«بالنسبة لِلَّذين قد يعترضون بأن عددا من النساء قد ٱطَّرَحْنَ اليوم المعايير والأشكال التقليدية للاحتشام والذين سيَروْنَ في الأهمية التي تُعطيها النساء للاستعراض المضبوط للجسد دليلًا على "التحرُّر"، يكفي أن يُشار إلى أن هذا الاستعمال للجسد الخاص يبقى تابعا على نحو أوضح لوجهة النظر الذُّكورية (كما يُرى ذلك جيدا في استعمال المرأة الذي ما زال يقوم به الإشهار، بفرنسا، بعد نصف قرن من الحركة النِّسوانية): فالجسد النِّسوي المعروض والمرفوض في آن واحد يُظهِر الجاهزية الرمزية التي تُناسِب -كما بَيَّنت ذلك عدة أعمال نِسْوانية- المرأة، والتي [أي الجاهزية] تَجمَع بين قدرة على الفتنة والإغواء معروفة ومعترف بها من قِبَل الجميع، رجالا ونساء، وموجودة خِصِّيصا للرفع من شأن الرجال الذين تَتْبَع لهم أو ترتبط بهم، وبين واجبٍ للرفض الانتقائي يُضيف إلى مفعول "الاستهلاك التفاخري" ثمن الاستعمال الحَصْرِيّ.» ("بيير بورديو" [1]) بعد كل ما أُثِيرَ (ولا يزال يُثار) حول "النِّقاب" من ضجيج ونقاش في بعض البلدان الأوربية (وأيضا العربية والإسلامية)، يمكن للمرء أن يتساءل: هل أصبح "النِّقاب" (ك"حِجاب كُلّي" و، بالتالي، "الحجاب الجزئي") قضيّةً تُهدِّد الأمن القومي والنظام الإداري بالمؤسسات العامة إلى الحدّ الذي يستدعي استنفار البرلمان والقضاء لاستصدار قانون مُنظِّم يمنعه في المجال العمومي؟ وهل يأتي الاهتمام بمنع "النِّقاب" فقهيا وقانونيا بدافع الحرص على الأمن القومي أم لحفظ احترام القوانين التي تُوجِب المساواة بين الذكور والإناث وتمنع، أساسا، التمييز ضد "المرأة" و"الأجنبي"؟ وإلى أي حدّ يمكن التعامُل مع "النقاب" على أساس الهاجس الأمني، وليس على أساس "الحرية الشخصية" بناء على الحق في الاختلاف جنسيا ودينيا وثقافيا واجتماعيا؟ وقبل كل ذلك، ماذا يُمثِّل "الحجاب" و"النقاب" في واقع الممارسة الإنسانية؟ هل يُعدَّان مجرد تعبير عن تقاليد القهر والإكراه الذُّكوري للأنثى أم أنهما تعبير جذري عن حق الاختلاف في استعمال الجسد و، من ثم، التشبُّث بالحرية فيما وراء الابتذال الذي يتعرض له؟ يجدر، أولا، تأكيد أن حُكم لُبْس المرأة المسلمة للنِّقاب عند الثِّقات من علماء المسلمين يدور بين الوجوب والاستحباب، ولم يقل أحد منهم بأنه بِدعة أو أنه مجرد عادة و، من ثم، لا يَصِحّ قول بعض الأدعياء بأنه لا يَمُتّ بصلة إلى العبادة (و"العبادة" كَسْرٌ ل"العادة" يرفع هِمَّة العبد من مجرد "إعادة" الفعل نحو الطلب القصدي والقاصد ل"الإفادة" في العاجل والآجل). ويجدر بنا، ثانيا، التنبيه إلى أن "النِّقاب" ليس موضوعا للحديث هنا من الناحية الفقهية أو الشرعية، لأن هذا من اختصاص الفقهاء ورجال الدين ممن يُفترَض فيهم أن يجعلوا الناس على بَيِّنة من أمور دينهم، وإنما سيتِمّ تناوُله فقط كموضوع للخطاب، وذلك في المدى الذي يُمكِن أن نعمل على استكشاف المعاني الكامنة خلفه بما هو رمز أو شعار لتوجُّه اجتماعي وثقافي معين و، بالتالي، محاولة تَبَيُّن مختلف الدلالات المرتبطة بالمواقف المُتَّخذة منه سَلْبا أو إيجابا. إنّ أي عمل منهجي يتناول مشكلة "النِّقاب" مُضطرّ، ابتداء، إلى أن يسعى لوضعه في سياقه العام قبل النظر في بعض الملابسات والمستجدات الخاصة، وذلك بعيدا عن المحاولات الِاستسهالية التي يأتيها بعض الناس من حيث إنهم يقتنصون السوانح الظرفية للتعبير عن آرائهم الشخصية أو اعتقاداتهم المذهبية من دون اتخاذ مسافة كافية تُخوِّل لهم تَبيُّن الشروط الموضوعية التي تُحدِّد، في الواقع، تلك الظاهرة، وهي الشروط التي يلزم اعتبارها في كل فعل لاتخاذ هذا الموقف أو ذاك. من أجل ذلك، نجد أن مشكلة "الحجاب" الإسلامي طُرحت في فرنسا في 1989 وظلت تُراوح بين مُعارض له (بدعوى ضرورة احترام الأساس "العَلْماني" للدولة والمؤسسات العمومية) ومُؤيِّد (من منطلق الحرية الشخصية في الاعتقاد والسلوك). ولم يتم الحسم في مسألة ارتداء "الحجاب" داخل المؤسسات العمومية إلا بعد تقرير ستازي (11 ديسمبر 2003) الذي تَمخَّض عن القانون الفرنسي حول ارتداء الرموز الدينية في المدراس العمومية، وهو القانون الذي صوّت عليه البرلمان في 15 مارس 2004 والذي نص على منع ارتداء الرموز البارزة التي تُشير إلى أي انتماء ديني. وتكاد تكون فرنسا، بذلك، البلد الأوروبي والغربي الذي استبق منع "الحجاب" في الأماكن العمومية. وهذه الخصوصية الفرنسية مرتبطة بإلإرث اليعقوبي ل"الجمهورية" و"العَلْمانية" الفرنسيتين بتوجُّههما "الاسترهابي" («terroriste»)، كتوجُّه قائم تاريخيا على "الاستبداد" و"التسلُّط" لفرض "الخَلاص العُمومي" باسم "القِيَم الجمهورية" ("الوحدة الوطنية"، "سيادة السلطة العمومية"، "أولوية القانون الوضعي") و"المُثُل الأنوارية" ("الحرية"، "المساواة"، "التقدم"). وإلى هذا التوجه "الاسترهابي" المُتخفِّي يستند كثير من الذين يعترضون على ارتداء "النِّقاب/الحجاب" من دون تبيُّن كافٍ منهم. وكونُ مشكلة "الحجاب" طُرحت في العقد الأخير من القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين جعلها ترتبط بسياق سقوط المعسكر الشرقي (الخصم العَقَدي والاستراتيجي للرأسمالية الليبرالية) وصعود التطرف "الإسلاماني" (الخصم العَقَدي والتقليدي للغرب)، وهو السياق الذي أدّى إلى بلورة ما سيُعرَف بعد 11 سبتمبر 2001 ب"محاربة الإرهاب العالمي". ولذا، فإن النقاش الدائر منذ عدة شهور حول "النِّقاب" (وأيضا "الحجاب") لا ينفك عن ذلك السياق المُوجَّه، استراتيجيا وسياسيا وإديولوجيا، نحو التوجُّس والتحيُّز ضد كل ما له صلة ب"الإسلام". لكن ما يُعطِي، في الواقع، لذلك النقاش كل أبعاد السِّجال المشحون والمُلتبس إنما هو وجود فئات مُتجذِّرة ومُتوسِّعة بين الغربيين، فئات ذات أصول مُهاجرة وعربية-إسلامية تَحمِل -من الناحية الاجتماعية والرمزية والثقافية- نوعا من المُساءَلة لما يُعَدّ بالتحديد "هُويّة" غربية (يهودية-مسيحية بالأساس)، وهي مُساءَلة يُنظَر إليها ك"تهديد" حقيقي أو محتمل لتلك "الهوية". ولذا، فإن مشكلة "النِّقاب/الحِجاب" (نكتب الكلمتين هكذا للاشتراك الموجود بينهما دلالة وتداولا) تتعلق بسيرورة اجتماعية وثقافية تتجاوز الحدود التي تُعطَى لها في الغالب (صعوبات اندماج المهاجرين، توسُّع التطرف الإسلاماني)، وتقترب من حركة يَصِحّ أن تُسمى "ثقافة مُضادّة" في إطار واقع اجتماعي-تاريخي-ثقافي شديد التعقُّد. ومن ثم، فإن قيام مُحاولات -على مستوى أكثر من بلد أوروبي (وأيضا عربي وإسلامي)- لمنع ارتداء "النقاب/الحجاب" أو الحدّ منه لَيُمثِّل إحدى القضايا الكبرى في الفترة المعاصرة، لكونه يَقُود إلى التساؤل عن الأسس القانونية والفلسفية لتلك المحاولات وعن أبعادها الاجتماعية والثقافية في عالم يزداد تأزُّمه بقدر ما يزداد تَعَوْلُمه. لقد صار "النِّقاب" (بما هو لباس يَحجُب، بل يَستُر جسم المرأة) موضوعا مُثيرا للسِّجال، ليس فقط بين فقهاء "الشريعة" في تأويلهم للنصوص لبيان الحكم فيه بإيجابه أو تحريمه، وإنما أيضا بين ثُلَّة من المثقفين والصِّحافيين والمُترسِّلين الذين يُعْنَون بمشكلة "التطرُّف" بين المسلمين. ومن حيث إن عدد "المُتنقبات/المُتحجِّبات" آخذ في الازدياد حتى في المجتمعات الغربية، فإن ربط "النقاب" بالتطرف الإسلامي المعاصر يزداد تأكيدا إلى الحد الذي قد يجعله بالحصر علامةً عليه ويقود، من ثم، إلى نسيان أنه مُمارسة قديمة وُجدت تاريخيا في كثير من المجتمعات الإسلامية بين الناس العاديين ممن لا صلة لهم بجماعات "التطرُّف" الحالية. ومن هنا، يمكننا أن نلاحظ أن "النقاب" أصبح ظاهرة مُزعجة لكثيرين ومُثيرة للارتياب، خصوصا باستحضار إمكان استغلالها من قِبَل المتطرفين والمنحرفين والمجرمين للقيام بأعمالهم من دون أن يَلتفت إليهم أحد أو يقعوا في أيدي رجال الأمن. ولهذا، يزداد النقاش ويشتدّ، إما طلبا للحدّ منه وتقليص حجمه بحيث تنكفئ "المتنقبات/المتحجِّبات" إلى منازلهن، وإما بغية منعه وتحريمه، بل تجريمه كما يبدو في بعض الدول الأوروبية (خصوصا فرنسا وإيطاليا وبلجيكا وهولندا) وكما استبق الأمرَ مفتي الأزهر السابق الذي لم يتردد في الإفتاء بتحريمه ومنع الطالبات "المتنقبات" من ارتياد المدارس والكليات الأزهرية، وقد أيده "مجمع البحوث الإسلامية" في فتواه تلك. ومن هنا، لا يُستبعد أن تحذو بعض الدول ذلك الحذو بفعل ازدياد التهويل الإعلامي للجرائم التي تُرتكَب تحت ستار "النقاب" وبفعل استعداء بعض الدول الغربية التي أصبح فيها "النقاب" مشبوها وقد كان فيها "الحجاب" العادي ممنوعا. وهكذا، نجد أن معظم المتدخِّلين في موضوع "النقاب/الحجاب" يَبنُون خطابهم على جملة من المُبرِّرات التي تُعبِّر عن أحكامهم عليه. فهو، في ظن بعضهم، يُشير إلى نوع من «الإخضاع» الذُّكوري للمرأة الذي يَنْفي كونَها مُساويةً للرجل ويُكرِّس الحطّ من قيمتها اجتماعيا وثقافيا، مما يجعله يتعارض مع مبادئ حقوق الإنسان التي تجعل المرأة نظيرةً للرجل في الكرامة والحقوق. وهو، في ظن آخرين، تهديدٌ للأمن العام، لأن من يُغطِّي وجهه بأي شيء يمنع الناس (خصوصا قُوَى الأمن) من معرفته في الأماكن العامة. ويذهب الظن بآخرين إلى أنه يَمنَع ويَعُوق النساء من أن يَكُنّ فاعلات في مجتمعاتهن. وإجمالا، ف"النقاب/الحجاب"، في منظور هؤلاء جميعا، ليس فقط "وسيلة مُهِينة للنساء وأداة لِقَمعِهنّ"، بل إنه اعتداء صريح على الحقوق الفردية وتهديد للأمن العام ولمصلحة المجتمع. وبهذا، فارتداء "النقاب/الحجاب" يرمز إلى "الظلامية" ويُعبِّر عن "التطرُّف/التشدُّد" ويُمثِّل "عدم التسامح"، مما يجعله يُساهم في خلق الأجواء المُناسبة لتبلوُر "الكراهية"، وبالتالي "الإرهاب". غير أن كثيرا من تلك الشُّبُهات التي تَحُوم أو تَرُوج حول "النقاب/الحجاب" يمكن دحضُها، لا فقط بواسطة استدلال خِطابي، وإنما أيضا بالاستناد إلى وقائع ثابتة على مستوى الحياة الاجتماعية. ونجد، بهذا الصدد، أن محاولة الصِّحافية البريطانية المسلمة "فاطمة بركة الله" جديرة بالتنويه (وهي صحافية بارزة بمجلة "سيسترز"، كتبت مقالا لها بصحيفة "التايمز" بعنوان «النقاب: الواقع في مقابل الخيال» [2]). ذلك بأنها بيَّنت أن كثيرا من الفِكَر في الغرب (وليس فيه وحده) عن "النقاب" ليست سوى "فِكَر شائعة" تصل إلى حدّ الاختلاق المحض. إذ هناك، أولا، فكرة أن "النقاب" رمز لاستعباد المرأة، مع العلم بأن معظم النساء لا يُفرَض عليهن أصلا ارتداء "الحجاب" (وبَلْه "النقاب")، بل هنّ يعتبرن ارتداءه -وفقط في الخارج- تعبُّدا اختياريا (خشيةً للخالق) يأتي تتويجا لرحلة روحية نحو التحرُّر الحقيقي (من كل "ظهور" على "عورة" النساء). والفكرة الثانية هي الاعتقاد بأن من ترتدي "النقاب" (أي "المُتَنقِّبة" بإرادتها، وليس "المُنَقَّبة" رغما عنها) لا تستطيع المساهمة في مجتمعها، في حين أن المثير للعجب هو أن "المُتنقِّبات" يُمثِّلن مجالات مهنية مختلفة (منهن الطبيبات والمعلمات وطبيبات الأسنان والكاتبات والمساعدات الاجتماعيات وخريجات الجامعة والمُحاضِرَات، وأُخْريات كثيرات) ؛ وهن يُفضِّلن العمل في بيئة نِسوية بحيث لا يحتجن لغطاء الوجه طوال الوقت، وحينما يعملن في بيئة مختلطة، فغطاء الوجه يجعلهن يشعرن بالارتياح ؛ فهن لَسْنَ عِبئًا على مجتمعاتهن، بل هن مُواطنات صالحات، لا يُدَخِنّ ولا يشربن الخمر ولا يُفسدن، وبعضهن أمهات يُنَشِّئن أطفالا ناجحين. والفكرة الثالثة ترتبط بأن "القرآن الكريم" لم يأمر بارتداء "النقاب"، بينما الثابت أن رُؤية العالَم في "القرآن" تُقدِّم نسقا كاملا عن الحياة اليومية لدى المسلم الملتزم (آداب الوقاية الصحية، مُعاملة الجار، حقوق الحيوان، كيفية اللباس)، حيث نجد في "القرآن" أكثر من آية عن كيفية لباس المرأة، منها: «يا أيّها النّبي قُلْ لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يُدْنِين عليهنّ من جلابيبهنّ. ذلك أَدْنَى أنْ يُعْرَفْنَ، فلا يُؤْذَيْنَ. وكان الله غَفُورا رحيما.» (الأحزاب: 59)، وهي آية يُفسرها بعض العلماء بوجوب غطاء الجسم كله بما في ذلك الوجه، في حين يرى آخرون أن غطاء الوجه فضيلةٌ على الرغم من أنه ليس واجبا مُلزِمًا. والفكرة الرابعة تتمثل في اعتبار أن ارتداء "النقاب" يُشير إلى أن كل الرجال في المجتمع حيونات مُفترِسة، كما لو أن إحكام غَلْق أبواب البيوت يَدُلّ على أن كل أعضاء المجتمع لُصوص، لكن واقعية تَصوُّر العالَم في الإسلام تعترف بإمكان حصول الانجذاب بين المرأة والرجل، وهو إمكان إذا تُرك بلا ضابط فقد ينهار النظام الأخلاقي للمجتمع، حيث يجب أن تُراعى الفُروق الطبيعية بين الذكور والإناث على نحو يُمكِّن من تفادي مختلف الأضرار المحتملة. وتُفيد الفكرة الخامسة أن "النقاب" مصدر تهديدٍ أمني للبنوك والمطارات، بسبب صعوبة التعرُّف على هوية "المُتنقِّبات"، في حين أنهن ٱعتدن أن يَقِفْن جانبًا ويكشفن عن وجوههن وهوياتهن للموظفات، فكُنّ -منذ عقود- يجتزن الحواجز الأمنية بأكبر المطارات فى العالم كله دون أن يتسبَّبن في أي مشاكل أمنية، بحيث يمكن أن تُتَّخذ الإجراءات نفسها في أي موقف يجب فيه فحص الهويات. وتتمثل الفكرة السادسة في اعتقاد أن "المُتنقِّبات" لا يستطعن العمل كمعلمات، بينما في الواقع هناك كثير من المعلمات المسلمات المؤهلات جدًّا، وهن لا يحتجن لغطاء الوجه إن لم يكن هناك رجال، مما يجعل معظمهن يخترن العمل فى مدارس الفتيات والأطفال. وأما الفكرة السابعة (والأخيرة في مقال "بركة الله")، فهي اعتقاد أن منع "النقاب" سوف يُحرِّر اللواتي أُرْغِمن على ارتدائه (وهن أقلية)، لكن منع "النقاب" بهذا الشكل سيأتي برد فعل عكسي، إذ ستشعُر كل مسلمة أنها مُستهدَفة ومُضطهَدة، وهو ما قد يؤدي إلى انسحاب مواهب كثير منهن من المجتمع. وهكذا، فإن إرادة خَلْع "النقاب" عن "المُنقَّبات" سوف تجعل كل "المُتنقِّبات/المُتحجِّبات" (وهن أكثرية) يشعرن بالتمييز ضدهن، وبأنهن يتعرَّضن للاضطهاد والإساءة بخلاف ما يقتضيه القانون. ومن ثم، يتجلى تهافُت الخطاب الشائع حول ارتداء "النقاب/الحجاب" كخطاب استرهابي قائم على اختلاق الأباطيل لترهيب الناس كافة. لكنّ المُبطلين يُصرُّون، رغم ذلك، على ترديد شُبُهاتهم وترويجها، إلى الحد الذي جعل "نعيمة ب. روبرت" (مُؤسِّسة مجلة "سيسترز") تؤكد أن كل شيء يَمِيل نحو جعل المسلمات "المُتنقِّبات/المتحجِّبات" يُردِّدن، ربما إلى يوم قيام الساعة، على آذان من لا يسمعون أن ارتداء "النقاب/الحجاب" اختيارٌ تعبُّدي وأسلوب في الحياة الروحية، وليس رمزا للاستعباد أو الاضطهاد كما لا يفتأ يُكرِّر الخُصوم بكل خُبث وصَلَف [3]. وإذا تبيَّن بُطلان تلك الرؤية التي تنظر على نحو سَلْبي إلى "النقاب/الحجاب"، فإنه يلزم العمل على تبيُّن الرموز والدلالات الكامنة خلف هذا اللباس. ذلك بأن "النِّقاب" يتحدد، في أصل استعماله، بأنه "القِناع أو البُرقُع الذي تَستُر به المرأة وجهها". وصار، الآن، "كيفيةً في اللباس تَستُر بها المرأة كل جسمها"، إما بارتداء ثياب مُفَصَّلة وسوداء تُغطِّي سائر أعضاء وأطراف البدن، وإما بارتداء ثياب شبيهة بكِيس من القُماش المُلَوّن كما تفعل نساء طالبان. غير أن "النِّقاب" يُستعمل، أيضا في "العربية"، بمعنى "البَحَّاثة" بما هو "عَلَّامَةٌ فَطِنٌ يُنقِّبُ عن معاني وحقائق الأمور" أو بما هو "الباحث عن بَطْن الأشياء" (حيث يأتي "النِّقَاب" بمعنى "البطن"). ومن هنا، نتبيّن أن "النِّقاب" له صلة ب"النَّقْب" بمعنى "الخَرْق" أو "الثَّقْب"، كأنه خَرْقٌ ل"السطح" طَلَبًا ل"العُمق" أو خَرْقٌ ل"العادة" بحثا عن حقيقة "العبادة"، بل إنه يبدو مرتبطا بنوع من البحث والفحص من أجل رعاية وصَوْن الحقوق (حقوق الله على عباده و، من ثم، حقوق الناس بعضهم على بعض) بما هي "مَنَاقِب" (مَكارم يُفتَخَر بها) ؛ مما يجعل المرء "نَقِيبا" ("كريم القوم الباحث عن أحوالهم والراعي لها"). وأكيدٌ أن تلك المعاني الثَّاوية خلف الألفاظ (المتعلقة ب"النقاب") هي التي تُوحِي بالقصدية المُقوِّمة والمُوجِّهة لارتداء "النقاب/الحجاب" لدى من يفعلن ذلك عن إيمان وتبصُّر. لكن "سِرَاع الفِكْر" لا يكادون يلتفتون إلى أي شيء من ذلك، ليس فقط لأنهم لا يَجدون من الوقت ما يكفي لتأمُّل الواقع توصيفا وتأويلا، وإنما أيضا لأنهم لا يُريدون (وقد لا يستطيعون بفعل شروط موضوعية) أن يَروا منه إلا ما يستجيب لأهوائهم وتوهُّماتهم. وبما أن "الجسد" يُعَدّ -على أساس "التنشئة الاجتماعية" كصياغة اجتماعية وثقافية لِما هو طبيعي- موضوعًا لشتى أنواع التدخُّل التي تقود باستمرار إلى استئناسه وتسخيره، خارج وعي وإرادة صاحبه (أو صاحبته)، فإن "النقاب/الحجاب" لا يُمثِّل فقط أحد تلك الأنواع من التدخُّل الاجتماعي/الثقافي، وإنما يَحضُر كطريقة مُضادّة -اجتماعيا وثقافيا- لكل أشكال التدخُّل التي تُسخِّر الأنثى من خلال جسدها بتحويله إلى موضوع معروض على أنظار المَلَإ بحيث يُمكن تملُّكه وتقويمُه وتداولُه كشيء مثل سائر الأشياء. وعلى هذا الأساس، يَكُون "النقاب/الحجاب" مُمثِّلًا لنوع من السعي نحو الِانفكاك الفعلي عن أحد شروط "السيطرة الذُّكورية" ك"تمييز إيجابي" يَنْصبُّ على "التجسُّد/التجسيد" الأنثوي، وهو "التمييز" («discrimination») الذي يَلْتبِس بأحد أشدّ أنواع "العنف الرمزي" خفاء، حيث إنه يُفْلِت من إمساك الفكر النقدي حتى بالنسبة لِدُعاة "النِّسوانية" و"الجِنْسانية" ممن ينزلقون من رفض "وَصْمِ الجسد المُجَنَّس" (في حالة الأنثى) إلى نفي "تجنيس الجسد المَوْصُوم" (في حالة المُخنَّث) بشكل ينتهي إلى إبعاد الناس عن إدراك حقيقة اشتغال "السيطرة الذُّكورية" في إطار البنيات والآليات المُقوِّمة لأنماط السيطرة اجتماعيا وثقافيا التي تتوسَّل "الجسد" كوسيط ورِهان للإخضاع والتسخير، خصوصا كما صار إليه الحال في خِضَمّ المجتمعات المعاصرة من خلال الصناعة المُثلَّثة العظمة (التجميلية-التخييلية-الإعلامية). يتبيّن، إذن، أن منع "النقاب/الحجاب" والتهجُّم عليه بالشكل الشائع يَؤُول إلى فضح ما لم ينفضح بعدُ من تحيُّزٍ وانحراف وتضليلٍ في المجتمعات الغربية وتوابعها: ف"العَلْمانية" ليست "لادينية" جذرية، وإنما هي "دينية" مُتنكِّرة في خطاب يُقدِّس "الإباحية البهيمية" ("الحُريّانية-الليبرالية") ؛ و"الديموقراطية" القائمة على المساواة وحقوق الإنسان ليست، في الواقع الفعلي، سوى "امتياز" للنُّخب الغالِبة والمُتغلِّبة، وليست إنصافا شاملا للأكثرية وبالأخص للأقليات ؛ و"العقلانية التحريرية والتقدمية" ليست تأسيسا واقعيا وكُلّيّا للانفكاك عن القيود الاعتباطية، وإنما هي جُملة من الأقنعة المرفوعة كشعارات تَحجُب أشكال الإخضاع والِامْتِثال التي تُسخِّر عامة الناس اجتماعيا وثقافيا وإعلاميا من أجل استغلالهم المُفرط اقتصاديا وسياسيا. ونتيجة لكل ذلك تبدو المجتمعات الغربية، في معظمها ورغم كل مظاهر التفتُّح والتعدُّد، أشدّ تمييزا وأقلّ تَسامُحا تُجاه "الآخَر" ("الأجنبي" و"الغريب" و"المُخالِف). وفي مقابل ذلك، نجد أن المجتمعات العربية-الإسلامية، التي كثيرا ما تُوصَم بأنها تقليدية-مُحافِظة واستبدادية-قمعية ومُغلَقة-إقصائية، تُقدِّم أشكالا غير مُؤسَّسية من العلاقات والمُعاملات تتحدَّد بصفتها أشدّ تسامُحا واعتدالا. إذ تعايشت فيها ولا تزال كل الطوائف والمذاهب والأعراق على الرغم من كونها من مشارب شتى وذات منازع متفرقة. ولعل وجود "النصارى" و"اليهود" و"الصابئة" و"المجوس" إلى جانب "المسلمين"، ووجود "المساجد" و"الكنائس" و"الحانات" و"المراقص" متجاورة ومتقاربة في كثير من المدن، واحتضان البيوت والأُسر لأصناف مُتنافرة من الشخصيات والأساليب الحياتية، وتزاحُم الشوارع بمختلف السلوكات والأنماط والأشكال، كل ذلك يُعبِّر -بهذا القدر أو ذاك- عن تجذُّر التسامح والاعتدال بين شعوبِ ومجتمعاتِ هذه المنطقة التي تُوصَم بأنها مَعقِل "التطرف" و"العنف" في العالم، وذلك على النحو الذي لا يعود معه هذا "التطرف/التشدد" نفسه سوى ظواهر طارئة تجد تبريرها الحقيقي في أنواع الإعاقة التي صارت تُعانيها هذه المجتمعات أساسا من جرّاء مختلف الاختلالات الناتجة عن عُقود من "الاستيطان" و"السيطرة" و"التدخُّل" من قِبَل القُوى الغربية وعملائها المحليِّين استكبارا واستبدادا واسترهابا. إن "النقاب/الحجاب"، حتى باعتباره تطرُّفا، يُناظر في الواقع "التَّعرِّي" أو "التبرُّج". فإما أن هناك حرية "طبيعية" في اللباس يتم تنظيمُها مَدنيا وتقنينُها مُؤسَّسيا فيكون، بالتالي، لكل شخص الحقّ في أن يَلبس بحسب ما يراه في إطار "الحريات العامة" المكفولة للجميع من دون أي تمييز ؛ وإما أن بعض الأشخاص باسم "الدولة" (الراعية وحدها، في ظنهم، للمصالح) أو باسم "الله" (الآمر، في ظن بعضهم، بالإكراه في الدين) يُعطون لأنفسهم الحق في التسلُّط على الحقوق الطبيعية والأساسية للناس، بينما هم يُدافعون بكل الحِيَل عن امتيازاتهم الخاصة التي تُعطيهم وحدهم الحق في أن يُوجَدوا ويتصرفوا على نحو مختلف عن كل ما سواهم. ولذلك، فَمَنْ ذا الذي يَقبَل أن يُفرَض عليه لباسٌ ما أو كُلّ لباسه؟ ومن منّا يستطيع أن يَقبَل أن تقوده الشرطة إلى المسجد كي يُؤدي الصلوات الخمس؟ ومن هو ذاك الذي يرضى أن يكون مَحطّ توجُّس أو ارتياب عمومي ورسمي لمجرد أنه يرتدي هذا اللباس أو ذاك أو يَحمِل رمزا معينا وبارزا؟ ألَا إن "التطرف" كلَّه قائم في إمساك العصا من النصف تحكُّما أو تَشهِّيا أو تبلُّدا. فلا حرية لك ما لم تكن لغيرك، ولا حق لك ما لم تُوجِب على نفسك احترام حقوق الآخرين، وأولُها "الحق في الاختلاف" المُنقلِب إلى "واجب للتسامُح" بكل ما يَعنيه "التسامح" من تحمُّل الآخر المُستفِزّ للمشاعر باختلافه الجذري في كل شيء. أما المُنْطوُون في القفص الحديدي لوجودهم واعتقادهم الخاصَّيْن (كما لو أن الحق والصواب يقتصر عليهم وحدهم)، فمُطالَبون ببذل المزيد من الجهد لعلَّهم يُدركون أنهم بما هم موجودون على نحو مُعيّن، فليسوا كذلك إلا على أساس الاختلاف الذي هو الأصل في الوجود والفعل بهذا العالم. ولذا، ف"الحقّ في النقاب/الحجاب" يُساوِي، من الناحية الوجودية وليس القِيمِيّة، "الحق في التعرّي/التبرّج". ومنعُ أحدهما يقتضي، بالضرورة، منع الآخر والتضييق عليه. وكل من يُنصِّب نفسه مُدافعا عن أحدهما دون الآخر مُطالَب بمُراجعة مفاهيمه على نحو جذري وجادّ وَفْق ما استجدّ في كل مجالات التفكير بعيدا عن رُوح المحافظة والوُثوقية التي تتستَّر خلف الوجه الأُحادي ل"العقل" و"الحق" و"الصلاح"، ذلك الوجه الذي يَدّعيه كثيرون حصرا في أنفسهم من دون تحقيق لأدنى الشروط المطلوبة واقعيا. وتبعا ذلك، فإن من يرفُض "النقاب/الحجاب" ليس، في الواقع، سوى الوجه الآخر من "التطرُّف الاسترهابي" الذي يَسكُن داخل كثيرين ممن لا يَجرُؤُون على القيام بعملية الاستدلال إلى آخرها، ضد النفس وأهوائها، وضد التقاليد وقُيودها، وضد كل الإغراءات والمصالح غير المشروعة، سواء أَرتبطت بالماضي أم بالحاضر. وبناء على كل هذا، فإنك لا تستطيع أن تكون بإطلاق ضد "النقاب/الحجاب" إلا في المدى الذي تكون مُستعدا تماما لفِقْدان حقّك في أن ترفُضه مُفضِّلا غيره لباسا عاديّا أو تَعرِّيًا كاملا (وهما الرفض والتفضيل اللذان يَتحدّدان، اجتماعيا وتاريخيا وثقافيا، كتوجيه خَفي وغير واعٍ لكيفيات استعمال الجسد غير الطبيعية وغير البديهية، على النحو الذي يُؤكد أن "الحرية" لا تُنتَزع إلا في نهاية "مُجاهدة" ظهرت اجتماعيا وتاريخيا للناس مصلحةٌ في خوضها ك"مُغالَبة في الجهد العُمراني"، ويُسِّرَ لهم مُؤسَّسيا وسياسيا إتيانُها ك"فضيلة أخلاقية ومَدنية"). [email protected] ***** [1] اُنظر: - Pierre Bourdieu, La Domination Masculine, éd. Du Seuil, coll. Liber, 1998, p. 35; ويمكن الرجوع إلى الترجمة العربية رغم فسادها البَيِّن ابتداء من عنوانها: بيار بورديو، "الهيمنة الذكورية"، ترجمة د. سلمان قعفراني، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، ط1، 2009، ص. 54-55. [2] اُنظر: - Fatima Barkatulla, «The niqab, fact v fiction», Times Online, July 21, 2009; in: http://www.timesonline.co.uk/tol/comment/faith/article6721729.ece [3] في السياق نفسه، اُنظر: - Naima B.Robert, «Niqabi, interrupted», Times Online, June 26, 2009; in : http://www.timesonline.co.uk/tol/comment/faith/article6584782.ece