كتاب آخر صدر للفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن، (موازاة مع صدور كتابه القيّم الذي يحمل عنوان "روح الدين.. من ضَيق العَلمانية إلى سَعة الائتمانية")، ويحمل عنوان: "سؤال العمل: بحث عن الأصول العملية في الفكر والعِلم"، (صدر عن المركز الثقافي العربي، بيروتالدارالبيضاء، ط 1، 2012، في حدود 325 صفحة). والكتاب عبارة عن ترحال مُمتع في مجالات فكرية وعلمية مختلفة، ويُترجم رؤى المؤلف بخصوص لملامح "العمل على مقتضى التعبد لله وحده؛ إن وجدناها أبرزناها وسعدنا بها؛ وإن لم نجدها وهي الحالة الغالبة حاولنا أن نُنبّه على الحاجة إلى تداركها وأن نقرّب دلالاتها إلى القارئ، عسى أن يأخذ بها، وإلا فلا أقل من أن يتأملها أو، أدنى من ذلك، أن يعلم أن غلبة النظر على العمل الموروثة عن المتقدمين تقرير لا مُسوّغ له، وأن الطريق الذي اتّخذه العمل عند المتأخرين لا حتمية فيه ولا حرية معه، وأنَّه، في الإمكان غير البعيد، سلوك طريق آخر في العلم يُحرّر الإنسان من أسباب الضيق والرّق في هذا العالم متى شاء أن يتذكر أن له خالقا لا تزال تتسع عوالمُه ورازقا لا تنفذ خزائنه"، كما نقرأ ذلك في خاتمة المدخل المطول (جاء في 24 صفحة بالضبط). (ص 37). افتتح الكتاب القيّم بمدخل تحت عنوان: "ما العمل؟"، قبل العروج على ثمانية فصول كانت عناوينها كالتالي: الفصل الأول: "الفلسفة التداولية والاستقلال الفلسفي"، الفصل الثاني: "في مفهوم العقل: إشكالات وإيضاحات"، الفصل الثالث: "الأخلاق العالمية: مداها وحدودها"؛ الفصل الرابع: "العمل الديني وأخلاق الحرية"؛ الفصل الخامس: "القول الثقيل والترجمة التأصيلية"، الفصل السادس: "عولمة الاقتصاد وأزمة القِيم"؛ الفصل السابع: "العلاقة بين الدين والعلم: أَطَلَبُ المعنى أم طلب العمل؟"؛ الفصل الثامن: "البحث في الخلايا الجدعية بين إرادة الخلود ومحنة الجنين"؛ كما اختتم العمل بملحقين، جاء الأول تحت عنوان: "كيف نُجدّد النظرَ في الصلة بين العلم والدين؟"، أما الثاني، فجاء عنوان: " كيف نُجدّد النظر في الصلة بين العلم والفكر؟". ويُلاحظ أن المراجع المعتمدة باللغات الأجنبية في هذا الكتاب (وموزعة عناوينه على ثماني صفحات)، أكبر بكثير من المراجع المعتمدة باللغة العربية (أربع صفحات)، حيث مناقشة ندية ضد رموز الفكر الغربي، في العصر الحديث على الخصوص، ونتحدث عن لائحة من الرموز التي اجتهدت العديد من الأسماء العربية المعاصرة في النقل عنها أو تقليدها، مُكرسة تبعية علمية، عوض تبني خيار "الاشتباك المعرفي"، من باب الأخذ والعطاء، وليس من باب الأخذ والتقليد. وما قد يوجز أهم ثنايا العمل، أن مدارُه كلّه على العمل الذي يَتعبّد للخالق ولا يتسيّد على الخَلْق، كما أن المؤلف وهو رجل الدرس المنطقي الأول في مجالنا التداولي لم يضعه، جريا على عادته في كتبه السابقة، على ترتيب مُنسّق يجعل آخره متعلقا بأوله تعلق الاستلزام المنطقي، بحيث يوجب على القارئ الالتزام بهذا الترتيب لكي يحيط بمضمونه، وإنما جعل فصوله يستقيل بعضها عن بعض لا بإطلاق، بحيث يتضمن كل فصل منها العناصر الضرورية لتحصيل مضمونه كاملا غير منقوص. على الرغم من هذا التأطير المنهجي "المفتوح"، فإن القارئ لا يسعه إلا أن ينبهر للبنية المنهجية الصارمة والعدة المعرفية الرصينة التي تُميّز العمل، على غرار السائد مع أغلب أعمال طه عبد الرحمن، ومن هنا صعوبة قراءة أعمال الرجل مقارنة مع أعمال أدبيات أهم رموز الفكر الإسلامي المعاصر، سواء تعلق الأمر بالرموز العربية (أبو يعرب المرزوقي، حسن حنفي، عبد الله العروي، الراحلون محمد أركون ومحمد عابد الجابري ونصر حامد أبو زيد، تغمدهم الله تعالى برحمته الواسعة..) أو الفارسية (عبد الكريم سوروس وداريوش شايغان..) أو التركية (فتح الله غولن..) أو تلك المقيمة في الغرب (علي عزت بيغوفيتش، رحمه الله، وطارق رمضان على سبيل المثال لا الحصر). من باب تزكية ما نروم قوله، نتوقف عند مثال دال/نموذجي، كما جاء في كتاب "سؤال العمل"، ويتعلق بثنايا الأبواب الفرعية التي جاءت موزعة في الفصل الثاني الذي يحمل عنوان: "في مفهوم العقل: إشكالات وإيضاحات"، وهو أطول فصل بالمناسبة، ويصعب الجزم بأنه أهم فصل، بحكم نوعية ورصانة باقي الفصول، لولا أن ميزته الأهم، تكمن في كونه يُقوّض (حتى لا نقول ينسف) أدبيات عرب الحداثة المُقلّدة، من الذين تَعوَّدوا على تقديس المنظومة "العقلانية"، جاعلين منها "إلها خفيا"، أو "إلها موازيا"، وفي أسوأ الأحوال، فكرانية/إيديولوجية تعلو ولا يُعلى عليها. نجد أن الفصل الثاني إذا، يتفرع على العناوين (الأبحاث) التالية: إشكال الترادف بين العقل والنطق؛ إشكال تعريف العقل بالجوهر؛ إشكال الفصل بين العقل والحس؛ إشكال الفصل بين العقل والقلب؛ إشكال الفصل بين العقل والخُلُق؛ إشكال الفصل بين العقل والشرع؛ إشكال الفصل بين العقل والوحي؛ وأخيرا، إشكال الفصل بين العقل والإيمان؛ ورُبَّ معترض على مقتضيات اللجوء إلى هكذا تفريق بين "القلب" و"الشرع" و"الوحي" و"الإيمان" مثلا، لولا أن المطلع على ثنايا هذه الفصول الفرعية، بذلك البناء المنطقي الطاهائي، تشفع لهذا الفيلسوف المُجدد اللجوء إلى هذا التقسيم والتدقيق. ولتوضيح ذلك، نورد أهم خلاصات هذه الإشكالات الأربعة (ضمن الإشكالات الثمانية الواردة في الفصل الثاني، من كتاب جاء موزعا على ثمانية فصول): 1 في خلاصة التفكيك الطاهائي لإشكال الفصل بين العقل والقلب، نقرأ أن هذا الفصل أفضى إلى ترسيخ الاعتقاد لدى جمهور المسلمين بأن العقل جوهر كائن في حيّز مخصوص من القلب أو الدماغ، وجعل فقهاءهم يولون اهتمامهم بالأساس لظاهر موافقة الأفعال للأحكام، ويُهملون القيم الأخلاقية التي تنبني عليها، كما مَنَع علماءهم من تأمل أنواع الآفات التي يُحتمل أن تدخل على المعرفة العقلية؛ والحقيقة أن القلب هو مصدر الإدراكات العقلية التي تتميّز بشدة التقلب ومتانة الصلة التي تربطها بكل قوى الإدراك التي يملكها الإنسان، بحيث يكون في سلامة القلب سلامة المعارف والمدركات؛ كما أن القلب هو مصدر القيم الأخلاقية التي تنبني عليها الأحكام الشرعية، بحيث يكون في صلاحه صلاح الأعمال والتصرفات؛لا (ص 77) 2 فيما يتعلق بإشكال الفصل بين العقل والشرع، يرى صاحب "فقه الفلسفة" (في جزئيه الأول والثاني)، أن هذا الفصل يرجع إلى تأثر علماء المسلمين مبكرا بالأفكار اليونانية التي نشرتها فيهم مدارس اللاهوت المعاصرة لهم، وكذلك إلى أخذِهم بالفَرْق اليوناني بين "اللوغوس" (القول البرهاني) و"الميتوس" (القول القصصي) تذكروا أعمال محمد أركون على وجه الخصوص، وبدرجة أقل، يوسف الصديق أو بينه وبين "القول الخطابي"، كما أنه يعود إلى كونهم لم يتأملوا حقَّ التأمل الوجوه التي تقع بها المقابلة بين العقل والشرع، وهي: "المصدر الأصلي" و"المضمون الدلالي" "والكيفية البيانية"، وإلا كانوا قد أعادوا النظر في هذا الفصل، ورتَّبوا العقول باعتبار تداخلها مع العمل الشرعي درجات ثلاث: "العقل المجرد من العمل الشرع"، و"العقل المسدَّد بمقاصد هذا الشرع"، و"العقل المؤيَّد بوسائل الشرع". (ص 94) (لمزيد من التفصيل في الفروق الجوهرية بين "العقل المُجرد" و"العقل المسدَّد" و"العقل المؤيَّد"، أنظر بالطبع، كتابه المرجعي الذي يحمل عنوان" العمل الديني وتجديد العقل"، والذي لا غنى عنه لأي باحث في قضايا الحقل الديني، أو قضايا الحركات الإسلامية، ومعها الطرق الصوفية، وقد صدر الكتاب سنة 1989 عن المركز الثقافي العربي، وعندما نتحدث عن عام 1989، فإننا نتحدث عن حقبة ما قبل اعتداءات نيويورك وواشنطن المؤرخة في 11 شتنبر 2001، والتي سوف تفرز لائحة عريضة من الباحثين و"المتخصصين" في قضايا الحقل الديني، في هذا المجال التداولي أو ذلك.. للمفارقة الصارخة). 3 أما بالنسبة للفصل بين العقل والوحي، فقد اعتبر صاحب أطروحة "الزمن الأخلاقي الإسلامي" أن هذا الفصل يقوم على حمل العقل على معنى "الرأي" وحملِ الوحي على معنى "النقل" وعلى اعتبار الوحي خبرا خارجيا متسلطا على العقل؛ وقد اتضح (في ثنايا تفكيك الطاهائي لهذا الإشكال) أن الرأي إنما هو جزء من العقل وليس كلَّه، وأن النقل إنما هو خبر منقول، فأشبَهَ النظرَ، وأن الوحي لا يضر مطلقا باستقلال العقل، بل، على العكس، يوسِّع نطاقه بفضل ما يَمدّه به من أسباب التسديد والتكميل والتعليم؛ كما اتضح أن قدرة العقل المجرّد، أي غير المتشبِّع بالعمل الشرعي، تظل محدودة، إذ لا يقدر أن يتصور أي شيء إلا على صورة ظواهر متحيزة وموسوطة كما أنه لا يقدر على عَقِل نفسه ولا على عقْل كل شيء فيما ينظر فيه ولا على عقْل الحقائق الثابتة. ( ص 103). 4 وأخيرا، وفيما يتعلق بالفصل بين العقل والإيمان، فإنه ينبني عند المؤلف على افتراضين، أحدهما أن العقل لا إيمان فيه، وهذا باطل، لأن الدليل العقلي لا بد فيه من التسليم غير المدلَّل ببعض القضايا المعتبرة وبعض القواعد المقرَّرة، فضلا عن أن التوسل بالعقل يوجب تحصيل الإيمان به، حتى تثبت فائدة العقل وتظهر مشروعية التوسل به؛ والافتراض الثاني، أن الإيمان لا عقل فيه؛ وهذا أيضا باطل، لأن الخطاب الديني يتعلق بالمكلّفين، ولا تكليف إلا على من قام به شرط العقل، فضلا عن الأدلة والآيات التي يسوقها لإثبات أصله الإلهي وما يقتضيه من التصديق القلبي، بحيث ينبغي التسليم بوجود عقل أكثَر توسعا من العقل المجرَّد؛ وميزة هذا العقل الموسَّع ذي الأصل الديني أنه يجمع إلى الحقائق الوجودية التي يتوصل إليها العقل المجرَّد حقائق إيمانية يضيق عنها هذا العقل، وهي التي ينبغي أن تتأسس عليها حقائقه، حتى تكتسب معناها ويستوي مبناها. (ص 110). يطلع القارئ على المزيد والمفيد في ثنايا "سؤال العمل"، ونتوقف عند نموذج آخر وأخير، ويتعلق باجتهاد طه عبد الرحمن في تقويم أعطاب العولمة، ونحن نعيش منذ سنوات، على إيقاع أزمات اقتصادية ومالية عالمية؛ بما يتطلب أولا تمرير التعريف الطاهائي لمنظومة العولمة، وجاء كالتالي: "العولمة عبارة عن انتشار تسليعي في العالم يوصّل إلى الإخلاد إلى هذا العالم المرئي عن طريق العمل بالقيم التالية، وهي: "الحرية المتسيبة" و"التنافس المفترس" و"الربح المتوحش" و"الأنانية المفرطة" و"القوة المستبدة" و"المادية المنسَّقة". (ص 213)، ونحسبُ أنه لم يسبق لأي قلم كوني (عربي أو برازيلي أو ياباني أو سويدي.. إلخ)، أن سَطَّرَ هذا التعريف الذي يكاد يكون تعريفا جامعا مانعا لمنظومة العولمة. نأتي للبديل الطاهائي الذي يروم تقويم اعوجاجات/أعطاب العولمة، وجاء تحت عنوان: "الأخلاقيات الفطرية وعلاج آفات العولمة"، موزعا على ثلاث مُسلّمات أساسية ومرجعية، لمن ألقى السمع وهو شهيد، وتؤسِّسُ هذه المبادئ الفطرية لما يُسميه المؤلف ل"لبنات الانتشار التقويمي في العالم"، وجاءت كما يلي: 1 هناك أولا مبدأ الائتمان الفطري، وصيغته: "لتُسلّم بأن الإنسان مؤتَمن على كل مخلوق في العالم، كائنا ما كان"؛ 2 وهناك ثانيا مبدأ التكريم الفطري، وصيغته: "لتُسلِّم بأن الإنسان مكرَّم بتكريم الله له"؛ 3 وأخيرا، المبدأ الثالث، وهو مبدأ التحرر الفطري، وصيغته: "لتُسلّم بأن الإنسان لم يُخلَق للتعبد للمال، وإنما للتعبد لرازق المال"؛ (ص 223) لنا أن نتصور أن صناع القرار المالي والاقتصادي في عالم اليوم أي في عالمنا المرئي (العالم الملكي) الذي يُصر على تغييب دروس ومقتضيات العالم الغيبي (العالم الملكوتي) هؤلاء.. آخر من يُفكر في تأمل هذه المبادئ، لأنها مزعجة للغاية، ومثيرة للقلق الوجودي والأرق المعرفي، وتُؤرق على الخصوص قِيم السوق، وقداسة العقلانية على حد سواء. نكتفي في هذا العرض الإخباري العابر وليس العرض الاستطلاعي لأحدث إصدارات طه عبد الرحمن، بالتأكيد على أنه إذا كان كتاب "سؤال الأخلاق" (صدر عن المركز الثقافي العربي، 2000) قد تميّز بتقديم الأخلاق على العقل المجرّد، مُحدّدا بها ماهية الإنسان فإن كتاب "سؤال العمل"، يتميز بتقديم العمل على النظر المُجَرَّد، مُحدّدا به هوية الإنسان الذي اختار أن يكون آية تكليفية يُستدل بها على الخالق، كما يُستدل عليه بالآيات التكوينية، مُذكرا بقبوله للأمانة ومجتهدا في أداء حقوقها؛ ولمّا كان هذا الاختيار عناية مقدرَّة، فقد ارتقى بأعماله إلى رتبة الأرزاق الباقية التي لا تفنى والمِنَن الواسعة التي لا تضيق. بناء على هذا التصور للعمل التكليفي الأول، اشتغل طه عبد الرحمن بالبحث عن منزلة هذا العمل في مجالات فكرية وعلمية متنوعة، فكشف كيف اتّخَذ نسيان العمل التكليفي في هذه المعارف أشكالا مختلفة وكيف كانت أشكال هذا النسيان سببا في دخول الآفات والشبهات عليها؛ مُبينا أنه بالإمكان أن نُعيد تأسيس كل من الفكر والعلم على أصول علمية تكليفية تضمن له البقاء والسعة اللذين ظل يَطلُبُهما وأن يظفَر بهما. وما كان لهذا الكشف والبيان أن يتوصلا إلى النتائج غير المسبوقة المستجمعة في أواخر الفصول لولا أن هذا الفيلسوف المُجدد خَلخَل كثيرا من المقولات والمُسلَّمات والأحكام والآراء التي باتت تُعد عند الدارسين، فضلا عن الجمهور، أمهات الحقائق ورؤوس المعارف. لنا عودة بحول الله تعالى، بمزيد من التفصيل والتدقيق، لهذا العمل القيّم لفيلسوف الأخلاق بامتياز.