الهوية المغربية ومسألة التعدد اللغوي: الجزء الأول ” فلغة القرآن شيء، والإسلام شيء آخر، إذا ليس من شروط الدخول في الإسلام المغرفة باللغة العربية .. ” محمد عابد الجابري
مدخل تمهيدي: في البداية لابد من التأكيد على أن الدافع الأساسي في إعداد وتقديم هذه المقالة هو ما تعيشه اليوم – وربما أكثر من أية وقت مضى – اللغة والهوية الأمازيغيتين من التزييف والتضييق الفكري والسياسي من جهة، والتشويه الإعلامي من جهة أخرى، سواء من طرف بعض الهيئات والمنظمات المدنية والسياسية أو من طرف بعض المثقفين والكتاب المغاربة الذين يسعون بكل الوسائل الممكنة والمتاحة لديهم إلى طمس وتشويه الحقائق التاريخية والحضارية واللغوية للأمة المغربية الأمازيغية. وهي الحقائق الموضوعية التي تؤكدها مختلف الدراسات الإنسانية الحديثة؛ نقصد هنا الدراسات المتعلقة بجذور الإنسان الأمازيغي وحضارته ولغته وتاريخيه العريق، سواء تلك الدراسات التي أنجزت في مجال الثقافة والبحث الأثري أو في مجال البحث اللغوي أيضا (= اللسانيات). ولابد من التذكير أيضا بأن هذا الأسلوب؛ أي أسلوب التشويه والتزييف، كثيرا ما كان، ومازال، يستعمل من طرف خصوم الحركة الأمازيغية مند بزوغها أواخر الستينيات من القرن الماضي إلى الآن. من المعلوم والواضح جدا أن تنامي وتيرة الاهتمام بالقضية الأمازيغية اليوم على جميع المستويات: سياسيا وإعلاميا واجتماعيا وفكريا..، وبالتالي تزايد الحديث حول موقع الهوية الأمازيغية في الإصلاحات الدستورية المرتقبة عموما، وحول مكانة اللغة الأمازيغية خصوصا، كان نتيجة حتمية لتوفر ثلاثة عوامل أساسية وجوهرية في اعتقادنا، أولهما يتعلق بالحضور القوى والوازن لأنصار الحركة الأمازيغية ضمن حركة عشرين فبراير، وثانيهما يتعلق بالتحول الجذري في مواقف القوى الديمقراطية المغربية تجاه القضية الأمازيغية، وخاصة القوى الديمقراطية اليسارية، بحيث يمكن لنا الإشارة في هذا الصدد إلى موقف كل من الجمعية المغربية لحقوق الإنسان وحركة النهج الديمقراطي واليسار الاشتراكي الموحد والتقدم والاشتراكية وغيرها، وثالثهما يتعلق بالخطاب الملكي الأخير، الذي أكد من خلاله الملك على ضرورة التنصيص الدستوري على تعدد روافد الهوية المغربية وفي صلبها الأمازيغية؛ نقصد هنا خطاب 9 مارس 2011، الذي يعتبر محطة مفصلية في تاريخ المغرب المعاصر بوجه عام، وحول مستقبل اللغة والهوية الأمازيغيتين بوجه خاص. عموما، يعتبر سؤال الهوية من أبرز الأسئلة إلحاحا في المشهد المغربي الراهن، وهو سؤال مطروح على عدة مستويات، وينشغل به أهل الفكر والعلم، كما ينشغل به أيضا أهل السياسية والعمل المدني. وتجدر الإشارة بهذه المناسبة إلى أن سؤال الهوية عادة ما يطرح في أوقات وظروف الأزمة، أو حينما تكون الهوية ممزقة حسب تعبير المفكر المغربي عبد الكبير الخطيبي في كتابه ” المغرب العربي وقضايا الحداثة”، الذي يعتبر من المفكرين المغاربة الأوائل الذين اثأروا مسألة الاختلاف والتعدد الثقافي واللغوي في بلادنا. هذا من جهة، ومن جهة أخرى نشير أيضا إلى أن الحديث عن إشكالية الهوية الوطنية في الوقت الراهن بالذات يتم على المستوى اللغوي أكثر مما يتم على أي مستوى آخر، لكن ليس لكون أن اللغة هي أداة للتعبير والتواصل فقط، بقدر ما هي ثقافة وفكر أيضا، وبالتالي فإنها تعبر عن الوجدان الطبيعي للإنسان، بحيث من خلالها ينظر(= يفكر) الإنسان إلى محيطه وبيئته، وبالتالي فمن خلالها يحدد المرء نظرته تجاه الوجود وتجاه العالم، بصيغة أدق هناك علاقة جدلية بين اللغة والفكر، فاللغة تعتبر وعاء الفكر، والفكر يعتبر مضمون اللغة.(1) وقبل مواصلة سرد تفاصيل هذه المقالة التوضيحية التي نروم من خلالها – بكل تواضع – الإسهام قدر الإمكان في النقاش السياسي والاجتماعي الجاري حاليا في بلادنا حول مسألة الهوية الأمازيغية، وحول مكانة اللغة الأمازيغية في الدستور القادم تحديدا ، نود التأكيد أولا وقبل كل شيء على اننا لا ننوي مطلقا إعادة تحديد مفهوم الهوية، فمسألة تحديد مفهوم الهوية بشكل دقيق ونهائي تعتبر في تقديرنا الخاص من الأمور الصعبة، خاصة أن مفهوم الهوية يتخذ دلالات فلسفية عميقة وجوهرية يصعب علينا أن نحدد لها مفهوم قاطع ودقيق. والتصدي مجددا لهذا المفهوم في أيامنا الراهنة يحتاج إلى أبحاث ودراسات مركزة ومعمقة أكثر مما املك شخصيا من الكفاءة، خاصة أن هذه الكلمة؛ أي كلمة الهوية، تعتبر من المصطلحات والمفاهيم التي يلفها الكثير من الغموض والالتباس، مثلها مثل مفهوم الديمقراطية والعلمانية والحداثة وغيرها من المفاهيم الشائعة التداول في حياتنا السياسية والثقافية. انطلاقا من هذه الخلفية يكون هدفنا الأساسي من صياغة هذه المقالة هو المساهمة قدر المستطاع في وضع دستور ديمقراطي وحداثي لا غير. دستور يمثل جميع الأطراف والشرائح الموجودة داخل المجتمع المغربي الأمازيغي دون تميز بسبب الدين أو اللغة أو العرق أو اللون. ومن جانب آخر سنحاول أيضا توضيح بعض المغالطات التاريخية والمزايدات السياسية التي يشيعها بعض المثقفين والكتاب المغاربة “الجدد” تجاه مسألة التعدد اللغوي في بلادنا، حيث يتم ذلك أحيانا عن غير قصد، وأحيانا أخرى يتم عن قصد وسوء النية. ونحص بالذكر المغالطات التي يروجها كل من الدكتور فؤاد بوعلي والأستاذ رشيد الإدريسي وموسى الشامي ومحمد نافع العشيرى وغيرهم من الكتاب والمثقفين المغاربة، لكن مع شيء من التركيز على كتابات ومواقف الدكتور فؤاد بوعلي من الأمازيغية. على أية حال، ففي خضم النقاش الجاري حاليا حول موضوع دسترة اللغة الأمازيغية، تتناسل الأسئلة والاقتراحات المتباينة، أسئلة يفرض تناولها بشكل مسئول وجدي حتى يتسن لنا معرفة مكامن الخلل في الموضوع، وأول الأسئلة التي تطرح نفسها علينا بشدة، هي الأسئلة التالية: لماذا يطالب الأمازيغ بترسيم اللغة الأمازيغية كلغة رسمية في الدستور المقبل؟ وهل يشكل هذا المطلب خطرا ما على الوحدة الوطنية والسلم الاجتماعي كما يقول الدكتور بوعلي؟ وما هو الفرق بين اللغة الوطنية واللغة الرسمية؟ وهل اللغة الأمازيغية هي لغة قائمة بذاتها أم إنها مجرد لهجات لم ترتقي إلى مستوى اللغة المعيارية؟ وهل ترسيم اللغة الأمازيغية ستكون على حساب اللغة العربية ؟ وكيف سيرد الأمازيغ في حالة إذا ما لم يتم ترسيم اللغة الأمازيغية ؟. هذا، وسنتعرض أيضا بمعيار العقل والمنطق إلى قضية العلاقة بين اللغة والدين ( الجزء الثاني)، وفي هذا المضمار تطرح علينا أيضا العديد من الأسئلة الشائكة والمستفزة، نذكر منها على سبيل المثال فقط: هل أنزل القرآن باللغة العربية أم كتب بها فقط؟ وهل اللغة العربية هي لغة مقدسة؟ ولماذا يتشبث بعض المغاربة بقدسية اللغة العربية رغم عدم وجود أية آية قرآنية تؤكد ذلك ؟ وهل من المنطقي اعتبار كل من ينادي بترسيم اللغة الأمازيغية “عدوا” للغة العربية ؟ وما هو موقف الحركة الأمازيغية من اللغة العربية؟ وهل الصراع المدني الذي تخوضوا الحركة الأمازيغية مند عقود هو صراع ضد العرب والعربية أم أنه صراع ضد الاستبداد والعنصرية التي تنهجها الدولة المغربية؟. هذه هي بعض الأسئلة التي تطرح نفسها علينا بإلحاح كلما حاولنا تناول مسألة اللغة الأمازيغية وضرورة دسترتها كلغة رسمية إلى جانب العربية، وذلك باعتبارها أولا لغة أغلبية الشعب المغربي الأمازيغي، وثانيا باعتبارها لغة قائمة بذاتها تتوفر على جميع شروط ومقومات اللغة (انظر في هذا الصدد كتاب محمد شفيق”اللغة الأمازيغية: بنيتها اللسانية”)، وهي أسئلة سنحاول الإجابة عنها في المحاور القادمة من هذه المقالة.
التعديل الدستوري ومسألة التعدد اللغوي:
تقودنا معاينة الواقع اللغوي في بلادنا إلى التسليم بأن التعدد اللغوي واقع قائم لا مفر منه(2)، وبالتالي فلا مناص لنا من التعامل مع هذا الواقع بالعقل والحكمة حتى يتسن لنا إنتاج سياسة لغوية وطنية وديمقراطية. ومن ناحية أخرى يمكن لنا بذلك تحقيق المصالحة الوطنية التي ينشدها الجميع، فلا مصالحة دون الاعتراف الرسمي باللغة الأمازيغية كلغة رسمية في الدستور المقبل. فإذا كنا نحن الأمازيغ لا نعترض على دسترة اللغة العربية كلغة رسمية في الدستور المقبل أو في الدستور الحالي (والدساتير السابقة كذلك)، ولا نشعر بأية عقدة تجاه الموضوع، بل ولا نعترض أيضا على استعمالها أحيانا، سواء في عملية الكتابة أو التواصل بها أيضا، فلماذا يرفض بعض العرب المغاربة دسترة اللغة الأمازيغية كلغة رسمية في الدستور المقبل؟. إن الحديث عن اللغة الأمازيغية يعني من جملة ما يعني، الحديث عن واقع لغوي قائم بذاته، فالأمازيغية ليست لغة مستوردة من الخارج، كما أنها ليست مرتبطة بمنطقة جغرافية محددة ومعينة دون غيرها من المناطق. فالأمازيغية بالنسبة للسواد الأعظم من المغاربة هي حقيقة قائمة بذاتها يتواصل بها يوميا الملايين من المغاربة في الداخل والخارج (المهاجرين المغاربة بالخارج)، وهي سائدة على كامل التراب الوطني دون استثناء، وبالتالي فإنها حاضرة بقوة في البوادي والقرى المغربية كما أنها حاضرة أيضا في مختلف المدن، وبالتالي فإنها لغة وطنية بامتياز. فعلى سبيل المثال فقط مازالت تستعمل بشكل عفوي ومكثف في اللقاءات والمناسبات التي تجمع الأمازيغ فيما بينهم، سواء القاطنين منهم في البوادي والقرى النائية أو القاطنين في المدن الكبرى كالرباط، والدارالبيضاء، وفاس، ومراكش، وباريس، ومدريد، وأمستردام.. أو في غيرها من المدن التي يتواجد بها الأمازيغ، وغالب ما يتم هذا على مستوي العلاقات الخاصة والعلاقات العائلية بوجه خاص جدا، كما يتم ذلك أيضا على مستوى العلاقات التجارية التي يجريها الأمازيغ فيما بينهم. ومن المؤكد أن هذه الحقائق الموضوعية الواقعية تنفى بشكل قاطع مزاعم بعض المثقفين والكتاب الذين يحاولون ربط الأمازيغية بجهات معينة وأماكن محددة، والهدف الأساسي من هذا التحليل الإقصائي هو محاولة إثبات وجود لغات أمازيغية متعددة، وهذا التحليل يقودنا حتما إلى الاعتقاد بعدم وجود لغة أمازيغية موحدة، وبالتالي فان اللغة الأمازيغية في نظر هؤلاء المثقفين والكتاب لا تشكل القاسم اللغوي المشترك بين كافة الأمازيغ بالمغرب، وهذا الواقع الافتراضي يجعلهم (=المثقفين والكتاب) يتساءلون بسذاجة: ما هي الأمازيغية التي يجب دسترتها في الدستور المقبل؟. طيبا، إذا افترضنا (مجرد افتراض) مثلا وجود لغات أمازيغية متعددة وليس لغة أمازيغية واحدة كما يقول هؤلاء الأشخاص، فهل يمكن أصلا الحديث عن وجود التعدد الغوي الأمازيغي دون أن نتصور وجود لغة أمازيغية موحدة بين كافة الأمازيغ خلال الفترات السابقة من تاريخ الأمازيغ، ومنها تفرعت هذه ” الأمازيغيات” ، تماما كما هو حاصل مع اللغات الأوربية على سبيل المثال؟. على أية حال، هذا النوع من النقاش، الرديء والسخيف، يودي بنا إلى إتلاف وضياع حقائق موضوعية حول اللغة الأمازيغية أولا، وحول خطاب الحركة الأمازيغية ثانيا، الذي هو بالمناسبة خطاب ديمقراطي وحداثي بامتياز. تعتمد أغلبية النخبة المغربية، ومن ضمنها الدكتور فؤاد بوعلي، التي تتبنى مثل هذه المواقف الاقصائية في كتاباتها وحواراتها الصحفية حول القضية الأمازيغية عموما، وحول اللغة الأمازيغية خصوصا، نظرية التقسيم “والمؤامرة” من أجل تشويه النضال الأمازيغي الديمقراطي المشروع، وذلك في أفق تخويف المواطنين بخطورة الخطاب الأمازيغي الذي يهدف حسب تصورها إلى مناهضة الإسلام(العرب) واللغة العربية من جهة، والسعي إلى تقسيم الوطن من جهة ثانية. فهكذا تحاول هذه الفئة من النخبة المغربية، وبكل الوسائل التضليلية الممكنة والمتاحة لديها، جعل الحركة الأمازيغية حركة ملحدة وكافرة نتيجة تبنيها الصريح للخطاب العلماني الديمقراطي، كما تقوم بربط تصورات ومواقف إمازيغن بجهات أجنبية، وبالتالي فإنها تحاول عبثا أن تقدم الخطاب الأمازيغي على أنه يشكل خطرا حقيقيا على الوحدة الوطنية، فكل شيء لا يوافق تصوراتها وطموحاتها يتم دمجه في خانة ” المؤامرة” والسعي إلى تقسيم الوطن. تماما كما فعل الدكتور فؤاد بوعلي في معرض حديثه عن مطالبة إمازيغن بالحكم الذاتي، ومسألة رفع الأعلام الأمازيغية أثناء المسيرات الاحتجاجية التي نظمتها حركة عشرين فبراير، حيث حاول السيد بوعلي إدراج هذه الأمور(مطلب الحكم الذاتي + رفع الأعلام الأمازيغية) ضمن خانة السعي إلى التقسيم والانفصال(3)، هكذا !!. لكن ما لا يدريه ربما السيد بوعلي، وقد يكون تعمد نسيانه وإهماله فقط( وهذا نوع من النفاق !!؟.)، هو أن مسألة الحكم الذاتي أو الجهوية الموسعة كما جاء في الخطاب الملكي المشار إليه سابقا، هو من إنتاج واقتراح الدولة نفسها وليس الأمازيغ فقط، لهذا كان يجب على السيد بوعلي أن يوجه تهمة التقسيم والتجزئة إلى الدولة وليس إلى الأمازيغ، هذا إذا كان يملك الجرأة ويهمه الوطن بالفعل؟. أما حول مسألة رفع الأعلام الأمازيغية فعلى الدكتور بوعلي (وغيره طبعا) معرفة أمرين مهمين للغاية في الموضوع، أولهما هو أن هذه الأعلام يتم صنعها وبيعها داخل المغرب ولم يتم استيرادها من أمريكا أو الجزائر أو فرنسا أو إسرائيل أو من أي بلد آخر. وثانيهما هو أن هذه الأعلام هي أعلام رمزية فقط، بمعنى آخر، هي أعلام ترمز للحركة الأمازيغية التي هي مجموعة من المنظمات والجمعيات والفعاليات التي تشتغل أساسا على القضايا الأمازيغية، ولا ترمز أبدا لدولة ما سابقة في تاريخ الأمازيغ، فمن المعلوم أن جميع الهيئات السياسية والنقابية والثقافية والحقوقية والرياضية بالمغرب لديها شعاراتها ورموزها التي تعرف من خلالها، وبالتالي تميزها على غيرها من الإطارات والهيئات والنوادي الأخرى، فلماذا حلال عليكم وحرام علينا؟. أما ربط مسألة رفع الأعلام الأمازيغية بمسألة الانتماء ودرجة الوطنية فهو ربط ساذج للغاية، لا ادري أن كان السيد بوعلي يعرف أم لا من وقع معاهدة “الحماية” التي تم بموجبها احتلال الوطن، هل من وقع هذه ” المعاهدة” هو عربي أم أمازيغي؟ ولكن في المقابل يعرف جيدا من نهض لمقاومة المستعمر في كامل ربوع الوطن. نعم الأمازيغ هم الذين هبوا للدفاع عن الوطن أثناء بيعه للمستعمر الفرنسي بموجب إبرام معاهدة “الحماية”، وربما يعرف السيد بوعلي موقف النخبة العربية المغربية من حركات المقاومة والتحرر الوطني التي قادها الأمازيغ سواء في جبال الريف أو في الأطلس أو في أي جزء آخر من الموطن، كما أن جيش التحرير الحقيقي الذي قاد عمليات التحرير أسسه وقاده الأمازيغ وليس غيرهم، فبينما كان الأمازيغ يصعدون إلى الجبال من أجل الدفاع عن حرية الوطن وكرامة المغاربة قاطبة كانت النخبة العربية المغربية المتمركزة في الرباط وفاس وسلا، التي سميت فيما بعد تعسفا ” بالحركة الوطنية” تهرول إلى باريس من أجل التفاوض مع المستعمر من أجل تحصين مصالحهم وإقناع المستعمر بأجراء بعض الإصلاحات الطفيفة على “المعاهدة”، هذا من جهة، ومن جهة أخرى من أجل التعبير له (=المستعمر) عن الطاعة والولاء. فبينما كان الأمازيغ يسعون إلى التحرير الكامل من براثين الاستعمار الامبريالي، كانت ما يسمى تعسفا ” بالحركة الوطنية ” تتحدث عن الإصلاح . ونضيف إلى هذه الحقائق الموضوعية أن ” الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية ” أسسها وساندها العرب وليس الأمازيغ، بحيث ليس هناك في حدود معرفتنا أية حركة أو جمعية أو شخصية أمازيغية محسوبة على الحركة الأمازيغية ساندة حركة ” بوليساريو “، بل أكثر من ذلك من عمل على القضاء النهائي على جيش التحرير في الجنوب الذي يشكل الأمازيغ أغلبيتهم الساحقة؟.(4) تأسيسا على المعطيات والحقائق الموضوعية التي ذكرناها في الأعلى، وبإيجاز شديد، نرجو من الدكتور بوعلي أن يكتب في المرات القادمة بصدق وموضوعية دون مزايدات سياسية ومغالطات فكرية وتاريخية أو أن يخرس أفضل له وللأمازيغ، فالكتابة أمانة ومسؤولية أولا وقبل كل شيء. وفي نفس السياق؛ أي في سياق تشويه وعرقلة النقاش الديمقراطي حول الأمازيغية عموما، وحول ترسيم اللغة الأمازيغية خصوصا، حاول رئيس الجمعية المغربية لحماية اللغة العربية السيد موسى الشامي إعادة طرح السؤال السابق الذكر حول اللغة الأمازيغية( هل هي لغة أم لهجة؟) أكثر من مرة خلال مشاركته في برنامج ” مباشرة معكم ” يوم 20 ابريل 2011 . ونفس الشيء فعله أيضا زميله في الجمعية الدكتور فؤاد بوعلي في حوار أجرته معه جريدة هيسبريس، وعلى نفس المنوال سار أيضا الأستاذ رشيد الإدريسي في مقال له تحت عنوان ” الأمازيغية والدستور: هل هناك ضرورة للغة رسمية أخرى” المنشور في جريدة هيسبريس كذلك. لا شك أن هذه المواقف هي في الأساس مواقف سياسية بالدرجة الأولى وليست علمية وأكاديمية، وبالتالي فإنها ليست موضوعية وديمقراطية، وهي مواقف تعبر في العمق، وبشكل واضح، على وجود خلل كبير في عملية التواصل بين النخبة المغربية والحركة الأمازيغية. هذا من جهة، ومن جهة أخرى تعبر أيضا (أي هذه المواقف) عن وجود قصور معرفي كبير وهائل لدى هؤلاء المثقفين في ما يخص موضوع الأمازيغية، وهو الشيء الذي ينعكس سلبيا على مردودية ومستوى الحوارات والنقاشات التي يخضونها حول الأمازيغية، وطبعا الأمازيغية هي الضحية الأولى وليس غيرها. فليس منطقيا إعادة الحديث عن اللغة الأمازيغية من زاوية طرح السؤال السابق (هل هي لغة أم لهجة؟) بعد سنوات من تدريسها في المدارس الابتدائية وفي الجامعات كذلك(وجدة وفاس وأكادير)، أو الحديث كذلك عن أية أمازيغية يجب ترسيمها، أو الحديث عن ما هو الحرف الأنسب لكتابة اللغة الأمازيغية بعد سنوات من الشروع الرسمي والعملي في استعمال حرف تيفيناغ..، حيث تعتبر هذه الأمور متجاوزة بالنسبة للحركة الأمازيغية والدولة معا، لكن رغم ذلك نجد أن بعض المثقفين والكتاب المغاربة (ومنهم الأسماء التي ذكرناها سابقا) مازالوا يحاولون أثارت ومناقشة مثل هذه الأمور المتجاوزة والمحسومة في أمرها علميا وسياسيا مند سنوات طويلة، طبعا ليس حبا في الأمازيغية وإنما من أجل عرقلة وتعطيل النقاش الديمقراطي والعقلاني حول اللغة الأمازيغية من ناحية، وتشويه خطاب الحركة الأمازيغية من ناحية أخرى، فعلى سبيل المثال فقط، لماذا تم إشراك رئيس الجمعية المغربية لحماية اللغة العربية السيد موسي الشامي في البرنامج الأخير من برنامج ” مباشرة معكم ” ( نقصد حلقة يوم 20 ابريل )، الخاص بمناقشة مكانة اللغة الأمازيغية في التعديل الدستوري المرتقب؟ فما علاقة السيد الشامي بالموضوع، أليس هذا من أجل إظهار وجود صراع بين اللغة الأمازيغية والعربية؟.
دسترة اللغة الأمازيغية كلغة رسمية: يتساءل الأستاذ رشيد الإدريسي في مقاله المذكور سابق، هل من الضروري دسترة لغة أخرى؟. ونحن نقول له دون تردد نعم يجب دسترة لغة أخرى وهي اللغة الأمازيغية. وللأخ الإدريسي نقول أيضا نعم أن الاكتفاء باعتماد لغة رسمية واحدة فقط لا يعارض في شيء حقوق الإنسان، لكن في المقابل أو عندما يكون العكس هو السائد، يكون هناك بالفعل تعارض وتناقض فادح مع حقوق الإنسان، بتعبير أخرى، عندما يتم رفض وإقصاء لغة أغلبية الشعب من الدستور كلغة رسمية، ففي هذه الحالة يكون هناك تعارض كبير وخطير مع حقوق الإنسان. وصحيح أيضا أن العديد من الدول الديمقراطية في العالم تعتمد لغة واحدة فقط في دساتيرها، ولكن في المقابل هناك دول أقل ديمقراطية( الهند وجنوب أفريقيا وأفغانستان..) تعتمد أكثر من لغة رسمية، فالهند مثلا تعترف رسميا في دستورها ب 18 لغة رسمية وليس ثلاث لغات فقط كما يقول الدكتور محمد نافع العشيري في مقاله المنشور في جريدة هيسبريس تحت عنوان ” إشكالية دسترة اللغات في المغرب”. وبهذه المناسبة نؤكد أيضا للأستاذ الإدريسي وفؤاد بوعلي ولكل من يسير في نهجهم وطريقهم أن غياب الديمقراطية والمساواة والتوزيع العادل للثروات الوطنية هي التي تؤدي إلى أزمات سياسية ونشوب حروب أهلية في بعض الأحيان، وليس من خلال ترسيم أكثر من لغة رسمية في الدستور. وعندما نستعمل عبارة اللغة الأمازيغية فاننا نعني بذلك استعمال أحد الفروع أو اللهجات الأمازيغية المعروفة والمتداولة بكثافة ولا نعنى بذلك اللغة الأمازيغية الموحدة التي نسعى إلى تحقيقها. وعندما نقول أيضا بأن اللغة الأمازيغية ليست لغة مستوردة من الخارج، وليست مرطبة فقط بمكان ومنطقة معينة ، فإننا نعنى ونؤكد بذلك على حقيقتين، أولهما وهي أن اللغة الأمازيغية هي لغة وطنية بامتياز، بحيث تستعمل في جميع مناحي الحياة اليومية وتستعمل بشكل واسع في جميع إنحاء الوطن وخارجه، وهو الشيء المفقود لدى اللغة العربية(نقصد هنا العربية الفصحى أم الدراجة المغربية فليست لغة عربية) حيث كانت ومازالت تستعمل في أماكن جغرافية محددة جدا، خاصة في عملية القراءة والكتابة، وبالتالي فان اللغة العربية ليست لغة وطنية. وثانيها وهي أن اللغة الأمازيغية لغة محلية وليست مستوردة، فقبل أزيد من 3000 ألف سنة اخترع السيد أميرولكيسى الكتابة الأمازيغية كما اخترع الغناء والمزمار والكمنجة (5). وإذا كان لي أن أبدي بعض من الملاحظات حول أهم النقط والأفكار الواردة في معظم النقاشات التي تمحورت حول دسترة الأمازيغية فأنها تتخلص في الأتي. الملاحظة الأولى: وهي أنه ليس هناك من يرفض بتاتا اللغة الأمازيغية وإنما الإشكال والاختلاف يتمحور أساسا حول الصفة التي ستمنح للغة الأمازيغية في الدستور المقبل، بحيث هناك من يقترح أن تكون لغة وطنية فقط وهناك من يقترح أن تكون لغة رسمية للبلاد. الملاحظة الثانية: وهي أن معظم النقاشات الدائرة حول الموضوع كانت نقاشات سياسية وإيديولوجية محضة وليست علمية وأكاديمية. والغريب في الأمر أن معظم الأشخاص (ومنهم الدكتور بوعلي ورشيد الإدريسي وموسى الشامي..) الذين يؤكدون على ضرورة فتح نقاش أكاديمي وعلمي حول الموضوع بعيدا عن النقاش السياسي الضيق يمارسون هم أنفسهم مواقف سياسية محضة تجاه الموضوع، بصيغة أدق، معظم المواقف المناهضة لترسيم اللغة الأمازيغية كلغة رسمية هي مواقف سياسية وليست علمية. الملاحظة الثالثة: اتضح لنا جيدا من خلال النقاشات الدائرة حول الموضوع وجود فجوة كبيرة بين خطاب الحركة الأمازيغية وبين فئة شاسعة من المثقفين والكتاب المغاربة. يتبع.. محمود بلحاج: [email protected] بعض الهوامش: 1: عبد الكريم غلاب : من اللغة إلى الفكر “الطبعة الأولى 1993 منشورات مطبعة الصباح الجديدة- الدارالبيضاء 2: انظر مجلة اتحاد كتاب المغرب ” آفاق” العدد الأولى ملف خاص حول الكتابة الأمازيغية ، الطبعة الأولى 1992 . 3: انظر مقال السيد فؤاد بوعلي المنشور في جريدة هيسبريس تحت عنوان ” اللغة بين المواطنة والتشطي ” . 4: انظر مجلة نوافذ العدد المزدوج 10 /11 ملف خاص حول ” الصحراء: الحل الوطني الديمقراطي”. 5: انظر خول هذا الموضوع كناب ” تاريخ الخط العربي وغيره من الخطوط العالمية” تأليف آن زالي واني بيرثييه، ترجمة سالم سليمان العيسى – عن مطبعة الأوائل للنشر والتوزيع- دمشق/ سورية – المطبعة الأولى 2004