«على الرغم من تَباعُد المجتمعات في المكان ومن مضامينها الثقافية المُتغايِرة بعمق، فلا يبدو أنَّ أيَّ مجتمع منها - بصفته عيِّنة طارئة- يمتلك تمامًا هُويّةً جوهريّةً: فالمجتمعات تُجزِّئُ الهويّة إلى كثرة من العناصر التي يَطرحُ التأليفُ بينها، بالنسبة إلى كل ثقافة وبصيغ مختلفة، مُشكلةً. وفيما يَخُصّ حضارتنا والحالة الراهنة لمعارفنا في فُروع متنوعة جدًّا: الرياضيات، البيولوجيا، اللسانيات، علم النفس، الفلسفة، إلخ.، فهُنا أيضا لُوحظ أنَّ مُحتوى مفهوم الهويّة قد شُكِّكَ فيه، بل كان في بعض الأحيان موضوع نقد عنيف جدًّا.» (كلود-ليفي ستروس، تقديم كتاب "الهُويّة"، بالفرنسية، ص. 11) «عَلَّمتني حياةٌ [كاملة] في الكتابة أنْ أَحْذَرَ من الكلمات. فتلك التي تبدو أشدّ وُضوحًا تكون في الغالب أشدّ خيانةً. و"الهُويّة" بالضبط إحدى تلك الكلمات الخادعة. إذْ نَظُنّ جميعا أنّنا نعرف ما تَعنيه هذه الكلمة، ونستمر واثقين بها حتى حينما تَأخُذُ، بمَكْرٍ، في قول العكس.» (أمين معلوف، "الهُويّات القاتلة"، بالفرنسية، ص. 17) تُعَدُّ "ٱلْهُويّةُ" إحدى الذّرائع التي يُؤْثِرُ المُبطلُون أنْ يُمارِسوا بها التّضليل، ليس فقط لأنّها فكرة ذات جاذبيّة غير عاديّة (كون الشيء يَستمر واحدًا ومُماثِلا لنفسه رغم كل ما يطرأ عليه من تَغيُّر)، وإنّما لأنّها بالأساس مفهوم حَمّالُ أوجهٍ ("ٱلهُويّة بالعدد"، "ٱلهُويّة بالصفات"، "ٱلهُويّة ٱلشخصيّة"، "ٱلهُويّة الجماعيّة")، بل إنّه أيضا حمّالُ آمالٍ ورغباتٍ وأوهام (التّسليم بالهويّة كوحدة وثبات تعبيرٌ عن الرغبة في "ٱلِاستمرار" و"ٱلبقاء" وطمعٌ في التّميُّز ب"ٱلِاستقلال ٱلذاتيّ" و"حريّة ٱلإرادة"). ومن ثَمّ، نَجِدُ أنَّ لفظ "ٱلْهُويّة" يُشير، في بادئ الرأي، إلى "ٱلذّات" في حُضورها ووحدتها وثَباتها وٱستمرارها وتفرُّدها، حيث إنَّ "ٱلهُويّةَ" (Identity, l'identité) تَتحدَّد، عُمومًا، بأنّها «مجموع ٱلصفات ٱلتي تُقَوِّمُ ذات ٱلشيء أو الشخص بشكلٍ أساسيٍّ»، أيْ أنَّها مجموع ٱلخاصيّات ٱلتي تجعل ٱلشيء أو الشخص "مُمَاثِلًا لنفسه" أو "هو نفسه" (identical, same/identique, soi-même)، بحيث يكون موجودا وقائما بذاته بما هو حقيقة يُمكن تَصوُّرها بالذهن (أيْ "ماهيّة" « essence »)، حقيقة هي أساس وجوده الفعليّ (أيْ "جوهر" « substance »). ولذا، فإنّ ٱلنّظر إلى ٱلإنسان ككائن له "هُويّة" يَجعلُه يَتحدّد بجملةٍ من ٱلخصائص ٱلأساسيّة وٱلجوهريّة ٱلتي تُقوِّمُه ذاتيًّا وتُميِّزُه نَوعيًّا على النّحو الذي يُعطيه قيمةَ "ٱلشخص" كذات أخلاقيّة (عليها واجبات) وقانونيّة (لها حقوق). فما هو هذا "ٱلشيء" الذي يَخُصُّ كُلَّ إنسان ويبقى واحدًا وثابتًا أبدًا رغم تَعدُّد وتَغيُّر أفراد النّوع البشريّ؟ إِنَّ أوَّل ما يَجدُر إدراكُه، بهذا الصدد، أنَّ "ٱلْهُوِيَّة" ٱسمٌ مُولَّد، في "ٱلعربيّة"، من ٱلنَّسَب إلى ضمير الغائب "هُوَ". وإنْ تَعْجَبْ، فعَجَبٌ من أنَّ لفظ "ٱلهُويّة" هذا، حتّى مع دلالته الصريحة على "ٱلغياب/ٱلغَيْبة"، يُرادُ له أنْ يَدُلَّ على حضور "ٱلذّات" بما هي "أنًا"! ومن حيث إنَّ "هُو" ليس "أنَا"، فإنَّ كونَ "ٱلهُويّة" تُشير إلى "ٱلغياب/ٱلغَيْبة" يَجعلُها لا تدل على "ٱلحُضور" و"ٱلوحدة" و"ٱلِاستمرار" - كمُقوِّمات للذّات بصفتها ذلك "ٱلأنا" الواعي والمُدرِك لنفسه والفاعل، من ثَمّ، بإرادةٍ وحريّة- إلا على نحو إشكاليّ. ولَعَلّ هذا ما عبَّر عنه "محيي الدين ٱبن عربي" بقوله: «[...]، فنفسي مَظْهَرُ الغيب.» أو «إنك لست أنت أنت، بل أنت هو بلا أنت.» أو ما نجده، أيضا، عند "فتغنشتاين" القائل «الأنا، الأنا، هُو ذا الغيبُ العميق!». تُرى، ماذا يتبقّى للذّات من مُقوِّمات "ٱلأنا" إذا كان كُلُّ (أو أهمُّ) شيء فيها يَدُلُّ على نوع من "ٱلغياب/ٱلغَيْب" الذي يَلُفُّ وجودَها ويَسبِقُ فعلَها؟! وأكثر من ذلك، فإذا كانت "ٱلهُويّةُ" تَدُلُّ - بالأساس- على "ٱلوحدة" (ضد "ٱلكثرة" و"ٱلتّعدُّد")، فإنَّ شُيوعَ ٱستعمال صفة ["هُويّاتيٌّ/هُويّاتيّةٌ"] (كنَسَبٍ إلى لفظ "هُويّات" الذي هو جمعٌ للفظ "هُويّة" المفرد) في نعت موصوفٍ يُراد له أنْ يكون ذا "هُويّة" واحدةٍ ودائمةٍ ليَفضحُ مَكْنُون هذا الإشكال على النّحو الذي يَظهر به أنّ الأمر يَتعلَّق بنُزُوعٍ نَقيضيٍّ يَحسُن أنْ يُسمّى "عَرَضًا هُوِيّانيًّا" (« syndrome identitaire »)، كنُزوعٍ يُضطرُّ - لشدة هُيامه ب"ٱلوحدة ٱلجوهريّة"- إلى ٱلِانقلاب إلى "نُزوعٍ هَوَيَانِيٍّ" (« tendance passionelle ») تَلعبُ فيه "ٱلأهواء" لعبًا فتجعلُه يقوم على نوع من "ٱلوَهْم ٱلعَرَضيِّ للوحدة" و، من ثَمّ، على تَوهُّم كفايته لتَجاوُز واقعِ "ٱلتعدُّد" و"ٱلتّغيُّر". ولأنّ "ٱلنُّزوعَ ٱلهُوِيّانيّ" يَنقلبُ، هكذا، إلى مجرد "نُزوعٍ هَوَيَانِيٍّ"، فإنّ ٱستعمالَ صفة ["هُوياتيٌّ/هُويّاتيّةٌ"] (كما في قولهم "صراع هُويّاتيٌّ" أو "مُشكلة هُويّاتيّةٌ") لا يُعبِّر فقط عن عدم الوعي بإشكال "ٱلهُويّة"، وإنّما يَكشف أيضًا عن أنّ حقيقةَ ما يُطلَبُ من "وحدةٍ" و"مُماثَلةٍ" في مفهوم "ٱلهُويّة" غير مُمكن، على المستوى البشريّ، إلا في ٱرتباطه ب"ٱلتّعدُّد" و"ٱلتّغير/ٱلمُغايَرة"! ومن حيث إنَّ لفظ "ٱلهُويّة" يُقابِل اللّفظ الأجنبيّ « identity/identité » في دلالته الأصليّة على "ٱلذات في مُماثَلتها لنفسها" أو، ٱختصارًا، على "ٱلمُماثَلة/ٱلمِثْليّة ٱلذاتيّة" (« samness/mêmeté »)، فقد يبدو لبعض "سِرَاع ٱلفِكْر" أنَّ اللّفظَ العربيّ "هُويّة" لا يُؤديّ حرفيًّا معنى اللفظ الأجنبيّ. لكنَّ اللفظَ اللاتينيّ "إديم" (« idem »)، بما هو ضميرٌ وصفةٌ في أصل المصطلح الأجنبيّ، يَتَّسم بالحياد في الدّلالة على "ما هو نفسه" (« le même ») ؛ فهو أيضا غير مُختص بالدّلالة على "ٱلأنا" وحده، بل إنّه هو الأصل في ٱلِانزلاق نحو "ضمير الغائب" كما يَنطوي في عبارة "هُو نفسه" (« oneself/soi-même »)، ضمير "ٱلغائب/ٱلحاضر" كما يتجلّى في "ٱلذّات" التي تَتحدَّد في هُويّتها بإدراكها (الدائم) لنفسها ك"أنا" (« the self/le moi »). وعلى الرغم من أنّ موضوع "ٱلهُويّة" قد يبدو -من خلال دورانه ووُرُوده في أكثر من سياق بالواقع المعاصر- أشدّ راهنيّةً، فإنَّ المُؤكد أنّه أوثق صلة بالفكر القديم والتقليديّ الذي يُمكنُ وصفُه، عُمومًا، بأنّه كان قائمًا على مفهوم "ٱلهُويّة" ك"مُماثَلة جوهريّة" ؛ في حين أنَّ الفكر المعاصر قد صار، على الأقل منذ "هيُّوم" و"هيگل"، يَتحدَّدُ بصفته فكرا يَقُوم على مفهوم "ٱلمُبايَنة/ٱلمُغايَرة" إلى حدِّ أنّ بعض المفكرين والفلاسفة ("هيدگر"، "ليڤيناس"، "دريدا"، "ريكُور") جعلوه الأصل في إمكان إدراك حقيقة "ٱلوُجود ٱلذاتيّ" و، من ثَمّ، لم يَعُدْ مفهوم "ٱلهُويّةُ" مفهومًا مركزيًّا، بل إنّه لِشِدَّةِ تَداخُله وتَلازُمه مع نقيضه ("ٱلمُبايَنة/ٱلمُغايَرة") لم يَتردَّدْ بعضُ الفلاسفة في وصفه بأنّه مفهوم زائفٌ يُعبِّر عن أحد الأوهام الكُبرى المُلازِمة للفكر البشريّ ("هيُّوم"، "نيتشه"، "دريدا") أو أنّه لا يعدو أنْ يَكُون مجرد "خُرافة فلسفيّة" (يُنظَر، مثلا، كتاب «الهُويّة: خُرافة فلسفيّة» بالفرنسية ل"علي بنمخلوف"، 2011). وفيما وراء ذلك، يُمكننا أنْ نُقاربَ "ٱلهُويّة" على ثلاثة مستويات أساسيّة: المستوى المنطقيّ والأنطولوجيّ، ثُمّ المستوى الماديّ والبيولوجيّ، فالمستوى الأنثروبولوجيّ والسوسيولوجيّ. ذلك بأنّ كونَ الأمر يَتعلَّق بتحديد حقيقة "ٱلوُجود" في وحدته وٱستمراره يقتضي تمييز الإدراك المُجرّد والعامّ (الصُّورة الذهنيّة) والإدراك العينيّ الخاص (الصورة المُتشخِّصة) والإدراك العينيّ المُشترك (الصورة المَعيشة). وهكذا، نجد أنَّ "ٱلهُويّة" تَدُلُّ - من الناحية المنطقيّة- على "ٱلمُساواة" أو "ٱلتّكافُؤ" من حيث إنّ كل شيء، في حاله الوجوديّ المطلق، يُعدُّ "مُساويًا" أو "مُكافئًا" لنفسه ("أ" هي نفسها "أ")، وبالتالي ف«لا وُجود بلا هويّة» كما يُؤكِّد "كْواين". أما على المستوى الماديّ والبيولوجيّ، فنجد أن إشكال "ٱلهويّة" يُطرَحُ من حيث كون الإنسان لا يُوجد إلا بصفته بشرًا ذا "بدن" أو "جسم"، أيْ بما هو هذا "ٱلجسد" كنسيج عضويٍّ مُحدَّد - في وُجوده وٱستمراره- من الناحية الوراثيّة على النّحو الذي يَجعلُه واحدًا وهو نفسُه على ٱمتداد حياة الفرد بحيث يَحمِلُ "بصماتٍ" أو "قَسماتٍ" تُميِّزه عن غيره في إطار التّنوُّع "ٱلعرقيّ" و"ٱلجنسيّ" و"ٱلشخصيّ" القائم بين النّاس على مستوى الكرة الأرضيّة. وأما على المستوى السوسيولوجيّ والأنثروبولوجيّ، فإنّ إشكال "ٱلهُويّة" يَتعلَّق بالقدرة على "ٱلتّعرُّف على ٱلذات" في ٱستمرارها وتَفرُّدها في خِضَمّ "ٱلتّعدُّد" ٱلبشريّ و"ٱلتغيّر" ٱلجسديّ وٱلنّفسيّ وٱلسُّلوكيّ، وهو "ٱلتّعرُّف/ٱلتّفرُّد" الذي يستند إلى ٱشتغال آليات التّنشئة ٱلِاجتماعيّة والنّظام الرمزي داخل المجتمع بالشكل الذي يُيسِّر "ٱلتّمييز/ٱلتّميُّز" ويُحدِّد، من ثَمّ، نوابض "ٱلِانتماء" كما تَتجلّى في "ٱللُّغة" و"ٱلثّقافة" و"ٱلدين"، وهي النّوابض التي تشتغل كأدوات لتحريك وإدامة سيرورة "ٱلتّعيين/ٱلتّعيُّن" تَماثُلًا وتَمايُزًا وتَعارُفًا. ولا يخفى أنّ ما هو أُنطولوجيّ وبيولوجيّ لا يَتَّخذُ معناه بشريًّا إلا بالنِّسبة إلى ما هو سوسيولوجيّ، من حيث إنَّ الوجود الطبيعيّ للإنسان ككائن حيٍّ (البنيات النفسيّة/الذهنيّة) يَتشكَّل ويَتعيَّنُ بالضرورة في إطار مجتمع مُحدَّد ومشروط ثقافيًّا وتاريخيًّا (البنيات الاجتماعيّة). ومن أجل ذلك، إذا كان من المُمتنِع أنْ يُحدَّد الإنسانُ -بما هو فرد- كما لو كان يَملِك كيانًا نفسيًّا وجسديًّا قائمًا في مجموعه على "ٱلوحدة" و"ٱلثبات" و"ٱلتّناغُم" و"ٱلحُضور"، فإنَّ "ٱلهُويّةَ" في دلالتها على الوجود في تَحقُّقه وٱستمراره لا تَرجعُ مُطلقًا إلى ٱلإنسان/ٱلفرد، لأنّها وُجودٌ يبدأ خارج قُدرته وإرادته وينتهي من دونهما ؛ بل إنَّ إدراك وتَمثُّل هذا "ٱلتّعيُّن ٱلوجوديّ ٱلخاص بكل فرد" لا يَعُود شيئًا آخر غير أثَرٍ من آثار "ٱلِانتماء"، أثر مُحدَّد طبيعيًّا وتاريخيًّا وٱجتماعيًّا على النّحو الذي لا يُعطيه معنى إلا ك"إطارٍ نِسبيٍّ" لوُجود وفعل الإنسان في هذا العالَم، وهو "إطار نسبيّ" في ٱرتباطه بكل شُروط الوضع البشريّ في تَعدُّدها وتغيُّرها. ومن هنا، فإن "ٱلهُويّة" المقصودة (والمطلوبة) ليست سوى "ٱنتماء" مُتعدِّد ومُتغيِّر أو هي، بالأحرى كما يُؤكِّد "ميشيل سِّير"، «مجموع ٱلِانتماءات» التي يَدخُل (أو يُدخَل) فيها كل ٱمرئ على ٱمتداد حياته وإلى حين مماته، من حيث إنّه لا يَكُفّ في وجوده وفعله عن ٱلِانتماء إلى هذه المجموعة أو تلك من المجموعات التي يجد نفسه يشترك مع أفرادها في هذه الصفة أو تلك وبهذا القدر أو ذاك. ولذا، فكل حديث حصريّ عن ٱنتماءٍ مُعيّن باعتباره "هُويّة" هذا الإنسان أو ذاك يُعدُّ تمييزا عنصريًّا، بل إجراما في حق "ٱلإنسان" ككائن «مُتأنِّس باستمرار» وليس ككائن «مُتكلِّس باضطرار» في "هُويّة" حاصرة وقاصرة. إنّ الثّابتَ الجوهريَّ الوحيد الذي يُحدِّد هويّة كل منا إنّما هو "ٱلِانتماء" إلى النّوع البشريّ، ك"ٱنتماء" يَتحدَّدُ واقعيًّا في صورة صيرورة مُستمرة ومفتوحة لتأنُّس البشر في سعيهم إلى التَميُّز عن الأنواع الأخرى. وكل ما سوى هذا الثّابت الآدميّ الكليّ يُعدُّ من "ٱلأعراض" الطارئة والمُتغيِّرة باستمرار. فلا لونُ ٱلبَشَرة، ولا نُطق ٱللِّسان ولا سَمْتُ السلوك بثابتٍ بشريٍّ، إذْ لا شيء من هذا ثابت بحيث يَصلُح أن يكون مُحدِّدًا جوهريًّا لهُويّة هذا الإنسان أو ذاك، وإنّما تلك "علامات ٱعتباطيّة" تُفرَض تاريخيًّا وٱجتماعيًّا على كل النّاس ولا يَصِحّ ٱعتبارُها ثوابت طبيعيّة لازمة لتحديد ٱلِانتماء إلى "ٱلبشريّة". فمن التّضليل المفضوح، إذًا، إرادةُ تحديد "ٱلهُويّة" على أساس "ٱلِانتماء" الذي يبقى مُتغيِّرا ومُتعدِّدا بقدر تَغيُّر وتَعدُّد الشروط المُحدِّدة لوجود وفعل الإنسان في هذا العالَم. وعليه، فخارج تلك العلامات الدّالّة ٱتِّفاقًا وظرفيًّا على ذلك ٱلِانتماء ٱلمُتعدِّد وٱلمُتغيِّر لا معنى للهُويّة إلا بصفتها تمييزًا عنصريًّا مُتنكِّرًا. فلستُ "أنا" من يُحدِّد ما أكون عليه، بالأساس، في جسدي ولساني وسلوكي، وإنّما "هُو" الذي يفرض عليّ أنْ أكون بنحو مُعيَّنٍ في كل ما يَخُصُّنِي. وهذا "ٱلهُو" يُشير إلى كل من "ٱلطبيعة" و"ٱلمجتمع" و"ٱلتاريخ" و"ٱلثقافة" باعتبارها مُحدِّدات كُبرى تتجاوزُنِي و، خصوصا، باعتبارها تَدُلّ على نوع من "ٱلضرورة" التي تتجاوز وعيي وإرادتي، بحيث لا سبيل إلى قيام "أنايَ" الواعي والحُرّ إلا في المدى الذي يُمكن تأسيس "ٱلفعل ٱلبشريّ" على معرفة حقيقيّة بتلك "ٱلضرورة". وفقط في هذا المدى يُمكن أنْ تَكتسبَ "ٱلهُويّةُ" دلالتها بما هي، بالضبط، ما يَسكُننا قَسرًا فيجب علينا، من ثَمّ، أنْ نَسعى جماعيًّا وعمليًّا إلى ٱلِانفكاك عنه لكي نَستعيد أنفسنا ونتملّك ذواتنا كقُدرة على "ٱلفعل ٱلحر"، بعيدًا عن كل (أو، أحسن، أهمّ) الإكراهات التي لا يَعمَلُ أصحاب "ٱلنُّزوع ٱلهُويّانيّ" في ٱلواقع إلا على تسويغها وتشريعها «باسم حفظ ٱلخُصوصيّة أو ٱلأصالة» من دون أنْ يَرْقَوْا إلى مستوى مُساءَلةِ أنماطهم الخاصة في تسويغ وتشريع "هُويّة" لا تَتميّز بشيء أكثر من كونها مفروضةً خارج كل وعي وإرادة، أيْ أنّها بالتحديد "هُويّة" ليست جديرةً باسمها ك"هُويّة" إلا لأنّها لا تترك لأحدٍ الحريّة في أنْ يكون نفسه وليس غيره! وهكذا فإنّ "ٱلهُويّة"، سواء أكانت قوميّةً أم ثقافيّةً أم دينيّةً، تبقى مُتعدِّدةً بحيث لا يمكن أنْ يُحدَّدَ شخصٌ - وبَلْهَ مجموعة من الأشخاص- بالنّسبة إلى خاصيّةٍ ما أو مجموعة من الخاصيّات (عرقيّة و/أو لغويّة و/أو ثقافيّة و/أو دينيّة) كما لو كان يَملِكُها كاملةً ودائمًا بضرورة طبيعيّة (وحتّى لو كان يملكها على هذا النّحو لما كان لها معنى إلا بصفتها ما ليس لنا أيّ خيار تجاهه!). ومن هنا، فإنَّ تحديدَ "هُويّةٍ" ما لا يُمكن أنْ يَتِمّ إلا في إطارٍ مُتعدِّدٍ ومُتغيِّرٍ باعتبارها مجموعةً من الصفات التي تَترتَّبُ وتَتراتَبُ في نفسِ وذهنِ كل إنسان بالصورة التي يَراها جديرةً به ضمن الحق في ٱلِاختلاف وٱلتّغايُر الذي يجب أنْ تَكفُلَه "ٱلدولةُ" موضوعيًّا وعُموميًّا، ٱختلاف وتَغايُر في إطار "ٱلِانتماء" إلى بلدٍ واحدٍ حيث يَحِقُّ لكل مُواطنٍ أنْ يَعيش مَصُونَ الكرامة ومَحفُوظ الحقوق. إذًا، وبخلاف ما يَتوهّم المُبطلون، فلا "هُويّة" فِعليّة إلا "ٱلمُواطنة ٱلكاملة" التي تجعل كل آدميٍّ يُعطي معنًى لوُجوده وفعله ضمن "ٱلمجتمع ٱلمدنيّ" كمُجتمع من ٱلمُواطنين الأحرار والمُتساوين. ومن ثَمّ، فإنَّ ٱشتغالَ "ٱلدولة ٱلراشدة" - كإطار مدنيٍّ ودمقراطيٍّ لتدبير ٱلتعدُّد وٱلِاختلاف- هو وحده الذي من شأنه تعطيل كل ٱلنُّزوعات "ٱلهُوِيّانيّة"، سواء أُريدَ لها أنْ تكون دينيّةً أو عرقيّةً أو لُغويّةً أو ثقافيّةً، وهو ٱلتّعطيل الذي يُفترَض فيه أنْ يَحُدَّ من فئات ٱلمُضلِّلين وٱلِانتهازيِّين الذين يُتاجِرُون بشعار "ٱلهُويّة" الممدودة في هذا ٱلِاتجاه أو ذاك. ذلك بأنَّ قيام/إقامة "ٱلدولة ٱلراشدة" يجب أنْ يُوفِّر لكل مواطن من الإمكانات والقُدرات ما يَسمح له بأنْ يَصنع نفسَه كمُواطن حُرٍّ ومسؤول حتّى لو ٱقتضى الأمرُ ألا يَصير كذلك إلا بأنْ يَنْفكّ عمّا يَفرضه العُرفُ السائد بصفته "هُويّة/أصالة" لا معنى لوجوده وفعله من دونها، بحيث يُصبح من حقه هو وحده أن ينتمي إلى ما يَجدُر به الانتماء إليه ولو بدا لغيره أنَّ هذا الانتماء غير مُعلَّل وغير مشروع، لأنّه لا ٱنتماء يَفرِضُ نفسَه على كل النّاس بنفس الكيفية إلا الحق في تعديد وتغيير ٱلِانتماء. ولعل أهمّ ما يُؤُكِّد التّواطُؤ التضليليّ لفئات أصحاب النُّزوعات "ٱلهُويّانيّة"، بصفتهم نُشطاء هَوَيَانيِّين وٱنطوائيِّين، كونُهم يَأْبون أنْ ينظروا إلى "ٱلهُويّة" إلا ك"بُوتَقة" تَصهرُ وتَستوعبُ مجموعةً من النّاس كأنّه لا حق لأحد في أنْ يكون مُختلفًا باعتبار الفُروق الثابتة والدائمة بين النّاس في كل شيء. ولأنَّ الهُويّانيِّين لا يَملكون إلا أن يَكُونوا "هَوَيانيِّين" في حرصهم الهوسيّ على إلزام النّاس بالِاستواء والتّماثُل مع ما كانه غيرُهم، فإنّهم يَبْدُون أشد النّاس وُقوعًا تحت وطأة تلك "ٱلهُويّة" التي لا تَتميَّز بأنّها "لاإنسانيّة" و"لاعقلانيّة" إلا لأنّها تَميلُ إلى أنْ تَنتزعَ من المرء حقَّه في أنْ يكون نفسَه وليس غيرَهُ، وهو الحق الذي لا إمكان لقيامه موضوعيًّا إلا ضمن "مجتمع مدنيّ" يشتغل قانونيًّا ومُؤسَّسيًّا كنسق من الآليّات التي تُيسِّر وتُقوِّي "ٱلتّعاقُد" و"ٱلتّعارُف" بصفتهما الرهان الأساسيّ للوجود والفعل البشريين في هذا العالَم. [email protected]