يَأتي هذا المقال في إطار الردّ على قول من سوَّل له هَوَاهُ أن يَصف، بكل نَزق فكريّ واستخفاف خُلقيّ، رسالةَ نبيّ الله (صلّى الله عليه وسلّم) إلى "هرقل" بأنّها «تهديدٌ إرهابيٌّ» وبأنّ تدريسها لتلاميذ الثانويّ يَتنافى، من ثَمّ، مع «حُقوق الإنسان» ومع الدّعوة إلى التّسامُح وحوار الأديان (كأنّ قول «أَسْلِمْ، تَسْلَمْ» يَحتمل أكثر من غيره – مثلا «الجحيم هي الآخرون» أو «الدِّين أفيون الشعوب»- أن يُؤوَّل تحكُّمًا وتشهيًا بذلك الشكل!). وعلى الرغم من أنّ كل شيء في الرسالة المَعنيّة (و، بالخصوص، في سياقها الخاص والعامّ) يُسفِّه ذلك القول ويَفضح سُخْف صاحبه (وهو ما اجتهد وأجاد في بيانه كثيرون كل بحَسَب طاقته وتخصُّصه)، فإنّ هذا الردّ يُرجى منه أن يُؤكِّد لمن يَهمُّه الأمر أنّ دفع "الباطل" لا يكون بالبناء على باطل (سواء أكان قليلا أمْ كثيرا)، وإنما يَتمّ بطلب "الحقّ" صدقا وصوابا حتّى لو لم يَتأتَّ إلّا بالبناء على خلاف ما هو شائع ومُتعارَف. والحال أنّ دفع تُهمة "الإرهاب" عن "الإسلام" و"المُسلمين" لا يَستقيم إلّا بتبيُّنٍ اصطلاحيّ ومفهوميّ فاتَ – مع الأسف- كثيرين، وهو الأمر الذي من شأنه أن يَجعل هُواة «خطاب اللَّغْوَى» يَجدون فُسحةً في لَوْك وترجيع فُقاعاتهم التّضليليّة التي لا تبدو مُثيرةً ولافتةً إلّا لمن أُشرب في قلبه حُبَّ كل رأيٍ شاذٍّ أو قَبُول أيّ قول مُرسَل. ولا بد من الإشارة، ابتداءً، إلى أنّ ما سيأتي إنّما هو بالأساس فقرات من مقال «وجهة الإسلام: بين قُوّته الإرهابيّة وإمكانات استعماله الاسترهابيّة» الذي نُشر في الأصل بموقع «المُلتقى الفكري للإبداع» (03/07/1429ه ؛ 05/07/2008م)، ثُمّ أُعيد نشرُه مُنقَّحا بموقع "هسبريس" («الاسم الآخر لتكريس الهيمنة في العالم: مُحارَبة "الإرهاب"!»، 25 ماي 2010)، قبل أن يُنشَر أخيرا في كتاب «الإسلام يُسائِل الحداثة» (عالم الكتب الحديث، إربد، الأردن، 2013، فصل 9، ص. 113-122). ورُبما ليست ثمة حاجة إلى تأكيد أنّ الأمر، هُنا، يَتعلّق بتحديد وجهة "الإسلام" بما هو دينٌ قائمٌ على طلب "القُوّة" (التي لا تكون، في الواقع، إلّا «إرهابيّة/مُرْهِبة/رادِعة»)، وأيضا بما هو دينٌ يُمكن أن يُستعمَل بشكل «0سترهابيّ/إفساديّ» (بالخصوص في ظل أنظمة "الاستبداد" و"الفساد"). والرِّهانُ كلُّه يدور على التّمييز بين "الإرهاب" (كخوف طبيعيّ مُلازم لكل قُوّة) و"الاسترهاب" (بما هو استعمال للقُوّة بقصد تحقيق أغراض سياسيّة لا تتأتّى إلّا بترهيب الناس الأبرياء وترويع المَدنيِّين). لقد شاع، بين مُستعملِي "ٱلعربيّة"، ٱستعمالُ لفظ «ٱلإرهاب» ترجمةً للمُصطلَح الأجنبيّ «terrorism/terrrorisme». ولفظ «ٱلإرهاب» هذا «ٱسمُ فِعْلٍ» (أو، كما يُسمّى عادةً، «مصدر») مِنْ «أَرْهَبَ(هُ) يُرْهِبُ(ه)» بمعنى «أخافَ(هُ)» و«أفْزَع(ه)». ونجد في «ٱلمُعجم ٱلوسيط» (بما هو واحد من أهمِّ القواميس الحديثة في «ٱلعربيّة»): «الإرهابيّون وصفٌ يُطلَق على الذين يَسلُكون سبيل العُنف والإرهاب ؛ لتحقيق أهدافهم السياسيّة.». ويُفهَم من هذا أنّ لَفْظَيْ «إرهابِيّ» و«إرهابٌ» ٱستُعيرَا، هُنا، لأداء المعنى المُتعلِّق باللّفظيْن الأجنبيَّيْن: صفةُ «terrorist/terroriste»، وٱسم «terrorism/terrorisme». لكنّ أولئك الذين ٱستعارُوا لفظيْ «إرهاب» و«إرهابِيّ» بذلك الشّكل أغفلوا مُقتضًى تداوليًّا يَتحدّد بالِاستعمال القُرآنيّ للَّفظ، وهو الوارد في السياق التّالي: «ولا يَحسبَنَّ الذين كفروا سبقوا، إنّهم لا يُعجزون. وأَعِدُّوا لهم ما ٱستطعتم من قُوّةٍ ومن رباط الخيلِ تُرْهِبُونَ به عَدُوَّ ٱللّهِ وعدُوَّكم، وآخرين من دونهم لا تعلمونهم، ٱللّهُ يَعلمُهم. وما تُنْفقوا من شيء في سبيل ٱللّه، يُوَفَّ إليكم ؛ وأنتم لا تُظلَمون.» (الأنفال: 59-60)، حيث إنّ هذا السياق يجعل لفظ «تُرْهِبُون» يَتحدّدُ بأنّه «فِعْلٌ» بمعنى «تُخيفُون» ؛ ومن ثَمّ فلفظ «ٱلإرهاب» ٱسمُ فِعْلٍ يَدُلُّ على معنى «حُصول أو تحصيل الرّهبة لدى الغير بسبب الخوف اللازِم، بالضرورة، عن كل إعداد للقوّة»، أيْ أنّه «ليس ٱستعمالا مُعيَّنا للقُوّة» ؛ ممّا يَجعلُ فعل «أَرْهَب» يُقابِل ما يُعبِّر عنه الغربيّون ب«terrorize/terroriser» أَو «terrify/terrifier»، بمعنى «خوَّف/فَزَّع». ولذلك، فإنّ الأمر الموجود في الآيتين السابقتين والمُتعلِّق بدعوةِ المُسلِمين إلى «إعداد القُوّة» - مُطلَق القُوّة («ما ٱستطعتم من قُوّةٍ»)، ثُمّ شيء من «القُوّة الحربيّة» («ومن رباطِ الخيل»)- دعوةٌ صريحةٌ إلى «ٱلإرهاب» (ليس بمعنى «ٱلإخافة» أو «ٱلتّخْويف» الناتج حتما عن كل «إعداد للقُوّة»، بل بمعنى «التّهديد بالقوّة تقتيلا وتدميرا»)، بِما أنّ «إعداد القُوّة» مطلوبٌ لغايةٍ تَتحدَّدُ في «إرهاب عدوِّ ٱللّه وعدوِّكم»! ولا يَخفى أنّ من أراد وصم "الإسلام" بأنّه دينٌ إرهابيٌّ سيجد ضالَّته في تَيْنك الآيتين، بحيث لن يحتاج بعدُ إلى البحث عن غيرهما مُتأوِّلا أو مُتكلِّفا! ومن المُؤسف جدًّا أنّ مُستعملِي "العربيّة" المُحدَثين قد وَفّروا ذريعةً قويّةً لمن يَعنيه وصمُ "الإسلام" و"المُسلمين" بتُهمة "الإرهاب"! ذلك بأنّ صنيع أصحاب «المعجم الوسيط» (باختيارهم لفظيْ «إرهاب» و«إرهابِيّ») سيَعُدّه "المُبطلون" تشريعًا لُغويًّا-دينيًّا ل«ٱستعمال ٱلعُنْف لتحقيق أغراض سياسيّة». أفلَا يَكُون، إذًا، ٱستعمالُ العرب والمُستعرِبين الآن للفظ «إرهاب» و«إرهابِيّ» ٱستعمالًا يَجعل «ٱلإسلام» دينًا يُشَرِّع «ٱلإرهاب» (أيْ «دينَ إرهاب» أو «دينًا إرهابيًّا» بالمعنى المُولَّد) ويَجعلُ، بالتالي، المُسلِمين «إرهابيِّين»؟ ألَا يكون هذا تبريرًا لا غُبار عليه للحرب العالميّة ضدّ «ٱلإرهاب ٱلإسلاميّ»، أيْ «ٱلإرهاب الخاص بالمُسلمين»؟ تُرى، إلَى أيِّ حَدٍّ يَقبَلُ المُسلمون أن يكونوا أصحابَ دينٍ يقوم على الدّعوة إلى «ٱلإرهاب» في ظلّ التّوجُّه العالَميّ إلى ٱستئصال «ٱلإرهاب» بِما هو «عُنْفٌ غيْر مشروع» يُهدِّد السلام والأمن وٱلِاستقرار في مُجتمعات العالم المُعاصر؟ إنّ «ٱستعمال القوّة والعُنف لتحقيق غرض سياسيّ مُعيَّن» قد أتى ذِكْرُه في «ٱلقُرآن» نفسه بشأن "مُوسى" مع سَحَرة "فرعون": «وجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ، قَالُوا: "إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الغَالِبِينَ". قَالَ: "نَعَمْ، وَإِنَّكُمْ لَمِنَ المُقَرَّبِينَ!". قالُوا: "يا مُوسى! إمّا أنْ تُلْقِيَ وإمّا أن نكون نحن ٱلْمُلْقِين". قال: "أَلْقُوا". فلمّا أَلْقَوْا، سَحَرُوا أعيُنَ النّاس وٱسْتَرْهَبُوهُمْ، وجاءُوا بسحر عظيم!» (الأعراف: 115-116)، حيث إنّ «ٱسْتَ-رْهَبُوهُمْ» يَعني هُنا «طَلَبُوا إرْهابَهم» أَو «جَعَلُوهم (صَيَّرُوهُمْ) فِي رَهْبَةٍ». ف«ٱلِاسْتِ-رهاب»، إِذًا، هو «ٱستعمال العُنف الماديّ وَ/أَوْ الرّمزيّ طلبا لتحقيق هدف سياسيّ، يَنتُج في - الغالب- عن طريق إرْهابِ النّاس تهديدا وتعنيفا». ومن ثَمّ، كَمْ يكون الوضعُ خطيرًا جدًّا أن يكون «ٱلقُرآن» قد تَضَمَّن أمْرَ المُسلمين بإعداد القوّة «لِإرهاب» عدوِّهم، وأن نجد مَنْ يستعمل - بوعي أَو من دونه- لفظ «ٱلإرهاب» و«ٱلإرهابِيّ» للدّلالة على ما يُسمّى في القُرآن ب"ٱلِاسترهاب» أو «ٱلإفساد»، كعمل من أعمال «المُفسدِين فِي الأرض» عموما، أو ما يَصطلح عليه الفُقهاء ب«ٱلحِرَابة»، كعمل خاص ب«ٱلمُحَارِبين» أو بما يَقترفه «ٱلخوارج» و«ٱلمُتطرِّفون» ردًّا على العنف المُتعسِّف الذي تُمارِسه أجهزةُ الدّولة أو ٱبتدارًا لعُنْفٍ سياسيٍّ لِمُنازَعة السُّلطان القائم! ويبدو، بالتالي، أنّ مُصطلَح «ٱلِاسترهاب» هو الكفيل بأداء معنى «ٱستعمال الوسائل ٱلإرهابيّة/ٱلمُرهِبَة (سواء أكانتْ ماديّةً كالقُوّة أمْ مَعنويّةً كالسِّحر) لأغرض مذهبيّة أو سياسيّة مُعيّنة». وعليه، يكون الإسلام «دينًا إرهابيًّا»، لأنّه قائمٌ على طلبِ «القُوّة المُرهِبَة/الرّادعة»! لكنّه، من النّاحية المَبْدئيّة، ليس «ٱسترهابيًّا» أو «إفساديًّا»، لأنّه دينٌ قائمٌ على «ٱلحقّ» بما هو مجموعة من الأُصول التي تَكفُل «ٱلعدل» و"ٱلتّعارُف» بين النّاس («ٱلتّعارُف» كاعتراف مُتبادَل ومُعامَلة بالمعروف)، وهي الأُصول التي تُقَوِّم «رُوح ٱلشّريعة» كمَقاصد مُثْلَى تَدُور بالأساس على حفظ كرامة الإنسان كمخلوق إلاهيّ مُفضَّل على كثير من العالَمين (يَنسى "المُبْطلون" أنّ حفظ النّفس أولى دائما في الشرع من غيرها إلى حدّ إباحةِ ما هو محظور دينيّا مثل إجازة النُّطق بالكفر للمُكْرَه!). غير أنّ كون «ٱلإسلام» ليس «ٱسترهابيًّا» من النّاحية المبدئيّة، لا يجعله يبقى كذلك في الواقع الفعليّ، إذْ أنّ ٱستعمالات «ٱلإسلام» - كما يُؤكِّدُها التاريخ الماضي والحاضر- يُمكن أن تَتَّخذ مَنْحى «ٱسترهابيًّا» في ظلِّ أنظمة الحُكم الطُّغيانيّة وٱلِاستبداديّة (كما عُرِف، قديما، مع «بني أميّة» و، حديثا، مع معظم نُظُم الحكم في العالم الإسلاميّ) أو في فترات التأزُّم السياسيّ والتّمزُّق ٱلِاجتماعيّ (طائفة الخوارج، طائفة الحَشَّاشين، طوائف التّطرُّف المُعاصرة). وهذا معناه، في الحقيقة، أنّ «ٱلإسلام» قوّةٌ إرهابيّةٌ/مُرهِبَةٌ بالنِّسبة إلى أعدائه وخُصومه (بحُكم أنّ كل ذي قوّة مَرْهُوبٌ)، في حين أنّ «بعض المُسلمين» يُمْكنُهم أن يَكونوا قُوّةً ٱسترهابيّةً - بهذا القدر أو ذاك- حَسَبَ شُروط الواقع المَعيش التي تدفع النّاس، عادةً، إلى التّنافُس والصراع باستعمال كل الوسائل المُمكنة. وذلك كما هو الحال تماما بالنِّسبة إلى كل القُوى الأُخرى عبر التاريخ وفي كل جهات العالَم. ولذلك، فإنّ التّمييز بين «ٱلإرهاب» (كأَثَرٍ مُلازِم للقُوّة) و«ٱلِاسترهاب» (كاستعمال مُعيَّن للقُوّة) يُمَكِّنُنا من تجاوُز ٱلِالتباس المُحيط بهذه الظاهرة البشريّة التي لا تعود، بالتّالي، حِكْرًا على شعبٍ بعينه أو خاصيّةً مُقوِّمةً ذاتيًّا لدينٍ أو مجتمع ما. فكما يُمكن أن يكون «ٱلإسلام» دينًا ٱسترهابيًّا على أيدي أُناس يَستعملونه بكيفيّةٍ مُغْرِضةٍ ومُنْحرِفةٍ، فإنّه يُمكن أن تكون هناك طائفةٌ أو دولةٌ ٱسترهابيّةً لأنّها تستعمل كل إمكانات القُوّة من أجل الهيمنة ٱقتصاديًّا أو سياسيًّا أو ثقافيًّا على المستوى الإقليميّ أو العالَميّ. ومن البَيِّن أنّ «ٱلإسلام»، في دعوته إلى إعداد القُوّة بإطلاق، لا يُمكنه إلّا أن يُرهِبَ أعداءَه، يُرهِبُ منهم العدوّ المُحارِب كما يُرهِبُ الخصم المُنافِق. وإنّ إرهاب «ٱلإسلام» لأعدائه وخصومه لا يَكُفّ عن ٱلِازدياد ما دام أتباعُه يَتكاثرون على نحو لا يُجْدِي في وَقْفه كَيْدُ الكائِدين ومكرُهم باللّيل والنّهار. ومع ثُبُوت صفة «ٱلإرهابيّ/ٱلمُخيف» كخاصيّة مُميِّزة للإسلام، بما هو دينٌ «مُرهِبٌ» و«مَرهُوبٌ» بقوّته، تزداد الحاجة إلى تمييز ٱلِاستعمال «ٱلعُمْرانيّ/ٱلِاست-عماريّ» للإسلام عن ٱلِاستعمال «ٱلِاسترهابيّ/الإفساديّ» له بكل إمكاناته. لذا، فإنّ تحديد مفهوم «ٱلِاسترهاب»، كعُنف إفساديّ غير شرعيّ وغير مَدنيّ، يقود إلى تمييز العمل الإسلاميّ في ٱستناده إلى القوّة الطبيعيّة وفي ٱستكماله للقوّة بواسطة التّسديد الشّرْعيّ على النّحو الذي يَجعلُها قوّةً إصلاحيّةً تُعمِّر الأرض (أو تَستعمِرُها) وتُصلِح بين النّاس بالقِسط والمعروف. ومن أجل ذلك، فإنّ «ٱلجِهاد» في ٱلإسلام يَتحدَّدُ بالأساس ك«مُغالَبة أو مُنافَسة في ٱلجُهد ٱلْعُمْرانيّ/ٱلِاست-عماريّ»، وليس فقط كما يَظُنّ كثيرٌ من النّاس ك«بَذْل للجُهد القِتاليّ». ومن هنا، إذَا كان «ٱلإسلام» يُرهِبُ بقُوّته، فإنّ هذه «ٱلقُوّة ٱلمُرهِبَة» لا تَأخُذ معناها الكامل إلّا بما هي «قُوّةٌ جِهاديّةٌ»، أيْ «قُوّة تعميريّة/ٱست-عماريّة» أو «قُوّة إصلاحيّة وحضاريّة». ولهذا، فإنّ أيَّ تحريف في "ٱلإسلام"، بما هو «قُوّةٌ جِهاديّة»، يُؤدِّي بالضرورة إلى جعله «قُوّة إفساديّة» تَسترهب النّاس وتَستكبر على العالَمين، تماما كما حصل مع الأُمم السابقة التي حَرَّفت هَدْيَ المُرسَلين ٱبتغاءَ العُلُوّ في الأرض وٱبتغاء الفساد، وأيضا مع الأُمم الحاضرة التي تَحتذي حذو سابقاتها من الأُمم المُستكبرة في حرصها على «ٱلِاستعلاء» الذي لا يَنفكّ عن «ٱلِاسترهاب». ومن حيث إنّ ٱستعمالات «ٱلإسلام» المُنْحرفة سُرعان ما تُحَوِّل إمكانات القُوّة فيه (تلك «ٱلقُوّة ٱلمُرهِبَة») إلى نُزوع ٱسترهابيٍّ قائم على «ٱلِاستكبار» على النّاس و«ٱلِاستعلاء» في الأرض، فلا عجب فيما تقوم به أمّة المُسلمين الآن (وعلى الأقل منذ بضعة قرون) كأمّة غُثائيّة خالَفت الأمر الإلاهيّ فصارت تَستكثر بالأعداد وتَزْهَد في كل إعداد، ممّا جعل بعض أبنائها يَقعُون في «ٱلِاسترهاب» على نحوٍ مَكَّن منها أعداءَها الذين ما فتئوا يَتكالَبُون عليها كما يَتكالَبُ الأَكَلة إلى قَصْعتهم (قصعتهم التي ليست سوى خيرات المُسلمين المُستضعَفِين في مَشارق الأرض ومَغاربها). وإنّ ردّ الاعتبار إلى "الإسلام" لا يكفي فيه الظنّ بأنّ مُجرّد إرجاع لَفظ «إرهاب» إلى أصلِه ٱلقرآنيّ كفيلٌ برفع وَصْمَة «ٱلعُنف ٱلإرهابيّ»، بل لا بد من تأصيل يُمَكِّنُ من إعطاء قُوّة تبليغيّةٍ وتدليليّةٍ لمُصطلح «ٱلحِرَابة» أو من ٱبتكار مُصطلَحٍ آخر له نفس الكفاية ليَمنع من خدمةِ أغراض الذين يَتصيَّدُون كل الثُّغْرات لوَصْمِ وتجريح (بل تجريم) «ٱلإسلام» ك«دين إرهابيّ» (أيْ دمويّ ولاإنسانيّ في ظنّهم)، وحتّى لا يستمرّ لفظُ «ٱلإرهاب» - بعد أنْ صار مُصطلحًا قَدْحيًّا، وقد كان لفظا عاديًّا يَحمِلُ معنى قُرآنيًّا- يَعيث فسادًا في الاستعمال السائد! وإذَا كان قد شاع على ألسنة النّاس لفظا «إرهاب» و«إرهابيّ» في الدّلالة على «فعلِ ٱرتكاب مَفاسد معلومة بقصد ترهيبِ ٱلنّاس وإكراههم على ٱلإذعان» (كإزهاق الأرواح وٱختطاف الأشخاص وتدمير المَباني وإتلاف المُمتلَكات)، فإنّ هذا ٱلِاستعمال فاسدٌ تداوليًّا وغير مُفيد دلاليًّا، لأنّه يجعل ما هو مُبْتذَل («ٱلرَّهْبة» أو «ٱلخوف» من بَطْش صاحب القوّة) شيئًا غير عاديّ (ظاهرة «ٱلِاسترهاب» كعُنْف إفساديّ وخطر حضاريّ). حقًّا، إنّ «ٱلإسلام» دينٌ يدعو أتباعَه بشكل صريح إلى إعدادِ كل أصناف القُوّة في مُواجَهةِ أعدائهم وخُصومهم، بل إنّ ٱللّه ليَأمُر عبادَه أنْ يأْخُذوا الدِّين بقُوّةٍ ويُحبّ منهم العبد القويّ. فالإسلام، إذًا، دينٌ «يُرهِبُ» و«يُخيفُ»، لأنّه يَأخُذ بالقوّة ولأنّه دينٌ يَكرَهُ ٱلِاتِّكال وٱلدَنِيّة وٱلِاستسلام. لكنّه، في الوقت نفسه، يُحرِّم الظُّلْم والعُدوان والإفساد في الأرض. فالقوّة التي يَطلُبها الإسلام «قُوّة» قائمة على «ٱلحقّ» كما تُبيِّنه «ٱلشّريعة» كأُصول حاكمة ومُسدِّدة، أُصول تُؤكِّد أنّه «لا إكراه في ٱلدِّين» وأنّ «ٱللّه يأمُر بالعدل والإحسان» وأنّه «لا يُحِبّ ٱلمُعتدين» وأنّه «قد كَتَب ٱلرِّفْقَ على كل شيء» و«أن المُسلم من سَلِم الناس من لسانه ويده» وأنّ «المرء لا يدخل الجنّة إذَا لم يَأمن جارُه بَوَائقه». ومن هُنا، فلا إرهابَ ولا ترهيب في «ٱلإسلام»، إلّا ما كان ممّا تَقتضيه الضرورةُ الطبيعيّة المُتعلِّقة بأنّ «كلَّ ذي قوّةٍ مرهوبٌ». غير أنّ وُجودَ المُسلمين في أوضاع تتميّز، عموما، بشدّةِ التّخلُّف وتجذُّر ٱلِاستبداد وفُشُوّ الظُّلْم يَجعلُهم لا يُمثِّلُون من «ٱلإسلام» إلّا ظاهره ك«دين إرهابي/مُرهِب» موضوع تحت التّصرُّف «ٱلِاسترهابيّ» للقُوَى المُهيمنة في العالَم. وحينما يكون على «ٱلمُبطلِين» و«ٱلظالمِين» و«ٱلمُفسدين» أنْ يَستعملوا القُوّة لِاسترهاب النّاس وإكراههم بكل الوسائل كما جسَّدت ذلك قديما قصة «فرعون» وسَحَرته ضد «مُوسى» (عليه السلام)، وكما تُجسِّده الآن القوّة المُهيمنة والمُتحيِّزة ضدّ المُستضعَفِين في العالَم (وعلى رأسهم العرب والمسلمون)، فإنّ «ٱلإسلام» يُعلنُ أنّ «ٱلجِهاد»، كمُغالَبة ومُنافَسة في ٱلجُهد ٱلعُمرانيّ، لا يكون من أجل دُنيا هَنِيّة ولا تحت راية عُمَّية، وإنّما هو «ٱستفراغ ٱلْوُسْع في ٱلبناء لِٱست-عمار ٱلأرض وٱلإصلاح بين ٱلنّاس». وهكذا، بينما يَتجلّى «ٱلإسلامُ» كقُوّة جِهاديّةٍ تُرهِبُ - بما هي كذلك- كل عَدُوٍّ أو مُعْتَدٍ، يَأبَى «ٱلمُبطِلون» و«ٱلظالمون» و«ٱلمُفسدون» عبر ٱلعالَم إلّا أن يَسْتَخِفُّوا ٱلنّاسَ تَرْغيبًا وتَرْهيبًا بفعل نُزوعهم ٱلِاستكباريّ وٱلِاستعلائيّ الذي يَجعلُهم يَتوسَّلُون - على نحو أساسيّ- «ٱلِاسترهابَ» كعُنفٍ إفساديٍّ خارج كل حقٍّ وخُلُق. وفي هذا السياق، يَندرج ما يَتعاطاه بعض أدعياء "العَلْمانيّة" من تضليل بشأن "الإسلام". إذْ على الرغم من كونهم يُعْلنون أنّهم لا يُهاجمون إلّا «السلفيّة الإسلامانيّة» في توسُّلها بإسلام مُتطرِّف واسترهابيّ، فإنّهم في الحقيقة يَتقصّدُون تنقُّص خصمهم الفعليّ الذي ليس سوى "الإسلام" بما هو مصدرُ مُقاوَمةٍ ومُناهَضةٍ لما يَعْرضونه من توجُّه فكريّ ومذهبيّ ؛ توجُّه يُريدونه عقلانيّا وحَداثيّا، في حين أنه لا يقوم على ألسنتهم وأيديهم إلّا بما هو توجُّه يَتوخّى تعطيل «الإسلام/الدِّين» باسم "عَلْمانيّة" تتنكَّر في رداء الدِّمُقراطيّة وحقوق الإنسان وتخوض نضالا فِكْرويّا وخِطابيّا يَجعلها تتجلّى ك«سَلَفيّة عَلْمانيّة» (لا يتردّد أصحابُها في وصفها بأنّها "عِلْم-انيّة" رغم أنّ كل ما فيها يَرجع إلى فكر فلسفيّ تُجُووِز منذ عُقود حتّى في عُقر داره)! أخيرًا وليس حقيرًا، إنّ من لم يَرَ في قول «أَسْلِمْ، تَسلَمْ» إلّا معنى «إمّا الإسلام وإمّا القتل» يَأبى إلّا أن يَكشف سُوء نيّته و/أو سُوء فهمه: إذْ أنّ قول «أَسْلِمْ، تَسلَمْ» لا يَتضمّن – وَفْق نسق لسان العرب- أَمْرًا، ولا يقتضي بالأحرى تخييرا، وإنما هو قولٌ لا يُفهَم فيه فعل "الأمر" إلّا كشرط مُضمَر («إنْ تُسْلِمْ»، ثُمّ «وإلّا»: أيْ «إنْ لم تُسلِمْ») لا بُدّ له من جواب («تَسْلَمْ»، ثُمّ «يُؤْتِكَ»، وهُما فعلان مجزومان!). فقصدُ القائل، إذًا، ترغيبُ المَقُول له وتحبيبُه في دين "الإسلام" الذي يَقترن به "السِّلْم" و"السلامة"، وليس ترهيبَه بالقتل وسُوء العاقبة كما ظنّ من يَتّبع هواه. وإنّ من غاب عنه إدراك هذا المعنى أو تعَمّد أصلا ألّا يُظْهره، لا يكون فقط مُخطئا، بل إنّه يصير أيضا خاطئا إلى أبعد حدٍّ. ولا أظُنّ أنّ من كان هذا حالَه سيَتواضع ليَعترف بخطئه في الفهم، وبَلْهَ أن يَتُوب عن خطيئته في 0تِّهام من لم يُرسَل إلّا رحمةً للعالَمين ومن شَهِد له أعداؤُه أنفسُهم بأنّه كان على خُلُق عظيم!