«ليست 0لمُواطَنةُ ماهيّةً مُعطاةً بصفة نهائيّة، بحيث ينبغي تثبيتُها وتوريثُها. إذْ سواء أتعلّق الأمر بالتّصور المُكوَّن عنها أمْ بالقواعد القانونيّة و، عموما، بمجموع المؤسسات والمُمارَسات الاجتماعيّة التي تُنَظِّمها، فهي لا تنفكّ تتطوّر. إنّها بناءٌ تاريخيّ. فتعريفات المُواطَنة لا تَتواطأ، بل هي نتاجُ صراعاتٍ و0تِّفاقاتٍ بين تصوُّرات متنوعة وفئات 0جتماعيّة مُتعارضة بحسب علاقات القوّة التي تقوم بينها. لقد تطوّر تعريفُها عبر الزمن ولا يزال آخذًا في التّطوُّر. وتتنوّع أشكالُها بين بلد وآخر. ورغم هذا، هناك سِمَةٌ مُشتركة في المُواطَنة الْمُعاصرة تتمثّل في 0فتراض كونها ذات بُعد كُليّ/كونيّ.» (دومنيك شناپر) «[...] المواطنة عبارة عن جملة من القيم السياسية الوضعية التي تهدف، أصلا، إلى تقوية الشعور بالانتماء للمجتمع أو للدولة، وهو أمر محمود في ذاته، ولكنه يبقى سلوكا دنيويا خالصا، بينما المخالقة هي عبارة عن جملة من القيم الكلية التي فطر الله الإنسان عليها؛ وقد تتفرع عليها قيم أخرى وتقوم مقام الميزان الذي توزن به القيم الوضعية؛ وبهذا، فالإنسان أحوج إلى المخالقة منه إلى المواطنة، بل متى حصَّل المخالقة، استغنى عن تحصيل المواطنة، نظرا لأن كل مخالقة تلزم منها مواطنة خاصة تكون غايةً في النفع، لأنها تتأسس على صبغة ثابتة، لا على وضعية متغيرة، كما تكون غايةً في الاتساع، لأنها تنفتح على الآفاق الممتدة للعالم، ولا تنغلق داخل الحدود الضيقة للوطن.» (طه عبد الرحمن، سؤال العمل، ص. 167-168) "0لْمُواطَنة"، 0بتداءً، لها دَلالةٌ قانونيّة يَتحدّد مُحتواها في أنّ "0لمُواطن" شخصٌ ذُو حقوق مدنيّة وسياسيّة بمُوجبها يَتمتّع بحُريّات فرديّة (حريّة الاعتقاد والتّعبير، حريّة التّنقُّل، الحق في الزواج، الحق في أن يُعَدّ بريئا إذَا 0عتقلته الشرطة وقُدِّم إلى الْمُحاكَمة، الحق في أن يكون له مُحامٍ يُدافع عنه، الحق في أن يُحاكَم بقانون يَتساوى أمامه الجميع) وبحُقوق سياسيّة (حق الْمُشارَكة في الحياة السياسيّة وحقّ التّرشُّح لكل الْمَناصب والوظائف العامّة)، ممّا يَفرض عليه - في الْمُقابل- واجبات تُلزمه بأن يَحترم القوانين وبأن يُساهم في النّفقات العموميّة تَبعا لمَوارده وبأن يُدافع عن المجتمع الذي هو عُضو فيه إذَا تعرّض للتّهديد. ويَترتّب على هذا التّحديد أنّ "0لمُواطن" ليس فردا مُتعيِّنًا، بل هو مفهوم مُجرَّد وعامّ يَتّسم بطابع كُليّ يَجعلُه يَنطبق على كل إنسان بِغضّ النظر عن أيّ مُحدِّدات ظَرفيّة وخاصة. وبالتالي، فإنّ "0لْمُواطَنة" هي "0لإنسانيّة" نفسُها منظورا إليها في خُصوصيّتها الكُليّة التي تُعتبَر مَصدرَ "0متيازاتٍ" و"واجباتٍ" يَحِقّ لجميع أفراد «0لنّوع 0لبَشريّ» أن يَتمتّعوا بها على سواء. ف0شتراكُ النّاس بالتّساوِي في «مُقوِّمات 0لإنسانيّة» هو أساس "0لْمُواطنة" في شُمولها لمجموع أعضاء 0لْمُجتمع بصفتهم ذواتٍ قانونيّة وأخلاقيّة. لكنّ كونَ النّاس مُضطرِّين للوُجود ضمن حيِّز أرضيّ مُحدَّد ومُحدِّد (هو "0لبلد" أو "0لوطن" بصفته يُشكِّل الإطار حيث يقوم النِّظام الاجتماعيّ والسياسيّ الذي يَسمح بتحقُّقهم كمُواطنين) أمرٌ يَجعل "0لْمُواطَنة" تَتعيَّن كنوع من «0لتّأرُّض/0لتّوطُّن» (تحيُّز مَكانيّ وزمانيّ في حُدود أرض/وطن ما) الذي من شأنه أن يَحُدّ من عُموميّتها وكَونيّتها بفعل خُضوعه لشُروط التّغيُّر والتّفاوُت الْمُلازِمة لواقع البُلدان والأوطان في تعدُّدها و0ختلافها. فهل "0لْمُواطَنة" وَضْعٌ قانونيّ ومَدنيّ تابِعٌ للمُشارَكة في سُكْنى الوطن كخُصوصيّة أمْ أنّها سَيْرورة إنسانيّة وكونيّة تُؤسَّس 0جتماعيّا وسياسيّا بالشكل الذي يُمكِّن من تحقيق ما هو نَوعيّ وكُليّ ومُتعالٍ في 0لْوُجود و0لفعل الإنسانيَّيْن؟ إنّنا نجد أنّ "0لإنسان"، بما هو بَشرٌ ذُو جسم، يَتقوَّم ك«كائن أرضيّ». إذْ فضلا عن كون «0لأرض» تُمثِّل مُستقرَّ حياته ومَوْطنَ مَعاشه، فهو من طينها خُلِق وإليها يعود بعد الموت، ومنها يُبعَث يوم القيامة. غير أنّ «تَأْريض» الإنسان (بِنِسْبَته إلى الأرض) لا يُعبِّر عن كل ما هو جوهريّ فيه، لأنّ "0لإنسان" ليس مجرد «جسد بَشريّ»، وإنّما هو أيضا وبالأساس «رُوحٌ» («نَفْخة رُوحيّة»). فخَلْقُه بُدِئ من طين («وبَدَأ خَلْقَ الإنسان من طين.» [السجدة: 7])، لكنّ تسويتَه لَمْ تَنْتهِ إلا بعد أن نُفخ فيه من «رُوح 0للّه» («ثُمّ سَوّاه ونَفَخَ فيه من رُوحه.» [السجدة: 9] ؛ «[...] فإذا سَوَّيْتُه ونَفختُ فيه من رُوحي، فَقَعُوا له ساجدين!» [الحِجْر: 29 وصَ: 72]). فالإنسان، إذًا، لا يَتحقّق كمجرد «كائن مُتأرِّض» لتعلُّق خَلْقه ومَعاشه بالأرض أو بصفته «كائنًا مُؤرِّضًا» لا يَفتأُ يُعلِّق وُجودَه وفعلَه بها، بل هو أيضا «مخلوقٌ سَماويٌّ ومُتسامٍ» بفعل تطلُّع رُوحه إلى "0لسّماء" طلبًا للانفكاك عمّا يَشدُّه إلى "0لأرض" وبحثًا عمّا يرفعه إلى مَعارِج "0لكمال". وفي الوقت الذي يُصرُّ «أهلُ ٱلغِرَّة باللّه» على جعل "ٱلإنسان" مجرد «دَابّة زاحفة» على الأرض إلى الحدّ الذي تجدهم يرون في الاستناد إلى «رسالة ٱلسّماء» نوعا من الضلال والتَّضْليل، فإنّ «أهل ٱلعِزَّة باللّه» لا يَتصورُون وُجودَ الإنسان إلا في ٱتِّصاله الدّائم بالسّماء كأنّه «مَلاكٌ طائر» يَسْبَح في أعاليها، بل إنّه ليُحلِّق دَوْمًا في أرجائها بغير جناحين من حيث إنّ قُدرتَه على "0لتّفكُّر" تأمُّلا وتخيُّلا لا تَنِي تجعلُه يَنفكُّ عن حُدود تأرُّضه ليَنفتح على آفاق تَساميه تعبُّدًا وتخلُّقًا. ومن ثَمّ، فإنّ تأكيدَ أنّ "ٱلإنسان" يَتحدَّد في وُجوده بهذا العالَم على أساس «ٱلِاشتراك/ٱلْمُشارَكة في ٱلأرض كوطن له» يُغْفِل أنّ "ٱلأرض"، بالنِّسبة إلى "ٱلإنسان"، ليست «كُلّ ٱلعالَم» وإنّما هي جُزء منه، وجُزء أصغر بكثير من أقرب الأجزاء ٱلْمُماثِلة له في نظام المجموعة الشمسيّة وحدها. فالإنسان «مَوْجُودٌ-في-ٱلعالَم/ٱلكَوْن» وليس فقط في «كوكب ٱلأرض» الذي لا وُجود له ولا ٱستمرار إلا في إطار ذلك "0لعالَم" الفسيح الذي يُحيط به مُتجاوِزًا إيّاه والذي يَحكُمه كشرط موضوعيّ له. ولهذا ف"ٱلْمُواطَنة"، قبل أن تكون «مُشارَكة في 0لوطن»، هي بالأحرى «مُشارَكة في ٱلْوُجود»، أيْ أنّها بالتّحديد "مُواجَدة" في إطار «ٱلوَضْع ٱلبَشريّ» بكل ما يَحكُمه من شُروط ويُميِّزه من مُقتضيَات ضمن ذلك "ٱلعالَم" الذي لا يَنحصر في هذه "ٱلأرض". حَقًّا، إنّ "ٱلأرض" مُتعالِيَةٌ على "ٱلإنسان" لكونها سابقةً لتعيُّنه الوُجوديّ. لكنّ كونَ «ماهيّة ٱلإنسان» (أيْ حقيقته ٱلْمُتصوَّرة عِلْمًا) سابقةً لتحقُّقه الأرضيّ يجعل "ٱلإنسان" في جوهره مُتعاليًا على "ٱلأرض"، ليس فقط لكون "ٱلحياة" في مَبْدئها طارئةً على "0لأرض" من خارجها، بل أيضا من حيث إنّ "0لإنسان" يَحمل في وُجوده رُوحًا تتجاوز حُدودَ "0لأرض" وتبقى حتّى بعد فَناء جسمه كبَشر مُتأرِّض. فبالإنسان، إذًا، كانت "ٱلأرض" أرضا وليس العكس، مِمّا يَجعل حَصْرَ "ٱلْمُواطَنة" كما لو كانت مجرد «مُشارَكة في ٱلْوُجود ضمن ٱلوطن ٱلأرضيّ» ٱختزالا لوُجود "0لإنسان" النوعيّ في هذا "0لعالَم" ك«وُجود-من أجل-ٱلتّعالِي». ولعلّ إدراكَ أنّ «0لِاشترك في 0لأرض» هو نفسه لا يَتحقّق بالنِّسبة إلى كل سُكّان العالَم إلا بشكل مُتفاوِت لَأَمرٌ كفيلٌ بتأكيد خاصيّة «ٱلتّعالِي ٱلكَوْنيّ» الْمُميِّزة لحقيقة "0لْمُواطَنة". فالنّاس فوق الأرض لا يَتساوَوْن إلا في ٱلِانتماء إليها بشكل عامٍّ. وإلا، فإنّهم في الواقع يَختلفون بين مُتوطِّن مُستقرّ ومُهاجر رحّال، وبين من ليس له من "ٱلأرض" إلا صحراؤها أو جبالها أو ثُلوجها أو غابُها أو بحارها، وبين من حَظِيَ منها بنصيب وافر ومتنوع وبين من لا يَملك منها إلا حيث يَسعى بقدميه إلى أن يُقْبَر في إحدى جهاتها كيفما ٱتّفق! بل إنّ الاشتراك في الوُجود ضمن أرض/وطن لا يَجعل "ٱلإنسان"، في معظم الأحيان، إلا مُساكِنًا لأُناس على مَضض لشدّةِ أسباب التّنازُع والتّنافُر بينهم وبينه كما هو حال فئات «0لْمُستضعَفِين» (من "0لْمَحرومين" و"0لْمَنبوذين" و"0لْمُهمَّشين" في مُختلِف جهات الأرض) في علاقتهم بأصناف «0لْمُستكبِرين» (من "0لْمُسيطِرين" و"0لْمُستبدِّين" و"0لمُستغِلِّين"). من 0لبيِّن، إذًا، أنّ «ٱلْمُشارَكة في ٱلأرض/ٱلوطن» لا تَستنفد معنى "ٱلْمُواطَنة" كوُجود أخلاقيّ وكونيّ للإنسان يَكفُل له 0لتّمتُّع بكل الحُقوق المُقوِّمة للكرامة والحُريّة وٱلتّحقق، من ثَمّ، بكل الواجبات الْمُحدِّدة للفضيلة والصلاح أخلاقيّا ومدنيّا. إنّها، بالأحرى، مُشارَكةٌ لا تُحقِّق إنسانيّةَ الإنسان - بما هو كائن مُتعالٍ في جوهره ومُتسامٍ بعمله- إلا من النّاحية 0لصُّوريّة/0لشّكليّة. ومن أجل ذلك، فإنّ حَصر "0لْمُواطَنة" كتَأرُّض في إطار «0لوَضْع 0لبشريّ» يَؤُول إلى تَطْبيع الوُجود الإنسانيّ ك«إخلاد إلى 0لأرض» أو «0تِّضاع في حُدود مُمكنات 0لتَّدْهير/0لتَّدْنيَة»، بحيث لا يَعُود "0لتّعالِي" مُمكنًا إلا بما هو «رغبةٌ في 0لتّألُّه»، رغبة تَتّخذ صورةَ "إحداث" بلا قيد ولا شرط، أيْ "إبداع" لا يقوم بما هو فعل إنسانيّ إلا بصفته جُحودًا يُعاش كصراع من أجل «0نتزاع 0لِاعتراف» تَملُّكًا وتَسيُّدًا في مُحيط من الأنداد 0لْمُنافِسين، بل الأعداء ٱلْمُنازِعين. وبِمَا أنّ تصوُّر "0لْمُواطَنة" ك«مُشارَكة في 0لأرض/0لوطن» لا يَملِك إلا أنْ "يُوضِّع" وُجودَ الإنسان وعملَه بالنِّسبة إلى شُروطِ تأرُّضه دُنيويًّا وفي حُدود تحيُّزه 0جتماعيّا وتاريخيًّا، فإنّ «0لأرض/0لوطن» تصير "مِحْور" كل سعي للإنسان الذي يكون عليه، بالتّالي، أن يَتّخذ وطنَه على شاكلة ذلك «0لْوَثن» الذي يُرجَى خيرُه فيَلْزمُ العُكوف على حُبّه (خصوصا أنّ تنشئةَ المرء، على الأقل في العصر الحديث، ما فَتِئت تُتصوَّر وتُنفَّذ ك«تربية وطنيّة» تعمل على إنتاج «0لْمُواطن 0لصّالِح» الذي يُقيَّمُ وُجودُه وفعلُه بقدر ما يُخْلِص في مَحبّة وطنه ويَتفانى في خدمته). وليس يَخفى أنّ «تَوْثينَ 0لوطن» يَستنزل "0لْمُواطَنة" إلى دَرك "0لْمُواثَنة" فيجعل النّاس لا يشتركون في مُستقرّهم على الأرض إلا بما هو «وَثن-أُمّ» يُعبَد بصفته «مصدر 0لأرزاق و0لحُظوظ» و«مُنتهى 0لأحلام و0لآمال» في هذا العالَم. ومن هُنا، فإنّه لا مَناص من إقامة "0لْمُواطنة" كسيرورة ل"0لتَّرْشيد" مُؤسَّسة إنسانيّا وأخلاقيّا ومُؤطَّرة قانونيّا ومُؤسَّسيّا بحيث تعمل على ترسيخ وتفعيل عمل "0لتّعارُف" 0عترافًا مُتبادَلا ومُعامَلةً بالمعروف. ذلك بأنّ سيرورةَ "0لتَّرْشيد" هي التي من شأنها أن تجعل وُجودَ الإنسان وفعلَه يُعاشان في إطار "0لْمُخالَقة" إحسانًا في العمل ومُعامَلةً بِالْحُسنى. فالإنسان لا يُشارك نُظراءَه في سُكنى الأرض مُكابَدةً إلا لأنّ خالقَه أراد 0متحانَ سعيه في هذا العالَم ٱبتلاءً، مِمّا يَقتضي أن تُؤتَى "0لْمُكابَدة" باعتبارها "مُجاهَدةً"، أيْ «مُغالَبةً في بذل 0لْجُهد 0لْعُمرانيّ» على النّحو الذي يُوجب أن يَتحدَّد "0لعملُ" بصفته "مُعامَلةً" (أيْ «مُشارَكة في 0لعمل») مشروطة موضوعيّا وأخلاقيّا في إطار "مَدنيّ" و"كُليّ" يَتّخذ صُورةَ «0لدّولة 0لرّاشدة» ويَشتغل على النّحو الذي يُمكِّن من «0لتَّأْنيس/0لتّأنُّس» تَعالِيًا تشارُكيًّا وتَعارُفيًّا وليس تنزُّلا تَدابُريًّا وتناكُريًّا. إنّ كونَ "0لْمُواطَنة" يُنظَر إليها، في آن واحد، كمبدإ للمشروعيّة السياسيّة وكمصدر للتّرابُط الاجتماعيّ يَجعلُها أوثق صلةً بالْمُمارَسة الأخلاقيّة ليس فقط لأنّ العمل الإنسانيّ يُؤتَى بكيفيّة تسمح بالتَّمْييز فيه بين الحَسن والقبيح أو بين الخير والشر، وإنّما لأنّه عَملٌ قاصدٌ تُحدِّدُه غاياتٌ وعَملٌ مشروطٌ تَحكُمه أسباب ودوافع. ولهذا، فإنّ "0لْمُواطَنة" تَتحدّد - بالأحرى- بما هي «"مُواطَئةٌ/مُوافَقةٌ" في مَكارِم 0لأخلاق»، أيْ مُشارَكة في مجموعة من القيم والمبادئ التي تَكفُل النُّهوض بمُقتضيات "0لحقيقة" و"0لفضيلة". وبالتالي، فلا عجب أنْ تَصير "0لْمُواطَنةُ" عينَ "0لْمُخالَقة" في قيامها على «0لعمل بالأخلاق» وبحُكم الوُجود والفعل في إطار عالَم مُشترَك، أيْ أنّها مُمارَسة يُفترَض فيها أنْ تُؤتَى إحسانًا في العمل ومُعامَلةً بالْحُسنى. وهكذا، فإنّ «0لْمُواطَنة/0لْمُخالَقة» تُمكِّننا من تجاوُز المفهوم النمطيّ ل"0لْمُواطن" الذي نجد أنّ كونه يُحدّد ك«شخص ذي حُقوق وواجبات باعتباره مُشارِكا مُساويًا لأمثاله من سُكّان "0لْمَدينة/0لوطن"» يجعله ذلك «0لْمُنافِس/0لْمُنازِع» في كل ما يُعدّ حقًّا و0متيازًا. ولذا، لا يكاد "0لْمُواطن" يَتجلّى، في الواقع الفعليّ، إلا بصفته "0لآخَر" الذي يَملِك ما لا أملك أو الذي يجب ألّا يَمْلِك ما يَخُصّني على الرغم من أنّ التّصوُّر المجرد يفرض أن يكون كل مُواطن مُساوِيًا لأمثاله في الحُقوق والواجبات. ذلك بأنّ الحياة الاجتماعيّة للنّاس لا تنفكُّ عن التّفاوُت والتّغايُر من حيث إنّ «0لحقّ/0لواجب» ليس تنزيلا آليًّا لمِثال مُجرّد، وإنّما هو تعامُل تدبيريّ وتفاوُضيّ مع واقع مُعقّد ومُستعصٍ يَتجلّى كلانهائيّة من الفُرُوق والنّواقص. ومن ثَمّ، يُمكن الانتقال إلى مفهوم مُنفتح يقوم على أنّ "0لْمُواطن" صيرورةٌ قانونيّة وأخلاقيّة مُلازِمة لسيرورة "0لتَّرْشيد" في 0قتضائها لإقامة "0لْمَعقوليّة" و"0لْمَسؤوليّة" في صُورةِ واقع موضوعيّ ومُؤسَّسيّ يَسمح ب«خوض 0لْمُغالَبة في 0لجُهد 0لعُمرانيّ على نحو أخلاقيّ»، أيْ ك"مُخالَقة". فليس "0لْمُواطن" صُورةً مُثلى وشَكْليّة تجعل "0لإنسانيّة" مِلْكا مُشاعًا بلا قيد ولا شرط، بل هو صُورةٌ حيّة ومُشخّصة في سياقٍ تفاعُليّ وتداوُليّ يَربط "0لتّأنُّس" بالْمُعامَلة مُجاهَدةً ومُخالَقةً. ولأنّ "0لإنسان" في تأرُّضه الضروريّ يَشترك مع الآخرين في "0لوطن" كمُستقرّ له على الأرض، فإنّ مُواطَنته ليست مجرد مُشارَكة في شيء موجود مُسبقًا ونهائيًّا، وإنّما هي "مُبادَلة" لمَكاسب العمل التي تُميِّز الإنسان في فعله المُتأرِّض بما هو عاملٌ مُتوِّطنٌ تخلُّقًا وتأنُّسًا. ف«0لتّأرُّض/0لتّوطُّن» ليس وُقوفا عند حُدود التّحيُّز الأرضيّ وشُرُوط الوضع البشريّ بهذا العالَم في المدى الذي لا يكون الوُجود والفعل البشريّان مُمكنَيْن إلا 0تِّضاعا أو إخلادًا إلى الأرض، وإنّما هو 0نخراطٌ في سيرورةٍ للمُشارَكة العَمليّة تجعل سعيَ الإنسان يُعاش مُكابَدةً ومُعامَلةً بالشكل الذي يَفرض ألّا تقوم "0لْمُواطَنة"، بما هي إمكانٌ إنسانيّ كُليّ، إلا ك«مُواطَئة/مُوافَقة على 0لعمل بمَكارم 0لأخلاق»، أيْ ك"مُخالَقة" تُخاض إنسانيّا وعمليّا على مُقتضى الإحسان في ٱلعمل وٱلْمُعامَلة بالْحُسنى. وهكذا، فإنّ «إنسانَ ٱلْمُخالَقة» كائنٌ قَدماه على الأرض وعيناه مَشدُودتان نحو السّماء لأنّه يحمل في قلبه الإيمان بأنّه لمْ يُخلَقْ ليُبْلِيَ وُجودَه بالإخلاد إلى الأرض في تأرُّضه الضروريّ، وإنّما جُعل في كَبَد لكي يُعانيَ كونَه مُبْتلًى في حياته الدُّنيويّة من أجل حياةٍ أُخْرويّة يَسعَدُ فيها 0لْمُحسنون أبدًا ويَشقى فيها 0لْمُسيئون إلّا ما شاء 0للّه. ولذا، فإنّ تَدْهيرَ أو تَدْنِيَةَ «0لْمُشترَك 0لبَشريّ» كما لو كان مجرد "مُواطَنة" مُحدَّدة حصرا ك«مُشاركة في 0لِانتماء إلى هذا 0لعالَم 0لأرضيّ و0لدُّنيويّ» يَقُود إلى تصوُّر "0لْمُواطَنة" في تعارُضها مع «0لِاشتراك في 0لدِّين» بصفته يَتحدّد كمُجرّد «مُشارَكة في ٱلإيمان بمُعتقدَاتٍ مُعيّنة تترتّب عليها 0لتزامات خاصّة»، أيْ كمجرد «مُوالاة بين ٱلْمُؤمنين في 0نتمائهم 0لْمُشترَك إلى دينٍ أو مذهب مُعيَّن». لكنّ "0لدِّين"، في تجلِّيه الْمُكتمل ك«إسلام/إحسان»، لا يَكتفي فقط بترسيخ "ٱلتّعالِي" في ٱتِّجاه السُمُوّ على كل الْمُحدِّدات القوميّة أو الاجتماعيّة أو الْمَذهبيّة، بل يَقُوم على أنّ الأفضليّة إنّما تكون ب«ٱلعمل ٱلصالِح» الذي هو، بالأساس، «مُعامَلةٌ بالتي هي أحسن» (أيْ، بالتّحديد، "مُخالَقةٌ") ؛ مِمّا يَقتضي أنْ يُنْظَر إلى "0لْمُواطَنة" ليس بحصرها في الواجب الشكليّ ل"0لتّعايُش" و"0لتّساكُن"، بل بصفتها مُشارَكةً فعليّةً في نوع من العمل الأخلاقيّ والمَدنيّ الذي يَتجاوَز بها حُدود "0لتّسامُح" (بما هو «0عتراف مُتبادَل») ويَفتحها على آفاق "0لتّعارُف" في صيرورته «0لعملَ 0عترافًا بالْمُساواة في ٱلكرامة ٱلآدميّة» و«0لْمُعامَلةَ بالْمَعروف و0لْحُسنى»، وهو ما يجعلها «مُعامَلةً/مُخالَقةً» فيما وراء كل النّوازع والأغراض المُحدَّدة أرضيّا والمُحدِّدة دُنيويّا. [email protected]