجه وبين أركانه، ويروم هذا الانقلاب الفلسفي مراجعة مدلول الفلسفة وتجيد صلتها بالترجمة وهي مظاهر تركن إلى تجديد السؤال «ما الفلسفة» بإخراجه من دائرة الفلسفة وإدخاله في دائرة العلم، إذ لا يمكن أن تراجع الفلسفة ما لم تتخذ كموضوع لعلم خارج عنها ومحيط بها بالمعنى الذي تفيده الإحاطة باعتبارها إدراكا للمعلوم من كل جوانبه، وهذا العلم الذي يتولى دراسة الفلسفة كظاهرة ذات خصائص وقوانين ذاتية تخصها في نفسها مثل سائر الظواهر الإنسانية. +++ مشروع طه ومشروع ياسين! من باب احترام مقتضيات «كل يؤخذ من كلامه ويُرد»، حري بنا التوقف عند ملاحظة نقدية عابرة جاءت في إحدى هوامش الفصل الخامس من الكتاب («سؤال الحق ومشروعية الاختلاف». ص 235)، عندما اعتبر الباحث أن التفريق الذي سطّره طه عبد الرحمن بين «واقع الحداثة» و»روح الحداثة»، أفرز «خمس نتائج ومسوغات تُشرعن «طلب حداثة إسلامية»، وهي دعوى، برأي الباحث، «تخالف في الظاهر، دعوى أخرى تتعلق بأسلمة الحداثة التي دعا إليها أحد مجايلي طه عبد الرحمن، يتعلق الأمر بعبد السلام ياسين في كتابه «أسلمة الحداثة»، فهمها يلتقيان على المستوى الاستراتيجي، بيد أنهما يختلفان على مستوى تصريف هذه السطرجة». يصعب في الواقع استيعاب أُسس وصواب الحديث عن التقاء طه عبد الرحمن مع عبد السلام ياسين في «الأفق الاستراتيجي»، والأدهى، أن يصدر هذا الحكم الاختزالي عن قلم يُحسب له التوفيق الجلّي في تلخيص مشروع طه عبد الرحمن للمتلقي، في سابقة عربية/إسلامية، من نوعها، في انتظار مساهمات أخرى قادمة في الطريق. ما لم يتفطن إليه الباحث في هذه الجزئية بالذات، كون المشروع المعرفي لطه عبد الرحمن، إلى جانب مشاريع موازية لأعلام من طينة علي عزت بيغوفتش وعبد الوهاب المسيري (رحمهما الله)، ليست موجهة فقط لأبناء المجال التداولي الإسلامي/الأوروبي، في حالة بيغوفتش، أو أبناء المجال التداولي الإسلامي/العربي في حالة المسيري، وإنما لأبناء المجال التداولي الإسلامي/الإنساني أو المجال التداولي الإنساني/الإسلامي، حتى لا يؤاخذ علينا احتكار النطق باسم «الحقيقة الدينية» وهذه لطيفة لم يتفطن إليها أغلب قراء هؤلاء الأعلام، فالأحرى ألا نتوقع أن يتفطن لها من ركب موجة «النقد من أجل المخالفة»، أو «النقد المؤدلج». ومن يتأمل سمات تفكيك المسيري لظاهرة أغاني «الفيديوكليب» مثلا، في مبحثه القيّم الموسوم: «الفيديوكليب والجسد والعولمة»، سيخلُص لا محالة إلى أن هذا التفكيك يفيد حتى المتلقي الياباني والبرازيلي والأوغندي والأسترالي، في معرض فهم الظاهرة وحُسن التعامل معها، وينطبق ذات الأمر على طه عبد الرحمن، في مقاصد كتابه «سؤال الأخلاق»، أو «روح الحداثة»، لولا أن يتم اختزال هذه المقاصد وهذه «الأفكار الطولى»، في خانة مقاصد حركات وأحزاب إسلامية يُؤاخذ عليها «اختزل الإسلام في إيديولوجيات حركية»، أمر لا يليق بأهل النقد والتقويم والتفكيك الذي ينفع الناس. يتبع