يكتسب التدين أهميته من كونه فطرة فطر الله عباده عليها، وركزها في نفوسهم فما من احد من العالمين إلا ويجد ذلك في نفسه، بحيث لا يستطيع العيش بدونه وحاجة الإنسان إلى التدين أعظم من حاجته إلى الطعام والشراب، ويكتسب التدين أهميته أيضا بالنظر إلى آثاره الإيجابية على الفرد والجماعة؛ ولم تخل أمة من الأمم قديما وحديثا من دين تعتقد به، وقد أقر علماء مقارنة الأديان أن فكرة التدين مسألة شائعة بين الأمم رغم تفاوتها في مدارج الرقي، وأن الدين في المجتمعات أسبق من كل حضارة. "" وإذا تأملنا الآية الكريمة من سورة الروم (30) ﴿فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم، ولكن أكثر الناس لا يعلمون﴾ فإننا نلاحظ ما يلي: 1/ الدين فطرة خلق الله تعالى الناس عليها. 2/ هذه الفطرة لا تتغير، ولو تغيرت القرون والبقاع. 3/ الدين يلبي حاجات ملحة في نفس الإنسان، فيجيب عن أسئلة الفطرة من مثل: من أين جئت؟ وإلى أين المصير، ولماذا؟ والدين غذاء الروح، والإنسان جسد وروح، ولابد لكل منهما من الغذاء لينمو، وغذاء الروح هو الإيمان. وهكذا فإن الإنسان بفطرته في حاجة إلى الدين لتغذية روحه، كحاجته إلى الطعام والشراب لتغذية جسده. وقد تظافرت الدلائل الشرعية والحسية على أن التدين فطرة فطر الله الناس عليها. فمن أدلة القرآن الكريم قول الله تعالى: ﴿ وإذا أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ قالوا بلى، شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا فاعلين ﴾ الأعراف / 172. قال جمع من المفسرين في معنى الآية: أن الله أخرج ذرية آدم من صلبه، وأمرهم بعبادته، وأخذ عليهم الميثاق بذلك، فهم وإن نسوا قصة أخذه، إلا أن حقيقته باقية في نفوسهم، وهو ما يعبر عنه القرآن بالفطرة في قوله تعالى: ﴿فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ﴾ الروم/30. ومن أدلة السنة ما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: [كل مولود يولد على الفطرة]. وقد اتفقت هذه الأدلة على أن التدين جبلة إنسانية خلقت مع الإنسان ووجدت بوجوده، إلا أن تنشئته وتربيته – إن كانت على خلاف منهج الله وشرعه – تؤثر سلبا على جبلة التدين، وتنحرف بها عن مسارها الصحيح أما الشواهد الحسية على ذلك فنلمسها من خلال حاجة الإنسان إلى قوانين وأخلاق تنظم حياته، وتضبط سلوكه، ليتميز بذلك عن سائر الحيوان، فإن الناس إما أن يعيشوا من غير دين ينظم حياتهم، ويضبط سلوكهم، وإما أن يتخذوا لهم من يشرع لهم دينا، وإما أن يكونوا على الدين الحق الذي جاءهم بالبينات والهدى، فيكونوا بذلك على وفاق مع فطرتهم التي فطروا عليها فتتنظم حياتهم خير انتظام. فإن اختاروا الأول عاشوا في بهيمية نكراء يأكل الضعيف منهم القوي، وكان اختلافهم عن سائر الحيوان بالشكل والصورة فحسب. وإن اختاروا الثاني فقد اختاروا العبودية لطائفة من البشر، تتسلط عليهم وتذيقهم من ظلمها سوء العذاب فلم يبق إلا أن يحتكموا إلى الدين الحق ليأخذوا منه شرائعهم، ويبين لهم ما يحل لهم فيأتوه، وما يحرم عليهم فيجتنبوه، وهنا تكمن السعادة، ولا سعادة حقيقية للإنسان – أي إنسان- إلا باتباع الدين الذي ارتضاه الله لعباده بقوله: ﴿إن الدين عند الله الإسلام﴾ آل عمران / 19. فهو سبب فوزه وسعادته في الدنيا والآخرة، وفي الإعراض عنه خسران الدنيا والآخرة، قال تعالى: ﴿ومن يبتغي عير الإسلام دينا فلن يقبل منه، وهو في الآخر من الخاسرين﴾ آل عمران 85. لقد أصبح من المؤكد لدى الغربيين أن الإنسان – وإن بلغ من العلم ما بلغ – لا يستطيع أن يعيش بغير دين، بغير إيمان، بغير صلة بالله، وبوحي من السماء. وذلك بعدما فقدت المصداقية في كثير من القوانين الوضعية، والفلسفات المادية، وأصبحت عاجزة عن إيجاد سعادة للبشرية، وتلبية حاجات الإنسانية، وأصبحوا يوقنون بأن الدين هو سر الوجود، وجوهر الحياة، وروح العالم، وهو شيء ليس مفروضا على الإنسان من خارجه، بل هو نابع من فطرته التي فطره الله عليها. والإنسان إذا فقد دينه وإيمانه، فقد نفسه، وفقد جذوره، وفقد أمسه، وفقد غده. والإنسان من غير دين وإيمان، أشبه بالساري في دجى الليل بغير مصباح، والسائر في تيه الصحراء بغير دليل، وراكب البحر وليس معه بوصلة ترشده ولا نجم يهديه، والحياة بغير دين مصادمة للفطرة. لهذه الأهمية لضرورة الدين، نادى المخلصون من العلماء والمفكرين والقادة في العالم بضرورة استعادة دوره في الحياة حتى يقوى الإنسان من ضعف، ويأمن من خوف، ويهتدى من حيرة، ويستقر من اضطراب، وإن بعض الفلاسفة الذين لا يومنون بالدين، لم يمكنهم إلا الاعتراف بضرورة الإيمان الديني، لضبط مسيرة الحياة، وتقوية حوافز الخير، وتقليم أظافر البشر، حتى قال بعضهم: "لو لم يكن الله موجودا لوجب علينا أن نخلقه". وقال المؤرخ توينبي في كتابه "العادة والتغيير": "لقد استطاعت الأديان أن تعلم الإنسان أنه ليس حشرة اجتماعية، ولكنه إنسان ذو كرامة وإدراك واختيار، ولن تستطيع الأيديولوجيات أن تنسيه هذه الحقيقة، لأنها لا تستطيع أن تحقق له الانعتاق الروحي الذي منحته له الأديان" وقد خلص توينبي إلى أن: "التدين هو قلب الحياة للإنسان، وهو جوهر الحياة للإنسانية، وهو النور الذي يغمر القلوب، فلا غنى للإنسان عن الدين، ولن تستطيع الأيديولوجيات أن تحل محل الدين، لأنها تمنحنا التعصب والتباغض، بدلا من أن تمنحنا المحبة والتعاون. إنها قد تمنحنا لقمة الخبز، ولكنها تسلبنا الطمأنينة النفسية والتحرر الروحي". إذا كان هذا هو الباعث الأساسي على صحوة عمالقة الفكر المادي في الغرب، وتسابق أبنائه إلى رحاب الدين الإسلامي للبحث عن السعادة وراحة البال، واعتناقه، فإنهم أدركوا ما لتأثير الدين الإسلامي من إيجابيات في حياة الفرد والمجتمع، وذلك من خلال الأدوار التي يحققها الوازع الديني، فالوازع الديني في النفس البشرية هو خير ضمان لاستقامة الفرد في حياته اليومية، وهو الحارس الأمين لحسن تعامل الفرد مع الآخرين، وهو يرافق الفرد في نهاره وليله رآه الآخرون أم لم يروه. بهذا الوازع يبني الدين ذلك المجتمع الفاضل المنشود الذي تتحقق فيه سعادة الفرد والمجتمع. ويتميز الدين الإسلامي في تلبية حاجات الفرد والمجتمع بأنه: 1/ دين ذو عقيدة ربانية واضحة فلا خرافات ولا أساطير. 2/ دين التوحيد الخالص فلا شرك ولا أوثان. 3/ دين التشريع الكامل الصالح للتطبيق في كل بيئة وفي كل زمان. 4/ دين يربط بين قلوب المومنين برباط متين فيتعاونون على البر والتقوى وفي حالتي العسر واليسر. 5/ دين يكفل انتشار العدل والمساواة، ومكارم الأخلاق، ويحارب صور الظلم والفساد. 6/ دين تكريم الفرد، والحفاظ على مصالح الجماعة. 7/ دين يسخر الكون للإنسان، ويوافق العلم ولا يصادمه، وهو الدين الذي ختم الله تعالى به الأديان، وأكمل به الرسالات، ورضيه للعالمين دينا حتى تقوم الساعة، فهو يراعى مكان المخاطبين أو المدعوين، وزمانهم وظروفهم، ويخاطب كل قوم بلسانهم ليبين لهم، ويجتهد في إفهامهم، حتى يكون بلاغه لهم بلاغا مبينا. كما هو شأن الرسل عليهم الصلاة والسلام ﴿فهل على الرسل إلا البلاغ المبين﴾ النحل: 35. فمن المهم أن يلاحظ هذا الخطاب الديني في عصر العولمة طبيعة التقارب الذي جعل العالم كله قرية واحدة، وأصبح من خصائص هذا العصر سرعة انتقال الخطاب إلى القارات في سرعة البرق. ومن خصائص الخطاب الإسلامي في عصر العولمة أنه يومن بالوحي، ولا يغيب العقل، فهو يومن بالوحي باعتباره أساس كل دين سماوي. فتعاليم الدين وأحكامه ليست من صنع النبي –أي نبي- ووحي فكره، ووجدانه، بل أوحى الله بها إليه بواسطة ملك فتلقاه النبي منه، وحفظه وبلغه للناس كما أنزل عليه. وهو يحترم العقل لأننا بالعقل نفهم خطاب الله، ونفسر كتاب الله، ونستنبط أحكام الله، فقد شاء الله أن ينص على بعض الأحكام في كتابه أو على لسان رسوله، وأن يدع منطقة فارغة من التشريع والأحكام الملزمة تسمى منطقة العفو أخذا من الحديث القائل [ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته، فإنه لم يكن لينسى] ثم تلا: ﴿وما كان ربك نسيا﴾ مريم: 60. وهذه المنطقة – منطقة العفو – مطلوب من العقل أن يملأها – عند الحاجة – بما يهديه إليه اجتهاده في ضوء النصوص الأخرى: إما عن طريق القياس، أو الاستحسان أو غيره من أدلة ما لا نص فيه. وهو: أي الدين يحترم العقل لأنه أذاته الفذة في معرفة الكون من حوله، فهو الذي يكتشف قوانين المادة، ويفسر الظواهر الكونية ويربط بينها، ويستخدمها في مصلحة الإنسان، كما يوظفها في تثبيت الإيمان ﴿سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق﴾ فصلت / 53. إن هذا العقل يجب أن يحترم لدى المسلمين، فلا يعطلوه عن وظيفته الأساسية، وهي التفكير والبحث والاستنباط، والنقد فلا تنحصر مهمته في مجرد التلقي والتقليد والجمود وقبول كل ما يلقن للإنسان دون أن يمتحنه ويفحصه، ويعرف صدقه من كذبه، أو صحته من فساده، أو صوابه من خطئه. ولهذا كان لابد في إثبات الحسيات من دليل المشاهدة ﴿أ.شهدوا خلقهم﴾ الزخرف / 19. ولابد في إثبات النقليات من دليل التوثيق يشير إلى ذلك القرآن الكريم بقوله: ﴿إيتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين﴾ الأحقاف / 4. وكان لابد في إثبات العقليات من البرهان المنطقي، ولهذا تكرر في القرآن الكريم مطالبة أصحاب الدعاوى العقدية أن يأتوا بالبرهان على دعواهم ﴿أم اتخذوا من دونه آلهة، قل هاتوا برهانكم﴾ الأنبياء /24. وقوله تعالى: ﴿وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى، تلك أمانيهم، قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين﴾ البقرة/111. فالمسلمون لا توجد عندهم مشكلة الصراع بين العقل والوحي، أو بين الحكمة والشريعة أو بين الفكر والعقيدة، أو بين العلم والدين، فالدين عندنا علم، والعلم عندنا دين، ومن القواعد المعلومة المقررة عندنا: أنه يستحيل التناقض بين قواطع العقل وقواطع الشرع أو قطعي المنقول وقطعي المعقول، لأن الحق لا يعارض الحق أبدا. ومن خصائص الخطاب الديني الإسلامي في عصر العولمة: أنه يحرص على المعاصرة ويتشرب روح العصر، وخصوصا في وسائله وآلياته، ولا يتجاهل في دعوته إذا دعا، ولا في فتواه إذا أفتى. والمعاصرة لها سمات معينة يجب أن تراعى في وعظ الواعظ، وفي تعليم المعلم، وفي فتوى المفتي، ومن هذه السمات: 1/ العقلية العلمية النقدية. 2/ التجديد الذي يعنى مراعاة تغير الظروف مع عدم التنكر بالضرورة للقديم. 3/ المرونة ونعني بها ثبات الأهداف وتطور الوسائل. ومن خصائص الخطاب الديني الإسلامي (في عصر العولمة) أنه يدعو إلى الروحانية التي هي جوهر الدين ولبه، ولكنه لا يهمل الجانب المادي من الحياة، ويعتبره رجسا من الشيطان؛ ذلك أن الله خلق الإنسان كائنا مزدوج الطبيعة، فيه قبضة من طين الأرض، ونفخة من روح الله، وهذه النفخة الربانية هي التي ميزته عن سائر الحيوانات، وجعلته أهلا لأن يأمر الله الملائكة بالسجود تكريما له، ﴿إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين، فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين﴾ ص 71-72. فإذا اعتنى الإنسان بعنصره الروحي – وأصله سماوي- سما وارتقى حتى يلتحق بأفق الملائكة، وإذا عاش أسيرا وخادما لعنصره الطيني –وأصله أرضي- هبط وأخلد إلى الأرض فينزل إلى حضيض الأنعام، وربما كان أضل منها وأسوأ درجة: ﴿أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا، أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون، إن هم إلا كالأنعام، بل هم أضل سبيلا﴾ الفرقان: 43-44. ولهذا نجد أوامر القرآن ونواهيه اتجهت لتهذيب الجسد والروح. ومن خصائص الخطاب الديني أنه يستشرف المستقبل ولا يتنكر للماضي أي أن يخرج من التقوقع على الماضي، والانكفاء على التراث ليتطلع إلى المستقبل ويستشرف آفاقه، فالمتدبر للقرآن الكريم يجده –منذ العهد المكي- يوجه أنظار المسلمين إلى الغد المأمول، والمستقبل المرتجى، ويبين لهم أن الفلك يتحرك، والعالم يتغير، والأحوال تتحول، فالمهزوم قد ينتصر والمنتصر قد ينهزم والضعيف قد يقوى، والقوي قد يضعف، والدوائر تدور، سواء كان ذلك على المستوى المحلى أم على المستوى العالمي، وفقا لسنته التي أشار إليها القرآن بقوله تعالى: ﴿وتلك الأيام نداولها بين الناس﴾ آل عمران/140. والعبرة من هذه الحالة النفسية الذهنية التي يحيينا بها القرآن، هي ألا يعيش المسلمون في هموم يومهم، ومشكلات حاضرهم، غافلين عن إمكانات المستقبل وآفاقه المرتقبة، وإرهاصاته، ومبشراته أو نذره، فيفاجئوا بما لم يكن في حسبانهم. وبما أن الحياة في تجدد دائم، فالخطاب الديني أيضا يتجدد، وتجدده يكمن في مواكبته لحياة الناس وحضوره القوي لتلبية حاجاتهم وحل مشاكلهم التي يفرزها التطور الحضاري، ومن هنا انطلقت أصوات ودعوات تنادي بتجديد الدين ورفعت شعار الحداثة، وعملية التحديث أو التجديد هو تحدث تلقائيا، وقام بها مفكرون ومجددون ليؤكدوا أن الاجتهاد حاضر لتحقيق مضمون المقولة المتداولة "الإسلام صالح لكل زمان ومكان" ففي كل عصر يسعى علماؤه ومفكروه أن يضيفوا على من سبقهم شيئا جديدا أو يحدثوا نمطا جديدا في عصرهم على أساس أن الحداثة قيمة من قيم الحياة، والتحديث مطلوب في مختلف مجالات الحياة، كما أن العقل البشري يتطلع دوما إلى التجديد لممارسة حق مشروع، وأن المجتمع يتطلع لإفادته بما ينفعه وييسر له نمط حياته. فمبررات التجديد هي التطور المستمر في طبيعة الحياة الاجتماعية مع قابلية النصوص التشريعية للفهم المتجدد، إذ كل جيل من حقه، إذا توفرت فيه القدرة على الفهم والتفسير والتأويل، أن يجدد الفهم بمنظار عصره، ومن الضروري أن يواكب الفكر الإسلامي حاجات الإنسان، ولا يجوز أن يكون معزولا عن قضايا الإنسان. وقد سبقنا بهذا المنهج أسلافنا، وقاموا بدورهم في إثراء الفكر الإسلامي عن طريق الاجتهاد الذي أقره الإسلام، ودعا إليه، إلا أن هذا الاجتهاد الذي يقصد التجديد يخضع لضوابط ضرورية تعطى للتجديد شرعيته وتمنعه من أن يكون تجديد انحراف يقود إليه عقل غير متبصر، وهوى نفس لم تبلغ رشدها وكمالها الأخلاقي، ووسيلة التجديد في الفكر التشريعي هو الاجتهاد الملتزم بالضوابط الشرعية، والذي لا يخل بالنصوص الثابتة خاصة، ويحترم قواعد التفسير المقررة كالالتزام بالمعنى اللغوي الذي أقره علماء اللغة مع مراعاة المصطلحات الشرعية التي أخرجها المشرع من معناها اللغوي العام إلى معنى خاص، دل عليه النص عن طريق أدلة قطعية، ولهذا يجب احترام القواعد الاجتهادية اعتبارا بأن الاجتهاد هو الجهد العقلي المجرد من كل خلفية،والدي يبذله المجتهد في استنباط حكم سليم من دليله، وهو أداة التواصل بين النصوص الثابتة والمصالح المتجددة. ولا نتناسى أو نتغافل عن أن للفكر الإسلامي خصائص ذاتية، وغايات إنسانية تميزه عن الفكر الإنساني منها: إلاهية المصدر الذي يستمد منه المعلومة الصحيحة الثابتة، وهذا المصدر هو القرآن الكريم والسنة النبوية، وهذه الخاصية تجعل الفكر الإسلامي في منأى عن الأهواء والمصالح الإنسانية للإنسان، ويحافظ على الأخلاق الفاضلة، فلا يضل، ولا ينحاز ولا توجهه مصالح الأقوياء الضيقة والمحدودة، ولا تعبث به عواطف أهل الأهواء، فهذه الصفات يتأكد ثباتها واستمرارها لضمان التواصل والتكامل بين الأجيال المتلاحقة، فيكون بذلك الجيل اللاحق مؤتمنا على منجزات الأجيال التي سبقته، مضيفا إليها رؤيته المتجددة لكي تكون صيغة هذا الفكر في متناول الجيل اللاحق، ولن يتحقق هذا إلا إذا كانت الأهداف أخلاقية، والمقاصد إصلاحية. فمنهج الإصلاح إذا لم يعتمد القيمة الأخلاقية في إصلاح المجتمع، وتنظيمه والارتقاء به إلى مستوى الفضيلة بواسطة أحكام شرعية ميسرة غير محرجة، وهو صلة إلى العدل والحق والخير، فمن العسير تحقيق الإصلاح، ومن أولى الأوليات المتحتمة تطهير العقول من الأساطير في مجال العقيدة، لأن الفكر أداة للهداية، وأن الإنسان لا يشعر بإنسانيته التي أكرمها الله بنور العقل، إلا إذا استعمل عقله، في كل عمل يريد الإقدام عليه.