« إنّ بين يديْ الساعة لأيّامًا يَنْزِل فيها الجهل، ويُرفَع فيها العلم، ويَكثُر فيها الهَرْج.» (حديث نبوي، "البخاري" و"مسلم" و"الترمذي" و"ابن ماجه" و"أحمد") « ليس خُلُقيًّا أن تكون مُتفاخرًا، أو أن تسعى إلى لَفْتِ الأنظار [...] باستعراض معرفتك. فأنتَ لستَ أكثر من إنسانٍ جَهُولٍ. وإنّه لمن الممكن أن يختلف بعضُنا عن بعض في القليل من الأشياء التي نعرف. لكنّنا نبقى، في مُواجهة جهلنا ٱللَّانهائيّ، سواسيّةً.» (كارل پوپر) من الشّائِع أنّ "ٱلجاهليّةَ" تدلّ على «حالِ ٱلفَتْرة قبل ٱلإسلام». لكنّ كونَ الأمر في "ٱلجاهليّة" يَتعلّق ب«"فاعليّةِ ٱلجَهْل" في نفس "ٱلجاهِل"» يُوجبُ تحديدَها، بالأساس، بصفتها «حالَ ٱلفَتْرة "عن" ٱلإسلام بما هو دعوة إلى "ٱلرُّشد"»، أيْ أنّها «حال كل ٱمرئٍ حينما لا يَتبِّع إلا "ٱلظّنّ" أو "ٱلهوى" فلا يُذْعن لأمرِ "ٱلإسلام" رُشْدًا وحُكْمًا». وبهذا المعنى، فإنّ "ٱلجاهليّةَ" الآن أصدقُ ٱنطباقا على ما يَأتيه "ٱلمُتحادِثون" بيننا في زعمهم لُزومَ "ٱلإحداث" ٱنقطاعًا جذريًّا عن كل تقليدٍ أو ٱتِّباعٍ، وٱنقطاعًا كُليًّا إلى "مُحدثَاتِ ٱلعصر ٱلحاليّ" لكونها في نظرهم قائمةً على "ٱلتّجديد" تشكيكًا وتفكيكًا. فلا عَجب، إذًا، ألّا يكون ٱدّعاؤُهم هذا ل"ٱلحَداثة" سوى تعبيرٍ عن "جاهليّةٍ" تتنكّر في رداءِ "ٱلحَداثة" تلبُّسا بمَكاسبها وتجمُّلا بامتيازاتها! وأكيدٌ أنّ "سِرَاعَ ٱلفِكْر" سيَتلقَّوْن ٱستجهالَ "ٱلحَداثة" هذا (أيْ ٱعتبارها، على الأقلّ في جزء منها، "جاهليّةً") كما لو كان دالًّا على نوعٍ من الفُسولة الفكريّة التي تُعدّ في ظنِّهم حِكْرًا على "ٱلرَّجْعيّة ٱلإسلاميّة"، على الرغم من أنّ لفظ "ٱلجاهليّة" قد ٱطُّرِح حتّى لدى كثير من أدعياء "ٱلفكر ٱلإسلاميّ" الذين لم يَعُودوا يرون فيه إلا ٱنزياحًا خاصًّا بدُعاةِ "ٱلتّطرُّف ٱلإسلاميّ" الذين ٱنقادوا - بين الستينيّات والسبعينيّات من القرن الماضي- إلى الحديث عن "جاهليّةِ ٱلعَصْر" بمعنى "ٱلكُفْر" المُطْبِق على الفترة الحديثة بما فيها المجتمعات الإسلاميّة نفسها. غير أنّ ذلك ٱلِاستغراب (وٱلِاتِّهام المُترتِّب عليه) ليس مُهمّا جدّا، وإنّما الأهمّ أنّه يَستند إلى كونِ مبادئ "ٱلإسلام" وقِيَمه قد صارت عموما عُرضةً للتّهوين والطّمْس والتّشنيع، إلى حدِّ أنَّ مفاهيمَ مثل "جاهليّة" و"ٱستعمار" و"جِهاد" و"شريعة" أُخِذ في تحريف دلالتها بإخراجها عن سياق ٱستعمالها قُرآنيًّا وحديثيًّا لكي تَقبل أداءَ مَعانٍ أُخرى كل غايتها أنْ تُظهِر "ٱلإسلام" كما لو كان دينَ "جهلٍ" و"تخلُّفٍ" و"عُنفٍ"، أيْ دينًا لا يَعرف سوى "ٱلإذعان/ٱلإكراه" و"ٱلغُلوّ/"ٱلتّزمُّت" بعيدا عن كل تَسامُح أو ٱنفتاح. وفي خِضمّ هذا الزّحف على "ٱلإسلام"، فإنّ لفظَ "جاهليّة" - الذي يُنسَى أنّه، قبل كل شيء، مُصطلحٌ قرآنيّ وحديثيّ- قد خضع للتّحريف حتّى بين أيدي من يُسمَّوْن "إسلاميِّين"، إذْ لم يَعُدْ يدُلّ لديهم إلا على «حالةِ العرب قبل مجيء "ٱلإسلام" بصفتهم كانوا في شِرْكٍ وضلال وتجبُّرٍ وكِبْرٍ» أو على «إرادةٍ وتصوُّر يَقُومانِ على قياسٍ مغلوطٍ تُشبَّه فيه حالُ العصر الحديث بعصرٍ ماضٍ عفّاهُ الزمانُ إلى غيرِ رَجْعةٍ». فلا غَرْوَ، إذًا، أنْ يَنْسى (أو يَتناسى) كثيرون أنّ "ٱلإسلامَ" يُمثِّل، بالأساس، رسالةَ تنويرٍ وتحريرٍ، رسالةً تُعرَض على العالَمين طَوْعًا ورحمةً ولا تُفرَض عليهم كَرْهًا ورَهْبةً. ذلك بأنّ "ٱلإسلامَ" ليس سوى "ٱلإذعان ٱلطّوْعيّ" لأمرِ ربِّ العالَمين بصفته الخالِقَ المُنْعِمَ الذي له الحمد وعليه التّوكُّل وإليه المصير. وبهذا فإنّ "ٱلإسلام" يَتحدّد بصفته "راشديّةٌ" تَقتضي أنْ يُتَبيَّن أنّه لا ٱنفكاك للإنسان عن "ٱلغيّ" و"ٱلذِّلّة" إلا بالخُروج من "وصاية ٱلأرباب من دون ٱللّه"، خروجًا يُمثِّل "ٱلرُّشدَ" تمييزًا وٱستقلالا ويُؤسِّس "ٱلتّكليفَ" أمانةً وشهادةً. و"راشديّةُ ٱلإسلام" هذه هي التي تَجعلُه بالأساس مُناهَضةً فعليّةً للجاهليّة بما هي ٱستعلاءٌ يَتجاوزُ "ٱلجهل ٱلمعرفيّ" فيَزدوِج ب"ٱلجَهالة ٱلخُلُقيّة". ولأنّ لفظَ "جاهليّة" مُصطلَحٌ قرآنيّ وحديثيّ، فإنّ تحديدَه لا يَصِحّ إلا بالرُّجوع إلى مُختلِف سياقاتِ وُروده في "ٱلقرآن ٱلكريم" و"ٱلحديث ٱلشريف"، وهو الأمر الذي يَغفُل عنه كثيرون ممّن لا يَتردّدون في ٱطِّراح لفظ "جاهليّة" وٱختزاله في الدّلالة على "ٱلكُفْر" (كضدٍّ ل"ٱلإسلام" في شموله لِ"ٱلإيمان") أو على "ٱلجَهْل" (ك"خُلوٍّ من ٱلمعرفة"). ومن هنا، فإنّ أوّل ما يَجدُر إدراكه أنَّ لفظَ "جاهليّة" في العربيّة ٱسمٌ مُولَّد من صفةِ "جاهِليّ" التي هي نَسَبٌ إلى صفة "جاهِل"، ممّا يُوجِبُ مُراعاةَ أنّ خصوصيّةَ "ٱلمَبْنى" تَقتضي "خصوصيّةً" في "ٱلمَعْنى" تمامًا كما عَمِلت على تِبيانه جُملةٌ من الآيات القرآنيّة: ف"ٱلجاهليّة"، أولاً، هي «حالةُ ٱلجاهِل باللّه في ظنِّه به غير الحقّ وٱعتماده ٱلظنَّ تشكيكاً وتَشَهِّياً» («ثُمّ أَنزل عليكم من بعد الغَمِّ أَمَنَةً نُعاسا يَغْشَى طائفةً منكم، وطائفةٌ قد أهَمَّتْهُم أنفسُهم يَظُنّون باللّه غير الحقّ ظنَّ الجاهليّة.» [آل عمران: 154]) ؛ وهي، ثانياً، «ٱتِّباعُ الأهواء حُكْماً بها وتحكيماً لها» («فٱحْكُمْ بينهم بما أنزل ٱللّهُ، ولا تَتَّبِعْ أهواءَهم عمّا جاءَك من الحقِّ. لكُلٍّ جعلنا منكُم شرعةً ومِنْهاجاً. ولو شاء ٱللّهُ، لجعلكم أُمّةً واحدةً ؛ ولكنْ لِيَبْلُوَكم فيما آتاكم ؛ فٱسْتَبِقُوا الخيرات. إلى ٱللّه مَرجعُكم جميعا، فيُنَبِّؤُكم بما كُنْتُم فيه تختلفون. وأَنِ ٱحْكُم بينهم بما أنزل ٱللّهُ، ولا تَتَّبِعْ أهواءَهم، وٱحْذَرْهُم أنْ يَفْتِنوك عن بعض ما أنزل ٱللّهُ إليكَ. فإنْ تَوَلَّوْا، فٱعْلَمْ أنّما يُريد ٱللّهُ أنْ يُصيبَهم ببعضِ ذُنوبهم. وإنّ كثيرا من النّاس لفاسقون. أفَحُكْمَ الجاهليّة يَبْغُون؟! ومَنْ أحسنُ من ٱللّهِ حُكْماً لقومٍ يُوقِنُون؟!» [المائدة: 48-50]) ؛ ثُمّ هي، ثالثاً، "حَمِيّةُ ٱلعَصبيّة" («إذْ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحَمِيّةَ، حَمِيّة الجاهليّة.» [الفتح: 26]) ؛ وأخيرا، فهي تَبَرُّجٌ يُعْجَبُ فيه المرءُ بنفسه إظهارا لها وظُهورا بها كما هو معروف بالخصوص لدى النِّساء («يا نساء النبيِّ لَسْتُنَّ كأحدٍ من النِّساء إنْ ٱتَّقَيْتُنَّ. فلا تخضعن بالقول فيَطمع الذي في قلبه مرض، وقُلْنَ قولا معروفا، وقَرْنَ في بُيوتكنَّ، ولا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجاهليّة الأُولى.» [الأحزاب: 32-33]). وهكذا، إذَا كان "ٱلجهلُ" يَتحدّد بصفته «ٱلخُلُوّ من ٱلمعرفة»، فهو - إذًا- نقيضُ "ٱلعِلْم". وبما أنّ "فِقْدان ٱلمعرفة" يَحمِلُ على "ٱلخطإ في ٱلحُكْم"، فإنّ "ٱلجهلَ" يَصيرُ أيضًا «مُخالَفةَ وجه ٱلصواب» ظنًّا أو شُبْهةً، وهو الأمر الذي من شأنه أنْ يُورِث "سُوءَ ٱلخُلُق" غضبًا أو حَميّةً بمُوجبهما يكون "ٱلجهلُ" سَفَهًا وعُجْبًا، أيْ نقيضَ "ٱلرِّفْق/ٱلحِلْم" تواضُعًا وتأدُّبًا. ولا يَخفى أنّ "ٱلخطأ في ٱلحُكْم" لا يَقُود فقط إلى "مُخالَفة ٱلصواب"، بل يقود أيضا إلى "مُجاوَزةِ ٱلحقّ" على النّحو الذي يَجعلُ "ٱلجهلَ" يَؤُول إلى "ٱلظُّلْم". ولهذا، فإنّ "ٱلجاهليّة"، في ٱلِاصطلاح القرآنيّ والحديثيّ، مفهومٌ لا يدُلّ فقط على «زمنِ الفترة ولا إسلام» (ٱبن منظور)، وإنّما يَدُلّ بالأساس على ذلك النّوع من "ٱلجهل" الذي يَجعل المرءَ «خِلْوًا من ٱلمعرفة الحيّة باللّه» باعتبار أنّ "ٱلسَّفَهَ" و"ٱلْعُجْبَ" و"ٱلعُنْجُهيّةَ" ليست سوى آثارٍ خُلُقيّة مُترتِّبة معرفيًّا على كون الإنسان جاهلا باللّه ربّ ٱلعالَمين. وبالتالي، فإنّ "ٱلجاهليّةَ" بالنِّسبة إلى "ٱلإسلام" تصير «فَتْرةً [عن] ٱلإسلام»، أيْ فُتورا عنه لنقصٍ في الإيمان، وفُتورًا له في نفس مُسلِمٍ يَنتمي بظاهره إلى "أُمّة ٱلإسلام" وينْفكُّ بباطنه عن "رُوح ٱلإسلام" كما تَتمثّل في "ٱلرّاشديّة" تصديقًا مُتدبِّرا وتخليقًا مُتعقِّلا. ولذلك، فإنّ "ٱلجاهليّةَ" لا تتحدّد كما لو كانت عصرًا بلا عِلْمٍ أو قليلِ ٱلعِلْم، وإنّما هي حالُ الإنسان بما أنّه لا يكاد يَنْفكّ عن "ٱلجَهْل" و"ٱلظُّلْم" («وحَمَلها الإنسان، إنّه كان ظَلُوماً جَهُولاً.» [الأحزاب:72]). فهي، إذًا، ٱرتهانُ الإنسان لِ"ٱلجَهْل" وٱستسلامه له إلى الحدِّ الذي يَصير معه نزّاعًا إلى "ٱلظُّلْم" وغارقا في ظُلُمات "ٱلباطل". وهذا ما يُراد الإمساك به من خلال صفة "ظُلْمانيّ/ظَلاميّ" (نقيض "نُورانيّ"). ولذا، لا يَصِحّ ترجمة لفظ "جاهليّة" باعتباره يدل على "عَصر ٱلجَهْل" (« l'âge de l'ignorance »)، بل بصفته مُصطلحًا يَدُل بالخصوص على «فاعليّة ٱلجهل كنُزوعٍ "ظُلْمانيّ/ظَلاميّ"» (« obscurantiste »)، على النّحو الذي يَسمح بالحديث عن نوع من "ٱلظُلْمانيّة/ٱلظَلاميّة" (« obscurantisme ») التي يأتيها، باسم ٱلعقل أو ٱلعلم، المُتعاقِلون والمُتعالِمون بين ظَهْرانَيْنا خصوصا في تزيُّنهم برداء "ٱلحَداثة". ويُمكن، من ثَمّ، أنْ يُولَّد في الألسن الأجنبيّة لفظ مثل (« ignorantist/ignorantiste ») لأداء معنى صفة "جاهليّ"، وآخر مثل (« ignorantism/ignorantisme ») لأداء معنى ٱسم "جاهليّة". وهكذا، إذَا كانت "ٱلجاهليّةُ" تتمثّل - بالأساس- في "جهلٍ" يَتّخذ شكلَ "عِلْمٍ" (أو، بالأحرى، في "عِلْمٍ" ظاهرٍ ينكشف - بعد التّبيُّن- ك"جَهالةٍ" تَحمِلُ على "ٱلجهل" بَطَرًا وعُجْبًا وسَفَهًا)، فإنّ المرءَ لا يَخرُج من "ٱلجاهليّة" ويَدخُل في مجال "ٱلرّاشديّة" إلا حينما يُقِرُّ إقرارًا بأنّ ٱللّهَ وحده هو الذي وَسِعَ عِلْمُه كل شيء أو، على الأقل، أنّ الإنسانَ عموما لا يَستطيع إلا أن يُقِرّ بأنّ جهلَه قد وَسِعَ كل شيء ؛ بل بقدر ما يَزدادُ توسُّعُ وتعقُّدُ "ٱلعُلوم" - كما في عصرنا- فإنّ جهلَ عامّةِ النّاس يَترسّخ أكثر ويَصيرُ من الصعب تجاوُزه، على الرغم طبعا من أنّ معرفتَهم في كل فترةٍ تَفُوق بأضعاف معرفةَ سابقيهم. ويَتأكّد "ٱلجهلُ" في إحاطته بالإنسان عندما نُدرِكُ ليس فقط أنّ "دقيقَ ٱلعِلْم" لا يكاد يَبلُغه إلا "ٱلرّاسخون في ٱلِاجتهاد"، وإنّما أيضا أنّ مُعظمَ ما يُسمّى "معرفةً" ليس سوى "سُوء فهم" يُعزِّزه لدى أصحابه "حُسن ٱلظّنِّ" بأنفسهم غِرّةً وعُجْبًا، أيْ أنّه بالتّحديد "جَهْل" مَطمورٌ ومُستحْكِمٌ («وما يَتّبِع أكثرُهم إلا ظنًّا، إنّ الظّنَّ لا يُغني من الحقّ شيئا.» [يونس: 36])! ويُمكنُكَ، بالتّالي، أنْ تَتصوَّر شساعةَ وكثافةَ "قِناع ٱلجهل" لدى أُناسٍ لا يَتورَّعون عن ٱدِّعاءِ "ٱلحَداثة" تعالُمًا وتواقُحًا وَهُمْ لا يَستطيعون - بفعل شُروطٍ ذاتيّة و/أو موضوعيّة- أنْ يُواكِبُوا كلَّ ما تَقذِف به المَطابعُ يوميّا بشتّى الألسن في مُختلِف مجالاتِ الفكر والعِلْم بكل أنحاء العالَم! بل يُمكنُكَ أنْ تَتخيّل ٱستفحالَ "داء ٱلجَهْل" لدى من يَعْجِزُ حتّى عن إتقان ٱللِّسانِ المُستعمَل في مجاله التّداوُليّ ولا يَتوانى، مع ذلك، عن إرسال الكلام على عواهنه دُون قيدٍ أو شرط! من أجل ذلك، يَحقّ التّأكيد «إنّ من ٱلعِلْم جهلا.» (كما في حديث "أبي داود": أدب، 87)، وهو جهلٌ يقوم في الواقع على عِلْمٍ بالغِ الضّآلةِ أو عِلْمٍ عديمِ النّفع خصوصا لدى أولئك الذين «يَعْلَمُون ظاهرًا من الحياة الدُّنيا، وَهُم عن الآخرة غافلون!» (الروم: 7) أو الذين يَصِحّ أن يُقال عنهم «إِنْ يَتّبِعون إلا الظنَّ وما تَهْوَى الأنفُس.» (النجم: 23). وكمْ يَصيرُ جديرًا بالواحد من مثل هؤلاء أنْ يُقال له: «إنّكَ ٱمْرُؤٌ فيكَ جاهليّة!»، إذَا كان ممّن يَتعاطى أفعالَه بَطَرًا أو عُجْبًا في صورةِ فِكْرٍ أو خطابٍ يَنْسى أنّ «ٱلمعرفةَ ٱعترافٌ وتعارُفٌ»، وهو النِّسيان الذي يجعل صاحبه "جاهليًّا" يَأبى إلا أنْ يَجهلَ فوق جهلِ الجاهلين تعاقُلا وتعالُمًا، «وكفى بالمرء جهلا أنْ يُعجَب بعَمله.» (الترمذي، مقدمة، 34). والحال أنّه لا عُجْب أشدّ من ذاك الذي يُصدِّق فيه المرءُ على نفسه الظّنّ بأنّه لا يَأتي أفعالَه إلا إحداثًا ولا يُنشىءُ أُمورَه إلا إبداعًا! ولأنّ "ٱلإسلامَ/ٱلدِّينَ" يَصيرُ قوّةً للعمل قد لا تُضاهَى إذا توفّرت له الشروط التي تَكفُل ٱشتغالَه كقُوّةِ "إحياءٍ" و"تجديدٍ"، فإنّه يُمثِّل، في الواقع، حركةً ٱجتماعيّةً وتاريخيّةً تقوم على "ٱلعمل الدِّينيّ" بصفته "سُنّةً شريعيّةً" تُسدِّد "ٱلسُّنَن ٱلطبيعيّة" وتُمكِّن من مُزايَلة "ٱلجاهليّة" كٱرتكاس شيطانيٍّ لكَدْحِ الإنسان يَحصرُه في حُدود نوازعِ نفسه وهُمومه الدُّنيويّة ويَمنعه من إقامة "ٱلرّاشديّة" نهجًا ربانيّا في العمل البشريّ على النحو الذي يَخرُج به من سُوء ٱلظّنِّ وٱلسَّفه ويُبْعِدُه عن ٱلعُجب وٱلبَطَر، ممّا يَجعله يَكسب عملا صالحا ونافعا في العاجل والآجل. ولذلك، فإنّ "ٱلإسلام/ٱلتّديُّن" يَتحدّد كعمل "راشد" و"ترشيديّ" للفعل البشريّ، من حيث إنّ "ٱلإسلام/ٱلدِّين" دعوةٌ إلى "ٱلرُّشْد" وأمرٌ بِلُزوم سبيل "ٱلرّشاد". ومن هنا، فإنّه يُواجَه لا مَحالة بأنواع من "ٱلرَّفْض"، أدناها تعاطي "ٱلنّفي" سَلْبًا للصفات المُقوِّمة للإسلام، وأعلاها العمل على تحريف رُوحه وتضليل وِجهته وحركته. و"ٱلرَّفض" بهذا المعنى هو قِوام "ٱلجاهليّة" التي تَبيّن أنّها لا تَدُلّ على «حال "ٱلأعراب" قبل مجيء "ٱلإسلام" كحالٍ "بَدويّة" و"بدائيّة" على مستوى "ٱلمعرفة" و"ٱلعلم"»، وإنّما هي بناءٌ مفهوميّ أُقيم في "ٱلقرآن الكريم" و"ٱلحديث الشريف" للدلالة على "حال الجاهل" بما هي "حَمِيَّةٌ" تأخُذ صاحبَها العزّةُ بالإثم ظُلمًا وجَهالةً، و"ظنٌّ" يَتَلجلجُ في النّفس جهلا بالحقّ وٱستغناءً عنه، و"تَبَرُّجٌ" يَطلُب "ٱلظُّهورَ" بكل باطلٍ بَطَرًا وعُجْبًا، و"حُكْمٌ" يَستبِدّ به الهوى تجبُّرًا وطُغيانًا ؛ ممّا يجعل "ٱلإسلام" - بما هو "معرفةٌ" مُزدوجة بِ"ٱعتراف"- يَتحدَّد ك"راشديّة" تَتعارَض مع "ٱلجاهليّة" التي هي "فاعليّةٌ" قائمةٌ على "ٱلجَهْل" ظنًّا وسَفَهًا. إنّ تجريدَ "ٱلجاهليّة" من رِداءِ "ٱلحَداثة" يَكشِفُها ك"عَدميّةٍ" تقوم على تأليهِ الإنسان جُحُودًا وعلى تطبيع الوُجود كُفرانًا فتَؤُول، من ثَمّ، إلى نَقْضِ بُنيانِ "ٱلطّبيعة" بحثًا عن تسييدِ هذا الكائن البشريّ عليها والتّمكين له في آفاقها تَدْنِيَةً لوُجوده وتدهيرًا لفِعْلِه في هذا العالَم. وتَعريةُ "ٱلجاهليّة" من زينتها ٱلمُتحادِثة لا تَقُود إلى اليأس من "فاعليّة ٱلإنسان" بجعلها مُستلَبةً وُجوديًّا أو أُخروِيًّا على النّحو الذي يُمْكِنُ أنْ يُبرِّر لدى بعض النّاس ٱلنُّكوص إلى ماضٍ يُستحضَر كمُنقذٍ تكاسُلا وقُعُودًا أو الرُّكُون إلى واقعٍ يُعاش كمصير تواكُلا وٱتِّضاعًا، بل تَستدعي الانخراط في إقامة "ٱلرّاشديّة" كتعبُّد يَكفُل ترشيدَ عمل الإنسان بما هو عاقلٌ يَطلُب "ٱلتّنويرَ" مُجاهَدةً وتعارُفًا، وكتخلُّقٍ يُسدِّد سَعْيَه في ٱبتغاءِ "ٱلتّحرُّر" بما هو سالِكٌ يَتحرّى العمل تدبيرًا إحسانيًّا ومُعامَلةً بالحُسنى. [email protected]