من الشائع أنْ يُقال بأنّ "ٱلإسلاميِّين" يَستغِلُّون "ٱلإسلامَ/ٱلدِّينَ" لتحقيق أغراض دُنيويّة يَتفادون، في معظم الأحيان، الإفصاح عنها بما هي كذالك. ويَتعلق الأمرُ، حسب زعم "ٱلمُبطلِين"، بأغراض شتّى أهمّها توظيفه ك"دِعاية" أو "فِكْرَى" سياسيّة. لكنْ، يبدو أن من يَسُوق هذا ٱلِاتِّهام يَميل لا فقط إلى رفض ٱستعمال "ٱلدِّين" لأغراض غير دينيّة، وإنّما أيضًا إلى القيام باختزال مُضاعَف، من ناحية، للإسلام بحصره في المعنى المبتذل ل"ٱلدِّين" و، من ناحية أخرى، للتّوجُّه الإسلامي باعتباره مجرد "دعوة" أو "فِكْرى" دينيّة من دون أيِّ كفاءة في تدبير "شُؤون ٱلدُّنيا". ومن المُفارَقة أنّ من يَستنكرون ٱستغلال "ٱلإسلام/ٱلدِّين" يَأْتُون، هم أيضًا، نوعًا من التّناوُل القائم على ٱستغلاله ك"مِثال نقيض" لتهويل وٱستهجان نَهْجِ دُعاة وأدعياء "ٱلفِكْرَى ٱلإسلاميّة"! إنّه إذا جاز أنْ يكون "ٱلإسلاميّون" - على الأقل في جُزء منهم وبالخصوص أولئك الذين يُواطِئُون أو يُداهِنُون المُستبدِّين والمُفسدين- لا يَنظرون إلى "ٱلإسلام" إلا بصفته وسيلةً لاستغلال أكثريّة المُسلمين في ٱعتزازها بدينها وٱستعدادها للبذل في سبيل إظهاره وحفظه، فإنّ ما لا يَصِحّ إنّما هو أن يقوم بعض أدعياء "ٱلتّنوير ٱلعَلْمانيّ" باختزال "ٱلإسلام" في "ٱلدِّين" ليَسهُلَ عليهم، من ثَمّ، تأكيد أنّ كل إحالة دُنيويّة إليه تُعدّ ٱستغلالا له، ٱستغلالا يَتنافى - في ظنِّهم- مع مُقتضيات "ٱلتّدبير ٱلوَضعيّ/ٱلدُّنيويّ" الذي غالبًا ما تُردّ إليه "ٱلسياسة". ومن البَيِّن أنّ "ٱلمُبطلِين" لا يَفعلون ذالك إلا لرُسوخ ٱعتقادهم بأنّ "ٱلدِّين" قد صار مُضطرًّا في ظل "ٱلحداثة" إلى ٱلِانزواء ضمن حُدود "ٱلتّجربة ٱلفرديّة" بحيث لا يَملك إلا أنْ يَخضعَ (ويُخضَع) لفعل "ٱلتّعطيل" الذي غرضه أنْ يَستبعده تمامًا من "ٱلمجال ٱلعموميّ". لكنَّ "ٱلإسلامَ"، في الواقع، ليس مجرد دين يُمكن حَصرُه في الصورة المُبتذلة التي لا تتعدّى - في عُرف أدعياء "ٱلتّنوير ٱلحداثي"- ذالك "ٱلإيمان ٱلمُخَرِّف" وتلك "ٱلشّعائر ٱلمُخدِّرة" ممّا يَكُون ضحيةً له البُسطاء من عامّة النّاس. ذالك بأنّ "ٱلإسلامَ/ٱلدِّينَ" يَتحدَّدُ، مَبدئيًّا، بصفته سيرورةً تنويريّةً وتحريريّةً تقوم على تفعيل "ٱلوحي" كإحياءٍ رُوحيّ وإيقاظ عقليّ يَنتقلُ ب"ٱلمُسلِم" من دَرَكات "ٱلجاهليّة" وٱنحرافاتها إلى درجات "ٱلرّاشديّة" ومَقاماتها على النّحو الذي يُخرِجُه من وصاية "أرباب ٱلدُّنيا" فيُطلِقُ فاعليّته تَعبُّدًا وتَخلُّقًا في ٱلِاستجابة لنداء "ربِّ ٱلعالَمين". ويَقتضي قيامُ "راشديّة ٱلإسلام" إعمالَ "ٱلتّرشيد" وتأسيسَه حتى يتأتّى ٱنفكاكُ العباد من إِسار كل ٱستعباد أو ٱستبداد حتّى لو ٱدّعى أصحابُه العمل بالإسلام وٱلعمل له. ولا يكون هناك ترشيد من دون إقامة "ٱلدّولة ٱلرّاشدة" التي تعمل على تحييد "ٱلدّولة" دينيًّا وتقييد "ٱلدّعوة" قانونيًّا بالشكل الذي يُمكِّن من قيام موضوعيّ ومدنيّ لسيرورة ٱلتّحرير/ٱلتحرُّر ومن تأسيس عمليّ وأخلاقيّ للتّنوير/ٱلِاستنارة بعيدًا عن غوائل السُّلطان سواء أكان ماديًّا أم روحيًّا. ولأنّ "ٱلإسلام"، فضلا عن ذالك، قد تَعيَّنَ تاريخيًّا في "حضارة عالميّة" شَمِلت مجتمعات ٱمتدّت من الصين إلى المحيط الأطلسي ومن البحر الأبيض المتوسط إلى أفريقيا جنوب الصحراء، فإنّ الإحالةَ إليه بصفته مَرجعًا تَصيرُ إحالةً إلى أهمِّ عطاءات المُسلمين التي شهدتها كل مجالات الفكر والحياة طَوال ثمانية قرون. وحضور "ٱلإسلام/ٱلثقافة/ٱلحضارة" على هذا النّحو هو الذي يَستدعي ٱستغلالَه وٱستثمارَه باعتباره عامِلا أساسيًّا في ٱلإحياء والبناء بما يَجعلُه نِدَّ "ٱلحداثة" وليس ضدَّها. وإِذَا كان هذا شأنَ "ٱلإسلام"، فلا يُعقَل أنْ يُمات كما لو كان مجرد ماضٍ ٱنتهى، ويُحيى "ٱلعصرُ" فيُعدَّ حُدوثًا وإحداثًا بلا ٱنقطاع ولا ٱنقضاء. غير أنَّ كونَ تجربة الإنسان ل"ٱلإسلام" لا يُمكن أنْ تَتِمَّ واقعيًّا إلا بالنِّسبة إلى شروط "ٱلوضع ٱلبشريِّ" في هذا العالَم يَقُود إلى تبيُّن أنّ ٱلمُشكلةَ كلَّها في "ٱلتّجربة ٱلدينيّة" إنّما هي عدم إمكانها إلا كتجربة دُنيويّة يُكابِدُ فيه المرءُ عَقبات الحياة كَدْحًا إلى مُلاقاة ربِّه، بحيث يَمتنعُ أنْ يكونَ "ٱلدِّين" مُمارَسةً مفصولةً عن "ٱلدُّنيا" كما يُريد له أدعياءُ "ٱلعَلْمانيّة" بالقدر نفسه الذي يَمتنعُ ألا يُؤثِّر "ٱلمَعيشُ ٱلدُّنيويّ" في "ٱلتّديُّن" كما يَتوهَّمُ "ٱلإسلامانيُّون". ومن هنا، فإنّ الرِّهانَ كُلَّه يَصيرُ قائمًا في السعي نحو إجادة ٱستغلال "ٱلدِّين" بما هو تَسويَةٌ لمَصالِح الإنسان في "ٱلحياة ٱلدُّنيا" على مُقتضى مصالحه في "ٱلحياة ٱلآخرة". ويَلزمُ، من ذلك، أنّ العملَ بالإسلام والعملَ له - بما هو عمل يُراد له أنْ يَتحدَّدَ بصفته "دينيًّا"- لا يتم إلا من خلال ٱلِانغماس في "ٱلدُّنيا" بهذا القدر أو ذاك ؛ وهو ٱلِانغماس الذي يَصعُب معه، من جهة، "ٱلإخلاص" المطلوب في "ٱلتّديُّن" ويُصعِّب، من جهة أخرى، إمكان التّحقُّق بالدِّين من دون القيام بأسباب "ٱلدُّنيا". وهذا ما يَجعلُ "ٱلإسلام" لا يَقبل المُعارَضة الشّائعة بين "ٱلدِّين" و"ٱلدُّنيا"، لأنّه لا دينَ إلا دُنيويٌّ على النّحو الذي يَقتضي أنّ ٱلعِنايةَ بالدُّنيا من صميم ٱلدِّين. وبالتالي، فإنَّ ٱلمُعارَضة بينهما لا تَصِحُّ إلا في المدى الذي يُمكن أنْ يَصيرَ "ٱلدِّين" محصورًا في ٱلِاهتمام بشؤون "ٱلحياة ٱلآخرة"، ٱهتمامًا يكون على حساب شؤون "ٱلحياة ٱلدُّنيا" مثلما حاوله الذين صدَّقوا تلك المُعارَضة فما كان منهم إلا أنْ تَعاطوا "ٱلرَّهبانيّة" كسعي للانفكاك ٱلكُلّيّ عن "ٱلدُّنيا" فٱضْطُرّوا في النِّهاية إلى قَبُول "ٱلعَلْمانيّة" كعمل على "تعطيل ٱلدِّين" نفسه بعد أنْ صار طُغيانًا مُستبِدًّا. إنّ إرادةَ منع ٱستغلال "ٱلإسلام/ٱلدِّين" في المجال العُموميّ ليست فقط إرادةً لكفِّ ٱلتّضليل الذي يَتعاطاه "ٱلإسلاميّون" بصفتهم أُناسًا يَتبنّون "ٱلإسلامَ ٱلسياسيّ"، بل هي أيضًا إرادة تَؤُول إلى "تعطيل ٱلدِّين" من حيث إنّ أصحابَها يَقُولون بوُجود تَعارُض بين "ٱلدِّين" و"ٱلدُّنيا" لا يُمكن رفعُه إلا بقَلْب العلاقة بينهما. لكنّهم، في الحقيقة، لا يَعملون إلا على بناء مجال "ٱلمُمارَسة ٱلعُموميّة" في صورة مجال من "ٱلمَصالِح ٱلدُّنيويّة ٱلمُقدَّسة" التي يَحْرُم (ويُحَرَّم) تدنيسُها على "رجال ٱلدِّين/ٱلمُتديِّنين" بصفتهم أُناسًا يَستنكفون من قَصْرِ همِّهم على حفظ تلك المصالح وحدها لكونهم يُؤمنون بأنّ ثمة حياةً آخرةً يُسأل فيها المرءُ عمّا كسبت يداه في حياته الأُولى ولا تُغني فيها سوى "ٱلأعمال ٱلصالحة" التي أُقيمت بالإخلاص في ٱلنّيّات وٱلإحسان في ٱلمُعامَلة. هكذا، إذًا، لا يَعودُ العملُ بالإسلام وللإسلام قائمًا إلا ك"ٱستغلال" نظريّ و/أو عمليّ يَنْصبُّ على إظهار مَنافع ٱلِاستقامة وَفْق أُصول "ٱلشّريعة" ومَقاصدها في كل فعل يَأتيه ٱلمُسلِم في حياته. إِذْ كما أنّه لا معنى لأنْ يُؤتى العملُ دون تحصيل "غَلّة نافعة"، فمن السُّخف أنْ يُؤخذ "ٱلإسلام/ٱلدِّين" كما لو كان مُتعارضًا مع مَصالِح العباد في حياتهم الدُّنيا، وهو "ٱلدِّينَ ٱلقَيِّم" الذي يَهدي للتي هي أقوم. ولذا، فلا مَناص للمُسلِم من أنْ يَستغِلَّ كل إمكانات ٱلفعل في دينه بحثًا عن ٱستثمارها وٱلِانتفاع بها حَسَب ما تسمح به ظروفه وفي حُدود ما يُطيق، ودون ضرر ولا ضرار. لكنْ، يَبقى أنّ ٱستغلالَ "ٱلإسلام" لا يكون إلا بالإسلام على النّحو الذي يُلزَمُ كل عامل في إطاره بأن يُعطيَ بُرهانًا عمليًّا يَشهدُ على صدق مَسعاه وصحة مَبناه، وهو البُرهان الذي لا يَكون عملُه من دونه إلا عملا حابِطًا ومُشْقِيًا. وإذَا كان "ٱلمُبطلون" يُمْعِنُون إمعانًا في تصوير كل "تفعيل" للإسلام كما لو كان لا يتعدّى "ٱلِاستغلال" ٱلنَفْعيّ وٱلدُنيويّ للمُقدَّس، فإنّ المُسلمين مُطالَبُون بتجاوُز مُغرِياتِ ٱلتّظاهُر الشائع بالإسلام عملا به أو عملا له كما تتجلّى في تفريط "ٱلتّأسلُم" وإفراط "ٱلإسلامانيّة". فلا يَكفي أنْ يُرفَع "ٱلإسلام" شعارًا على غرار الذين يُسرِفُون في ٱلِابتهاج بصفة "إسلاميّ" كمُلصَقٍ تُزيَّنُ به الأعمال ويُزكّى به الأشخاص، بل لا بُدّ من مُكابَدة النُّزول إلى ميادين "ٱلعمل" و"ٱلمُعامَلة" وخوضها مُغالَبةً في "ٱلجُهد ٱلعُمرانِيّ" كما يُوجب أمرُ ٱللّه القاضي باستعمار ٱلأرض إسلامًا له وجهادًا في سبيله، وليس جُحودًا له وإفسادًا فيها. ومن ثَمّ، فإنّ "ٱلمُسلمَ" في تحقُّقه بالإسلام مُلزَمٌ دَوْمًا باستحضار نصيبه من ٱلدُّنيا في طلبه للآخرة على النّحو الذي يَستلزمُ أنْ يَكون سعيُه ٱنتفاعًا بالعاجل لا يَضرّ بمصلحته في ٱلآجل، تمامًا بخلاف من يَحرِصُ على بَيْع آخرته بدُنياه مُتوهِّمًا أنّ سعيَ "ٱلمُتديِّن" إلى ٱستثمار دينه يُعدّ مُتاجرَةً بالدِّين لا تَعدو أنْ تكونَ مُضاعَفةً لخيرات ٱلدُّنيا بطرق مُلتوية. ولهذا، فإنّ من يَرفُض باسم "ٱلعَلْمانيّة" أنْ يُستغلَّ "ٱلإسلامُ/ٱلدِّينُ" سياسيًّا لا يَفعل شيئا ذا بال ما دام لا يرى أنّ ٱلِاستغلال السياسيّ حاصِلٌ في الواقع للإسلام ولغيره (للعِلْم وٱلفن وٱلإعلام وٱلرياضة) بالشكل الذي لا يُجيزُ ٱلإنكارَ على "ٱلإسلاميِّين" إلا في المدى الذي يَتعلّق الأمرُ بالعمل على جَعْلِ أيِّ ٱستغلال مُمكن للدِّين أو لغيره داخلا في إطار "ٱلشرعيّة ٱلقانونيّة وٱلمُؤسسيّة" في خُضوعها ل"سيادة ٱلأُمّة" وليس لأهواء "ٱلمُبطلِين" الذين يَنْسون أنّهم أحرصُ ٱلنّاس على "ٱلِاستغلال"، ٱستنفاعًا بلا قيد ولا شرط، وٱسترزاقًا بلا مِلّة ولا ذِمّة. [email protected]