تُعدّ "الدّولةُ" من المَواضيع الإشكاليّة التي يُفضِّلُ أدعياءُ "العَقْلانيّة" و"العَلْمانيّة" بيننا أن يُزايدوا بها على "الإسلام" و"المُسلمين"، من حيث إنّهم يَميلون إلى القول بأنّ "الدّولة" من الشُّؤون الدُّنْيويّة والسياسيّة التي لا صلة لها إطلاقا ب"الدِّين" لأنّ الحَكَم فيها – حَسَب ظنِّهم- هو فقط "العقل" (كأمر مُستقلّ بنفسه ومُشترَك بين الناس في هذا العالَم)، في حين أنّ "الدِّين" عموما (وبالخصوص "الإسلام") عِمادُه – في زعمهم- "الوحي" ومَجالُه محصورٌ في الشُّؤون الأُخْرويّة والخُلُقيّة (كمجال لما هو "خاصّ" و"خُصوصيّ"). ومن المُؤسف أنّ "المُسلِمين" (و، من ثَمّ، "الإسلاميِّين") لا يكادون يفعلون شيئا في الواقع سوى أنّهم يُعْطون – بوعي أو من دُونه- كل الذّرائع المُناسبة لمُمارَسة «التّضليل باسم الإسلام»، بل على حساب مَصالحهم الحيويّة بما هُم بَشرٌ ككُلِّ الناس. والحال أنّ "الإسلام" في أُصوله الشرعيّة دينُ تنويرٍ وتحريرٍ بما يَجعل الاستناد إليه لا يَقُوم إلّا بما هو "دعوةٌ" إلى إقامةِ "الحقّ" و"العدل" تسديدا وترشيدا و، من ثَمّ، مُناهَضة "التّضليل" و"التّسلُّط" مُقاوَمةً بالتي هي أحسن. إنّ مُعظم الناس - بالخصوص في واقع المُجتمعات المُعاصرة- يُحِسُّون بحُضور "الدّولة" على الرغم من أنّه يَصعبُ كثيرا تعيينُها موضوعيّا بشكل واضح ونهائيّ. لكنْ من المعروف أنّ "الدّولة" تتحدّد، في الواقع الفعليّ، بصفتها إطارًا قانونيّا ومُؤسَّسيّا لتدبير «الشّأن العامّ» على مُستوى بلد أو مُجتمع مُحدَّد، وهو التّدبير الذي يَحكُمه "القانون" ("الوَضْعيّ" أو، أحسن، «الموضوع بالاجتهاد العقليّ») والذي تقوم به «أجهزةٌ إداريّةٌ» ذات 0ختصاصات مُحدَّدة قانونيّا وتنظيميّا، ومُتكاملة بنيويّا ووظيفيّا (0ختصاصات يَنهض بها، أساسا، مجموع «المُوظَّفين العُموميِّين»). ويُعَدُّ "الدُّستورُ"، بما هو ميثاقٌ تَعاقُديٌّ بين مجموع "المُواطنين"، أسمى معيار قانونيّ ووَضْعيّ يُفترَضُ فيه أنْ يَضمن "الحُقوق" ويُحدِّد "الواجبات" بشكل مُتساوٍ بالنِّسبة إلى جميع "المُواطنين". ولكي يكون "الدُّستور" مُعبِّرًا عن المبادئ الأساسيّة الضّامنة لحُقوق مجموع "المُواطنين" في إطار ما صار مُتعارفًا في العالَم المُعاصر باسم «الدّولة الرّاشدة» (l'Etat rationnel) في تأسُّسها المَدنيّ و0شتغالها الدِّمُقراطيّ، فلا بُدّ من أن تُعِدَّه «جمعيّةٌ تأسيسيّةٌ» تكون مُمثِّلةً لمجموع «قُوَى الشّعب» ومُستقلّةً تمامًا عن نِظام الحُكم القائم (خصوصا في الطور الانتقاليّ). وحينما يُعدَّلُ "الدُّستور"، فإنّه يُعرَض على النّقاش العُموميّ الحُرّ قبل أنْ يُستفتَى شعبيًّا عليه لإقراره أو رفضه من قِبَل أغلبيّةِ الأصوات المُعبَّر عنها بالنِّسبة إلى الكُتلة النّاخبة في المُجتمع المَعْنيّ. وأوّلُ ما يُقابِلُنا، في كثير من الدّساتير ببُلدان «العالم الإسلاميّ»، أنّها تَنُصّ – خصوصا في تصديرها- على «إسلاميّة الدّولة» (من خلال عبارة «الإسلام دين الدّولة»). فهل التّنصيص على «إسلاميّة الدّولة» يُعبِّر بالضرورة عن حقيقةِ أيِّ بلد/مُجتمع (من المجتمعات حيث تعيش أكثريّةٌ من المُسلمين) بما هو فضاءٌ مَدَنيٌّ وموضوعيٌّ لقيام وإقامة "الدّولة" كإطار قانونيّ ومُؤسَّسيّ لتدبير «الشأن العامّ» على أساس مَعايير "الحقّ" و"القانون" و"المُساواة" بين كل "المُواطنين" بغضّ النّظر عن كل مُحدِّداتهم القوميّة والجنسيّة واللُّغويّة والدِّينيّة والِاجتماعيّة؟ وهل إعلانُ «إسلاميّة الدّولة» يُمثِّل الردّ المُناسب على إرادةِ «تعطيل الدِّين» باسم «عَلْمانيّة الدّولة» أمْ أنّه ردٌّ يقف دون «رُوح الإسلام» التي تقتضي، عموما، العمل ب«التَّرْشيد» بما فيه «تَرْشيد الدَّوْلة»؟ يَجدُر، 0بتداءً، القولُ بأنّه لا مُشاحّةَ في أنَّ البُلدان المُنتمية إلى «العالم الإسلاميّ» تُعدّ "إسلاميّةً"، لكون شُعوبها في أكثريّتها "مُسلِمةً" تدِينُ - على الأقل في الظّاهر- ب"الإسلام" مُعتقداتٍ وعباداتٍ وشعائر ؛ وهي "إسلاميّة" أيضا لأنّها مجتمعاتٌ هَيْمنتْ فيها "الثّقافةُ" و"الحضارةُ" الإسلاميّتان، منذ نحو أربعة عشر قرنا، على كل المُكوِّنات الثقافيّة والحضاريّة الأُخرى. وعلى هذا الأساس، يُمكن الحديثُ عن «الشّعوب المُسْلِمة» وعن «الأُمّة الإسلاميّة». لكنْ، هل يَسمح ذلك بالحديث عن أيِّ دولةٍ في هذا المَجال بصفتها دولةً "إسلاميّةً" أساسًا؟ إنّنا نجد أنَّ تسميةَ «الدّولة الإسلاميّة» لا تقتضي فقط أنْ يكون كُلُّ "المُواطنين" - أو، على الأقل، مُعظمُهم- يَقْبلُون الانضواء تحت لواء "الإسلام" ويُسلِّمُون بتعاليمه تَسْليمًا، بل تقتضي أيضا أنَّ "الدّولة" تقوم في أُسسها على "الإسلام" الذي يُفترَض فيه، بالتالي، أن يكون مجموعةً من "المبادئ" و"القيم" المُحدِّدة للمُمارَسة السياسيّة كتدبير قانونيٍّ ومُؤسَّسيٍّ ل«الشّأن العامّ»، بحيث يَصير كل ما ليس "إسلاميًّا" غير ذِي مَحلٍّ في إطار «الدّولة الإسلاميّة». فهل يُمكن "تسويغُ" (و"تشريعُ") كل ما له صلة ب«الشّأن العامّ» في أيِّ «بلد مُسلم» بصفته "إسلاميًّا"؟ لو أخذنا أهمَّ ما يَقُوم عليه "الإسلام" (بما هو "شريعةٌ" تَنُصُّ في أُصولها على أنّ 0للّه يَأمُر بالعدل والقسط، وأنَّ الدِّين لا إكراه فيه، وأنَّ أمرَ المُسلمين شُورى و0جتهاد بالإجماع بينهم، وأنَّ "0لحُكْم" لا يكون إلّا مُبايَعةً بالتّراضي بين الحاكم والمحكوم، وأنَّ الكُلَّ راعٍ ومَسؤولٌ عمّا 0سْتُرْعِيَه)، لكانتْ تسميةُ «دولة إسلاميّة» (عملا بتلك المبادئ) تُوجِبُ بناء «دولة راشدة» تقوم على «العدل» و«المُساواة» وتحكيم «0لشّريعة/القانون» مُراقَبةً بالحقّ ومُعاقَبةً بالقسط. فما مدى «إسلاميّة دولةٍ» لا تَحترم أيَّ مبدإٍ من تلك المبادئ؟ ما حقيقةُ دولةٍ، من النّاحية الإسلاميّة، إذَا كانت قائمةً على «بيعة الإكراه» وعلى «الحُكْم العاضّ أو الجَبْريّ» في ظلِّ 0ستبدادٍ ظالِم وطُغيانٍ فاسد/مُفسد؟ ألَا يَجدُر التّساؤُل، في دولةٍ يُرادُ لها أنْ تَتحدَّد بأنّها "إسلاميّة"، عن شرعيّة الخمّارات والمَراقص والبُنوك الرِّبويّة ومَتاجر الخُمور وأوْكار البِغاء والقمار والمُخدِّرات التي جرتِ العادةُ بكونها تَضُخّ الأموال في خزينةِ هذه "الدّولة" تمامًا كما تَضُخّها في حساباتِ مالِكيها والمُستفيدين منها الذّين يَدَّعُون أنّهم "مُسلمون" والذين هُمْ، بالأساس، أعضاءٌ في هذه «الدّولة الإسلاميّة» المنصوص عليها في "الدُّستور"؟! أفلا يَحِقّ، إذًا، لأيِّ مُواطن أو لمن يُمثِّله أنْ يُقِيمَ دَعاوى قضائيّة ضد "الدّولة" التي تَقبلُ (وتَستغلُّ) كل تلك الشُّؤون والمُعامَلات «غير الإسلاميّة»؟! أليس من حقِّ "المُسلمين" أنْ يُجنِّبُوا أنفسَهم وأهلَهم كل أنواع "0لحرام" التي 0عتادتْ دُولُهم رعايتَها و0ستغلالها باسمهم وباسم دينهم؟! لكنْ، إذَا تجاوزنا ذلك المستوى الظاهر و0عتبرنا أنَّ «إسلاميّة الدّولة» تَجعلُها حصرا «دولةً للمُسلمين»، فإنّه لا بُدّ من التّساؤُل عن مَحلّ «غير المُسلِمين» (من اليهود والنّصارى والمَلاحدة واللَّاأْدريِّين) في هذه «الدّولة الإسلاميّة»؟! هل عليهم أنْ يُغادروها أَمْ يُمْكِنُهم أنْ يَبْقوا فيها من دُون أنْ يَطمعوا في ضمان حُقوقهم بالمُساواة مع باقي "المُواطنين" من المُسلمين؟! هكذا تتجلّى الثُّغْرةُ الكُبرى في كل دُستور يَنُصّ على «إسلاميّة الدّولة»، إذَا 0عتبرنا أنَّ نَصَّه وُضع للإعمال وليس للإهمال. ولأنّها ثُغْرةٌ كُبرى، فهي وَرطةٌ شديدةٌ للدّولة ولكُلِّ الذين يُريدونها لا فقط أنْ تكون حصرًا "إسلاميّة"، بل أنْ يكون «الإسلام دين الدّولة». وأكثر من ذلك، فهي ورطةٌ لكل الذين سيَقبَلون هذا التّنْصيص على صفةِ "الإسلاميّة" باعتبارها مُلازِمةً ومُحدِّدةً لجوهر "الدّولة" بالبُلدان حيث يكون "المُسلمون" أكثريّةً! وإنّها حقًّا لورطةٌ، بالخصوص، ل«القائمين بشُؤون الدّولة» من المُوظَّفِين الذين عليهم - جميعًا من أعلاهم إلى أدناهم، ومن الآن فصاعدًا- أنْ يُثْبِتُوا باستمرار مدى «0لتزامهم بالإسلام» حتّى يكونوا أهلا لتلك المَناصب التي يَتبوَّأُونها! وإنّها، بالأخص، لورطةٌ للذين يُسمَّوْن (ويَتَسمَّون) "إسلاميِّين"، لأنّه عليهم - هُمْ أيضا- أنْ يُبْرهنوا على مدى 0ستحقاقهم لصفة "إسلاميِّين" من خلال نُهوضهم للعمل على تفعيل وتحقيق صفة «إسلاميّة الدّولة» على كل المُستويات! غير أنَّ التّنْصيص على «إسلاميّة الدّولة»، في الوقت نفسه الذي يُعطي "0لشرعيّة" (الدينيّة!) لكل مُؤسسات وهيئات "الدّولة" (بالخصوص ل«المُؤسَّسة المُلْكيّة» ك«إمارة للمُؤمنين» ؛ ولكل "الأحزاب" و«المُنّظمات الحُكوميّة» حتّى في نُزوعها "العَلْمانيّ"!)، إنّما يُورَد في الواقع ليَسْحب البِساط من تحت أقدام كل حزب أو تَجمُّع يُريد أنْ يَحتكر «0لشرعيّة الإسلاميّة» أو يُزايِدُ باسمها، بل إنَّ هذا التّنْصيص على «إسلاميّة الدّولة» ليَزيدُ من توريط مثل هذا الحزب/التّجمُّع بالضبط: إذْ ما دامتِ "0لدّولةُ" قد حُسِمت إسلاميّتُها بالدُّستور، فما على جميع الفاعلين السياسيِّين إلّا تَرْك المُزايَدة "التّسايُسيّة" و"التّشاعُبيّة" «باسم الإسلام» والِانتقال، من ثَمّ، إلى خَوْضِ تنافُسٍ حقيقيٍّ على مُستوى «الإنجاز العَمَليّ» من دون مَنٍّ ولا فَخْر! يبدو، إذًا، أنّه لا حَلّ لإشكال «إسلاميّة الدّولة» إلّا بإلغاء هذه الصفة (أيْ بإعلان «مَدَنيّة الدّولة» بعيدًا عن كل 0لتباس أو تضليل) أو تقييدها بالقول «إسلاميّةٌ بالِانتماء ثقافيًّا وحضاريًّا إلى "الأُمّة الإسلاميّة" أو "العالَم الإسلاميّ"». وحتّى هذا التّقييد، إذَا فُهِم حقّ الفهم، يَؤُول إلى إفراغ صفة "إسلاميّة" من معناها، لأنَّ «الأُمّة الإسلاميّة» كانت ولا تزال، منذ أربعة عشر قرنا، تعيش في ظلّ حُكْمٍ 0ستبداديّ ( سواء أَسُمّيَ مُلْكًا عاضّا وَ/أوْ جَبْريًّا أمْ "جُمْهَلكيّات"!). ومن هنا، فإنَّ إرادةَ تحقيق صفة «إسلاميّة الدّولة» من شأنها أنْ تَضع «نِظامَ الدّولة» كُلَّه على مِحَكِّ "الشُّورى" و"المُبايَعة" كشرطين شرعيَّيْن لتنصيب "الخليفة"! فهل يَجرُؤ "المُسلمون"، وخصوصا المُشتغلون منهم بالسياسة، أنْ يَقرأوا «إسلاميّة الدّولة» بهذا التّقييد الأخير كما تدعو إليه بعض الجماعات والقُوى منذ عُقود؟ وهل يَعِي «إسلاميُّو النّظام» أنّه، بعد حسم «إسلاميّة الدّولة» دُستوريًّا، لم يَعُدْ أمامهم سوى 0لتزام «الدّعوة (الدينيّة)» وترك شُؤون «الدّولة (المَدنيّة)» لأهلها أو 0لِاستمرار في إعطاء "الشرعيّة" (الدينيّة) لأمر قائم لا يَتحقّق بها إطلاقا؟! لكنْ ينبغي، بهذا الصدد، أنْ يكون واضحًا جدًّا أنَّ 0لِاعتراض على «إسلاميّة الدّولة» ليس رفضًا مُلْتويًا لِلْإسلام و، من ثَمّ، إقرارًا مُتخفِّيًا ب"0لعَلْمانيّة" بمعنى "0للَّادينيّة" (وبَلْه قَبُول التّعارُض المُفترَض بين «الدِّينيّ/الإسلاميّ» و«الدُّنْيوي/المَدَنيّ») ؛ وإنّما مَأْتاهُ الحرص على "0لإسلام" الذي يَقتضي عدمَ تركه "دُوْلَةً" بين أيدي "0لِانتهازيِّين" و"0لمُبْطلِين"، يُظْهرونه كيفما يَشاؤُون ويُخفُونه حينما يَشاؤُون. ولا مجال، هُنا، للاتِّهام أو المُزايَدة «باسم 0لإسلام» الذي هو «دينُ 0للّه»، وليس أبدًا «دين 0لدّولة» (أيِّ دولةٍ، قد لا تُعرَفُ بشيء مُحدَّد بقدر ما تُعرف بمعصية 0للّه في كل شيء كما هو حال هذه الدُّوَل التي تَحْرِص، مع ذلك، على تحديد نفسها بأنّها "إسلاميّة"!)، كما يُريد له تُجَّارُ التّضليل والتّدليس الذين تجدهم أحرصَ النّاس على التّلاعُب ب«0لإسلام/0لدِّين» و0ستنكار «مَدنيّة 0لدّولة» تحت ذريعة أنَّ «0لعَلْمانيّة 0لمُنْكَرة» مجرد "لادينيّة" تعمل على «تعطيل 0لدِّين» (وليس، كما يقتضي الواقع، على «ترشيد 0لدّولة» بتحييد سُلْطانها تُجاه "0لدِّين" بإطلاق ؛ حتّى لو كان ذلك «الدِّين الوَضْعيّ» الذي يَعبُد فيه النّاس ثَمَرات عملهم باسم "العقل" أو "العلم" أو "الفنّ"!). ومن ثَمّ، فإنَّ "0لإسلام" ليس شعارًا يُرفَع للاستهلاك بحسب المُناسَبات، بل هو 0ستقامةٌ على 0لحقّ "راشديّةً" وعملٌ بمُقتضياته "ترشيدًا" على قَدْر ما يُستطاع في ظلّ كل مُحدِّدات "0لِابتلاء" ضمن شُروط هذا العالَم. و"0لحقُّ" الذي ظهر رُشْدًا مع "0لإسلام" هو رَفْضُ "0لوصاية" على عباد 0للّه، سواء أكانتْ من طُغاةٍ مُستبدِّين أمْ من أحبار مُتعالِمين يُتَّخذون أربابًا من دون 0للّه. ولهذا، لا يَحِقُّ لأحدٍ - بعد خَتْم النُّبوَّة- أنْ يَحتكر الحديث «بٱسم 0لإسلام» مُحلِّلا أو مُحرِّمًا كأنّه يَتلقّى «الأمرَ الإلاهيَّ» وحيًا، لأنَّ "0لِاجتهاد" المفتوح نِقاشًا عُموميًّا حُرًّا والمأجور دائما يَمْنَعُ من أنْ يَصير (أو يُصَيَّر) "0لإسلامُ" «علامةً مُسجّلةً» يَحتكرها «أدعياءُ الأمر» الذين لا يُمثِّلون "الأُمّة" في شيء! لقد جُعِلَ «أمرُ المُسلمين» شُورًى بينهم بِنَصِّ "القُرآن" («وأمْرُهم شُورى بينهم [...].» [الشُّورى: 38]) حيث لكل منهم أنْ يَجتهدَ رأيَه ولا يَأْلُو ؛ ولا يُصار إلى رأيٍ ما إلّا بإجماعٍ ترجيحيٍّ، من دون تكفير ولا تفسيق ولا تأثيم. وهذا هو التّنافُس المَدنيّ في طلب الصواب مُحاجَّةً ومُعاقَلةً، وليس مُداهَنةً أو مُخاصَمةً. ومن البَيِّن أنْ لا شيء من هذا مُمكنٌ إلّا في ظلِّ «دولة راشدة» تَتحدَّد قانونيًّا ومُؤسَّسيًّا وَفْق مُصطلح العصر بأنّها «إطار مَدنيّ ودِمُقراطيّ» لتدبير أشكال التّعدُّد و0لِاختلاف وترشيد مُستويات التّفاوُت والتّنازُع. من أجل ذلك، يُعَدّ من المُؤسف حقًّا أنّ يَبلُغ السُّخْفُ إلى هذا الحدِّ في التّضليل «بٱسم 0لإسلام» خصوصا حينما يُسطَّر ذلك في "0لدُّستور" (وهو «القانون الوضعيّ» الأسمى). وإنّه لأمرٌ يَستدعي كثيرًا من التّأمُّل والتّروِّي الذي يُوجبُ مُراجَعةَ هذه المَسألة التي هي مَدْعاةٌ إلى ترسيخ "0لِاستبداد" وصايةً وتألُّهًا بذريعةِ حفظ «الأمن الرُّوحيّ» (وأيضا «الأمن العامّ») للمُواطنين. ومن المُؤكَّد أنَّ مثلَ هذه المُراجَعة لنْ تكون إلّا من قِبَل "المُسلمين" أنفسهم في 0نتخابهم لِلَجنةٍ تأسيسيّةٍ مُمثِّلةٍ حقيقةً لكل التّوجُّهات والقُوى الفاعلة بالمُجتمع لكي تضع "0لدُّستورَ" تعبيرًا حقيقيًّا عن كل «التّوافُقات المعقولة» بين مُختلف قُوى "الشّعب". وبعيدًا عن أيِّ تضليل قد يَأتي (ويُستغَلّ) من هذه الفئة أو تلك، فإنّه ينبغي أنْ يُؤكَّد بكل قُوّةٍ ووُضوحٍ أنَّ «0لدّولةَ 0لرّاشدة» لا دينَ لها غير «العمل بالتّرشيد» قيامًا بأعباء حفظ "الأمن" و"السِّلْم" وتحقيقا لشُروط "المُساواة" و"العدل" في ظلِّ قانونٍ يُوضَع 0جتهادًا عقليًّا ويَسمُو معياريّا وفِعْليّا على الجميع من دون 0ستثناء. أمّا "0لدِّين" (في حالةِ المجتمعات 0لإسلاميّة)، فأكبرُ حمايةٍ له ليست في أنْ تكون "0لدّولةُ" حصرًا ذات طابع "إسلاميٍّ" (أو "دينيٍّ")، وإنّما هي في أنْ تُلْزَمَ دُستوريًّا وتنظيميّا بضمان و0حترام حُريّة 0لِاعتقاد والتّعبُّد والتّفكير والتّعبير لكل "المُواطنين" على 0ختلاف أديانهم أو مَذاهبهم أو 0نتماءاتهم. وما دام "الإسلامُ" دينَ الأكثريّة، فإنّ "0لدّولة" مُلْزَمةٌ مَدنيّا وقانُونيّا بأنْ تُتيح لكل "المُوطنين" المُسلمين إمكاناتِ مُمارَسته والقيام به ؛ لكنْ فقط بصفته «دينَ أكثريّة المُواطنين»، وليس بصفته «دين كل المُواطنين»! وإلَّا، فإنَّ "المُسلمينَ" أنفسَهم مُختلفون ومُتنازعون: إذْ كيف يُمكن، ضمن واقع الِاختلاف والتّنازُع، الجمعُ بين كل جماعاتِ "المُسلِمين" ومَذاهبهم وأحزابهم تحت صفة "إسلاميّة" من دون تعيينٍ يُحدِّدُ بدقّةٍ كل الفُرُوق القائمة بين كل تلك الفئات بحسب 0نتمائها المُتعدِّد إلى "الإسلام" والمُحدَّد 0جتماعيًّا وتاريخيّا وثقافيًّا وسياسيًّا (وليس فقط "دينيًّا" كما يَتوهَّمُ ويُوهم كثيرون)؟! يَتبيّن، إذًا، أنّه يجب - بخلاف ما يَظُنُّه "المُبْطِلُون" من كل صنف- تأكيدُ أنّه لا "هُويّةَ" حقيقيّةَ إلّا «0لمُواطَنة 0لكاملة» التي تجعل "الآدميَّ" مَصُونَ "الكرامة" ومحفوظ "الحُقوق" في إطار «دولةٍ راشدة» تحت مُراقَبةِ ومُحاسَبةِ «0لمجتمع 0لمدنيّ» كمُجتمع من "المُواطنين" الأحرار والمُتساوين. ولأنَّ إرادةَ التّنْصيص على «إسلامية 0لدّولة» في "الدُّستور" (بصفتها أساسا كذلك) يَتعارض مع مُقتضيَات «الدّولة الرّاشدة»، فإنَّ إطباقَ دُعاة "0لإسلاميّة" عليه يَجعلُهم مُجرد "مُضلِّلين" (أو، بالأحرى، "مُضلَّلِين") هَمُّهم الأقصى ضمانُ 0متيازاتٍ فئويّةٍ (ونُخْبويّةٍ) على حساب حُقوق باقي "المُواطنين" (من دون أيِّ تمييز). وبِما أنَّ السياسةَ إنجازٌ فِعْلِيٌّ يُشَقُّ فيما تَسمحُ به «صخرةُ 0لضرورة» من مُمْكِناتٍ (وليست مجرد وُعود وأمانٍ تُرفَع شعاراتٍ للنّفاق والتّضليل)، فإنّه لا تكفي في سُوقِها "النِّيَات" المُعْلَنة. إذْ لو كان الأمرُ كذلك، لصار كُلُّ خَِبٍّ أحسنَ "0لبَاعة" بين السياسيِّين، ولو لبقايا "0لسُّوس" التي ما زال يَتلهّى بها "0لسّاسةُ" عندنا فيُلْهُونَ بها أُمّةً طالما 0سْتأنسها "0لِاستبدادُ" حتّى صارتْ لا تَرى بديلا إلَّا أنْ تبقى "رَعِيّةً" بين أيدي ساسةٍ بلا ذِمّة ولا مِلّة! وإجمالا، فإنَّ أيَّ دُستور - يَحمل تلك الثُّغْرة الكُبرى (أو غيرها من الثُّغْرات)- يبقى مَشروعًا مفتوحًا للنّقاش (وللنّضال أيضًا)، لأنّه ببساطةٍ 0جتهادٌ بشريٌّ مشروطٌ موضوعيّا ومحدودٌ عقليّا. وإذَا كان النّقاشُ يَستعرضُ الثُّغْرات لسدِّها ويُبيِّن الأخطاء لتَجاوُزها، فإنَّ النّضالَ المَدنيَّ والسِّلْميَّ يبدو السبيل الأوحد والأنجع للعمل على توفير الشُّروط الضروريّة لوضع «دُستورٍ دِمُقراطيٍّ» يَضمنُ المُساواةَ والإنصاف بين كل المُواطنين في "الحقوق" و"الواجبات". وقد يُفرَض، بذلك الخصوص، على القُوى الساعية إلى "التّغيير" أنْ تَدخُلَ في مَسارٍ يَقتضي تغيير أولويّاتها وخُططها. ذلك بأنّ طريق النّضال والمُقاوَمة طويلٌ وشاقٌّ إلى أبعد الحُدود، خصوصًا أنَّ من «يَمْلِكُ "القانونَ" في أوطاننا (كما يقول "أحمد مطر") هو الذي يَملِكُ حقَّ عَزْفِهِ!» أو، إذَا أردنا التّقريب في حالتنا، من يَتحكَّم في صناعة/تعديل "القانون" هو وحده من يُحدِّدُ نوع "الألحان" التي يُمكِنُ أنْ تُعزَف به (ورُبّما، أيضًا، تلك التي تجعل النّاس يَقبلونه و"يَعْزِفُون" عن غيره!). وإنَّ نظامَ "0لِاستبداد"، بالقانون لحنًا معزوفًا أو من دونه قيدًا معزوفًا عنه، لا يَمْلك إلّا أنْ يَزُول من أوطاننا ولو 0ستمرّ في 0رتداء لَبُوس "0لدِّين" والتّبجُّح بزِينة "0لدِّمقراطيّة" ؛ ليس فقط لأنّه نظامٌ قائمٌ على "التّضليل" و"الإفساد" لاستدامة "الِاستعباد"، بل لأنَّ الأحرارَ لا يَقبَلُون الأصفاد - حتّى لو كَتَب عليها المُضلِّلون «صُنْع إلهيّ!»- لِعميقِ إيمانهم بأنّهم قد خُلِقُوا بنَفْخةٍ من ربِّهم تَأبى إلَّا أنْ تقول "لَا" ولو على سبيل الجدل الذي سُوِّي عليه الإنسان شيئًا أكثر من كل الأشياء، تخييرًا له و0بتلاءً وليس تسييرًا وتشييئًا كما يَظنُّ أصناف «المُضلَّلِين/المُضلِّلِين» بين ظَهْرانَيْنا. [تنبيه: الأصل في هذا المقال مقالٌ سابق بعنوان «إسلاميّة الدّولة والتّضليل الأكبر» نُشر بموقع "هسبريس" (25 يونيو 2011). ولأنّه بدا لي مُحتفظا براهنيّته، فقد عَمِلْتُ على تحيينه بإضافة الفقرات الأربع الأُولى وبتعديل الفقرة ما قبل الأخيرة، فضلا عن إزالة بعض المُتغيّرات الظَّرْفيّة (الخاصة بالحالة المغربيّة بُعيد إقرار الدُّستور المُعدَّل) وبجعله ذا طابع عامّ تذكيرا لمن يَهمّه الأمر (سيَأتي، قريبا، مقالٌ يَستكمل ما طُرح هُنا بخصوص مدى إمكان حياد "العَلْمانيّ" ؛ وهذا هو السبب الأساسيّ لإعادة نشر هذا المَقال دفعا لتخرُّصات الذين يَبتغونها عِوَجًا مِمَّنْ لا يرون أنّ الفكر لا يكون ذا معنى إلّا بما هو بناءٌ فيما وراء الاستجابة للإكراهات الظرفيّة ولانتظارات المُستعجلِين!)].