اختيار فوزي لقجع نائبا أول لرئيس الاتحاد الإفريقي لكرة القدم    مناظرة جهوية بأكادير لتشجيع رياضي حضاري    العثور على جثة بشاطئ العرائش يُرجح أنها للتلميذ المختفي    تتويج 9 صحفيين بالجائزة الوطنية الكبرى للصحافة في المجال الفلاحي والقروي    الجامعي: إننا أمام مفترق الطرق بل نسير إلى الوراء ومن الخطير أن يتضمن تغيير النصوص القانونية تراجعات    بواشنطن.. فتاح تبرز جاذبية المغرب كقطب يربط بين إفريقيا وأوروبا والولايات المتحدة    جديد نصر مكري يكشف عن مرحلة إبداعية جديدة في مسيرته الفنية    برهوم: الشعب المغربي أكد أنه لا يباع ولا يشترى وأن ضميره حي ومواقفه ثابتة من القضية الفلسطينية    بدء مراسم جنازة البابا في الفاتيكان    أخنوش يمثل أمير المؤمنين الملك محمد السادس في جنازة البابا فرنسيس    الملك محمد السادس يهنئ رئيسة تنزانيا    جيدو المغرب ينال ميداليات بأبيدجان    المغرب يرفع الرهان في "كان U20"    مؤتمر "البيجيدي" ببوزنيقة .. قياديان فلسطينيان يشكران المغرب على الدعم    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأحد    المغرب يرسّخ مكانته كمركز صناعي إفريقي ويستعد لبناء أكبر حوض لبناء السفن في القارة    إطلاق مشروعي المجزرة النموذجية وسوق الجملة الإقليمي بإقليم العرائش    البشر يواظبون على مضغ العلكة منذ قرابة 10 آلاف سنة    هولندا تقرر تمديد مراقبة حدودها مع بلجيكا وألمانيا للتصدي للهجرة    مكناس.. تتويج أفضل منتجي زيت الزيتون بالمباراة الوطنية الخامسة عشر    تصفية حسابات للسيطرة على "موانئ المخدرات" ببني شيكر.. والدرك يفتح تحقيقات معمقة    من تندرارة إلى الناظور.. الجهة الشرقية في قلب خارطة طريق الغاز بالمغرب    هولندا.. تحقيقات حكومية تثير استياء المسلمين بسبب جمع بيانات سرية    شبكات إجرامية تستغل قاصرين مغاربة في بلجيكا عبر تطبيقات مشفرة    تتويج الفائزين في مباريات أحسن رؤوس الماشية ضمن فعاليات المعرض الدولي للفلاحة بالمغرب 2025    كرانس مونتانا: كونفدرالية دول الساحل تشيد بالدعم الثابت للمغرب تحت قيادة الملك محمد السادس    ماذا يحدث في بن أحمد؟ جريمة جديدة تثير الرعب وسط الساكنة    بدء مراسم تشييع البابا فرنسيس في الفاتيكان    اعتذار على ورق الزبدة .. أبيدار تمد يدها لبنكيران وسط عاصفة أزمة مالية    ولاية أمن الدار البيضاء توضح حقيقة فيديو أربعة تلاميذ مصحوب بتعليقات غير صحيحة    المعرض الدولي للنشر والكتاب يستعرض تجربة محمد بنطلحة الشعرية    لقاء يتأمل أشعار الراحل السكتاوي .. التشبث بالأمل يزين الالتزام الجمالي    الشافعي: الافتتان بالأسماء الكبرى إشكالٌ بحثيّ.. والعربية مفتاح التجديد    المرتبة 123 عالميا.. الرباط تتعثر في سباق المدن الذكية تحت وطأة أزمة السكن    فليك: الريال قادر على إيذائنا.. وثنائي برشلونة مطالب بالتأقلم    سيرخيو فرانسيسكو مدربا جديدا لريال سوسييداد    مؤتمر البيجيدي: مراجعات بطعم الانتكاسة    مصدر أمني ينفي اعتقال شرطيين بمراكش على خلفية تسريب فيديو تدخل أمني    شوكي: "التجمع" ينصت إلى المواطنين وأساسه الوفاء ببرنامجه الانتخابي    الصين تخصص 6,54 مليار دولار لدعم مشاريع الحفاظ على المياه    الهلال السعودي يبلغ نصف نهائي نخبة آسيا    فعاليات ترصد انتشار "البوفا" والمخدرات المذابة في مدن سوس (فيديو)    وثائق سرية تكشف تورط البوليساريو في حرب سوريا بتنسيق إيراني جزائري    الجهات تبصِم "سيام 2025" .. منتجات مجالية تعكس تنوّع الفلاحة المغربية    من فرانكفورت إلى عكاشة .. نهاية مفاجئة لمحمد بودريقة    جريمة مكتملة الأركان قرب واد مرتيل أبطالها منتخبون    العالم والخبير في علم المناعة منصف السلاوي يقدم بالرباط سيرته الذاتية "الأفق المفتوح.. مسار حياة"    متدخلون: الفن والإبداع آخر حصن أمام انهيار الإنسانية في زمن الذكاء الاصطناعي والحروب    مصل يقتل ب40 طعنة على يد آخر قبيل صلاة الجمعة بفرنسا    على حمار أعْرَج يزُفّون ثقافتنا في هودج !    الرباط …توقيع ديوان مدن الأحلام للشاعر بوشعيب خلدون بالمعرض الدولي النشر والكتاب    كردية أشجع من دول عربية 3من3    دراسة: النوم المبكر يعزز القدرات العقلية والإدراكية للمراهقين    إصابة الحوامل بفقر الدم قد ترفع خطر إصابة الأجنة بأمراض القلب    الحل في الفاكهة الصفراء.. دراسة توصي بالموز لمواجهة ارتفاع الضغط    وداعًا الأستاذ محمد الأشرافي إلى الأبد    قصة الخطاب القرآني    المجلس العلمي للناظور يواصل دورات تأطير حجاج الإقليم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لماذا "العَلْمانيّة" ليستْ بالحَلّ؟
نشر في هسبريس يوم 17 - 03 - 2015

لا رَيْبَ في أنّ "العَلْمانيّةَ" (مفهومةً، بالأساس، كﭑسْتبعادٍ ل«ﭐلدِّين» وأهْلِه من مَجال «التّدْبير العُموميّ» الذي يُسمّى «السِّياسة» ويُحدَّد في إطار «الدّوْلة») قد تَكُون حَلًّا بالنِّسبة إلى مُجتمعٍ ما في زمنٍ ما. هذا الأمرُ ليس موضوعَ النّفْي كما في عُنوان المَقال، بل المَنْفيُّ هو – بالضّبْط- أن تُعَدّ "العَلْمانيّةُ" الحلَّ الذي لا حَلَّ غيرُه بالنِّسبة إلى كُلِّ المُجتمعات وفي كُلِّ الأزمنة. وينبغي أن يَكُون واضحًا أنّ من يَعتقدُ أو يَقُولُ بأنّ "العَلْمانيّةَ" هي كذلك إِنّما يُريد أنْ يَفْرِضها، بوعيٍ أو من دُونه، بصفتها «المُقدَّس الأخير» في التّاريخ الإنسانيّ؛ وهو ما لا قِبَلَ لعاقلٍ به!
وإذَا ظَهر ذلك، فإنّ الاعتراض على إرادةِ عَرْض (وفَرْض) "العَلْمانيّة" بصفتها الحلَّ النِّهائيَّ يَصيرُ لا فقط مُمْكنًا، بل واجبًا من النّاحيتَيْن النّظريّة والعَمَليّة. وعليه، فلَيْستِ "ﭐلعَلْمانيّةُ" بالحلِّ للأسباب التّالية:
أَوّلًا، لَيْستِ "ﭐلعَلْمانيّةُ" بالحَلّ لأنّها لمْ تَعُدْ بَديهيّةً تمامًا حتّى في عُقْر دارها: إِذْ نَجدُ - فضلًا عن ثُبوت أزمتها في عددٍ من البُلدان التي من أبرزها "فرنسا"- كثيرًا من المُفكِّرين والفلاسفة الذين أَخذوا يَعْمَلُون على مُراجعتها تاريخًا ومفهومًا وإجْراءاتٍ. وقد يكفي، هُنا، أن يُشار إلى عناوين خمسةِ كُتب أَساسيّة بهذا الخصوص: «العَلْمانيّة ونُقّادُها» (بإشراف "راجيف بارغاﭭا"، 1998، 550 صفحة)[1]؛ و«تَنْويعاتُ العَلْمانيّة في عَصْرٍ دُنْيوِيٍّ» (بإشراف "مايكل ورنر" و"جونثان ﭭنينتورﭙن" و"كريغ كلهون"، 2010، 337 صفحة)[2]؛ و«إعادةُ التّفْكير في العَلْمانيّة» (بإشراف "كريغ كلهون" و"مارك يُورغنمير" و"جونثان ﭭنينتورﭙن"،2011، 311 صفحة)[3]؛ و«سُلطةُ الدِّين في المَجال العُموميّ» (بمشاركة "يهوديت بتلر" و"يورغن هابرماس" و"تشارلز تيلور" و"كورنيل وِسْت"، 2011، 137 صفحة)[4]؛ و«العَلْمَنَاتُ ونقاشاتُها: آفاقُ عودةِ الدِّين في الغرب المُعاصر» (بإشراف "ماثيو شارﭖ" و"ديلان نيكلسن"، 2014، 235 صفحة)[5]. ومثل هذه الأعمال أكثر من أن تُحصى في عدّةِ لُغاتٍ بما يُوجب أن تُؤْخَذ بالحُسْبان سَيْرُورةُ «إِبْطال/بُطْلان سِحْر "العَلْمانيّة"» («désenchantement de la laïcité/disenchantement of secularism») بفعل كل الإخْفاقات المُتراكمة في إقامة "التّرْشيد" المطلوب لتَجاوُز "التّسلُّط" و"التّسيُّب"، مِمّا أَدّى إلى «عَوْدة الدِّين»، بل إلى «عودة السِّحْر» إلى "العالَم" و"العِلْم" كليهما (الكتاب الجماعي بإشراف "ﭙيتر ل. بيرغر": «إِبْطالُ عَلْمَنةِ العالَم/إعادةُ السِّحْر إلى العالَم» [1999، 2001]؛ وكتاب "روبرت شلدريك": «وَهْمُ العِلْم/إِعادةُ السِّحْر إلى العِلْم» [2012، 2013])؛
ثانيًا، ليستِ "ﭐلعَلْمانيّةُ" بالحَلّ لأنّ تَحْديدَها بالشّكل الذي يَستلْزِم – كما يُظَنّ عادةً- «تَعْطيل الدِّين في المَجال العموميّ» يُحوِّلُها إلى «دِينٍ وَضْعيٍّ» مُتَنكِّر يُرادُ أنْ يُكْرَهَ المُواطِنُون ضمنه على ﭐعْتقاداتٍ وتصرُّفاتٍ مُعيَّنةٍ. وبالتالي، إذَا كان المبدأُ المُؤسِّس ل"العَلْمانيّة" أنّه «لا إِكْراهَ في الدِّين» (وهو مبدأٌ منصوصٌ عليه في "القُرآن" منذ أربعة عشر قرنًا مَهْمَا تَلَكَّأَ في قَبُوله "العَلْمانيُّون" و"الإسلامانيُّون" على سَواءٍ!)، فإنّ «تَعْطيلَ الدِّين في المَجال العُموميّ» بناءً على تَدخُّل "الدّوْلة" يُؤدِّي قَطْعًا إلى «إِبْطال حِيادها المَزْعُوم تُجاه الدِّين» ويُعبِّر، من ثَمّ، عن المُفارَقة الكُبرى في "العَلْمانيّة": كيف يُعْقَل أن يُدْعَى إلى تَرْكِ "الحُرِّيّة" كاملةً للأفراد في ﭐختيار مُعتقداتهم ومُمارَسة عباداتهم والعمل، مع ذلك، على مَنْعهم من التَّعْبير عنها عُموميًّا بِما يُفيد حِرْمانَهم من حقّ ﭐختيارِ وتَقْريرِ «الحياة الطّيِّبة» وَفْق ما يَعتقدون؟!
ثالثًا، ليستِ "ﭐلعَلْمانيّةُ" بالحَلّ لأنّ ﭐفْتراضَ إِمْكانِ «الفَصْل بين مَجالَيْ السِّياسة والدِّين» يَقتضي لا فقط إمكانَ «الفَصْل بين الدُّنيا والآخرة» في حياةِ الإنسان من دُون أدنى مُشكلةٍ، بل يَقتضي أيضًا أنّ أَعمالَ الإنسان في حياته "الدُّنيويّة" لا عَلاقةَ لها بحياته "الأُخْرويّة" (طبعًا، في المدى الذي لا يَزالُ مَلايير من النّاس عبر العالَم يُؤْمنون بالحياة الآخرة)؛ مِمّا يُوجِبُ – في ظنّ العَلْمانيّين والمَلاحدة- العمل على قَصْرَ هِمّةِ النّاس على تَدْبير تلك الحياة وصَرْفَ نَظرهم عن الأُخرى، وهو العمل الذي من شأْنه أن يَقُود إلى التّشْكيك في أُمور "البَعْث" و"الحَشْر" و"الآخرة" أو إلى إِنْكارها بالجُملة (وهذا التّشْكيك والإنْكار موضوعٌ دائمًا في جدول أَعمال بعض مُناضلِيْ "العَلْمانيّة" و"الإلحاد"!)؛
رابعًا، لَيْستِ "ﭐلعَلْمانيّةُ" بالحَلّ لأنّ مبدأَ «إِلْزام الدّوْلة الحِياد» تُجاه ﭐعتقادات كُلِّ المُواطِنين لا يُمْكنُ أن يُفَعَّل، في الواقع، كما لو كان بمثابة «مَنْعٍ أو تَعْطيلٍ للدِّين في المَجال العُموميّ» ولا، بالأحرى، كتعطيل لكُلِّ ﭐعتقادٍ من وراء تصرُّفات «مُوظَّفي الدّوْلة» في المَجال نفسه (بالخُصوص على مُستوى "التَّعْليم" و"الإعلام" حيث يَرْتَعُ كثيرٌ من مُناضلِيْ "العَلْمانيّة" و"الإلحاد"!)؛ ذلك بأنّ الحياد لا معنى له إِلّا إذَا قام ك«إِعْراضٍ عن كُلِّ الأَغْراض والمَصالح». والحالُ أنّ ﭐنْخراطَ الإنسان في هذا «العالَم الدُّنْيويّ» يَجعلُه مُرْتهنًا - من النّاحيتَيْن ﭐلاجتماعيّة والتّاريخيّة- بالشّكل الذي يَفْرِض عليه دائمًا نوعًا من "الإغْراض" الذي يَتحدّد، في آنٍ واحدٍ، بالنِّسبة إلى شُرُوطٍ موضوعيّةٍ وآمالٍ ذاتيّةٍ هي التي تُفسِّر (وتُبرِّر) مُخْتلِف ﭐهْتماماتِ «الفاعلِين/العامِلين» في كُلِّ حَقْلٍ (وَفْق ﭐجتماعيّات "بُورديو")؛
خامسًا، ليستِ "ﭐلعَلْمانيّةُ" بالحَلّ لأنّ المشروعَ الحَداثيَّ المُتعلِّقَ ب«إِبْطال سِحْر العالَم» لمْ يَتأَتَّ له «إِبْطالُ الدِّين»، وإنّما كان مآلُه - حتّى في المُجتمعات الغربيّة- «إبْطالَ سِحْر الدَّوْلة» (بثُبوت حُدودها في إقامة شُروط وأسباب "التّرْشيد"، بل بظُهور نُزُوعها الجوهريّ نحو ﭐسْتدامة واقع "التّفاوُت" و"التّنازُع" بما يَزيد من مُمارَسة "الإكْراه" تسلُّطًا وتسيُّبًا) و«إرْجاعَ السِّحْر إلى العالَم والعِلْم كليهما» (لم يَعُدِ "ﭐلعالَم" بمثابة ذلك "ﭐلواقع" الذي تزداد شفافيتُه بقدر ما يَتقدّمُ "العِلْم"، وإنّما صار يَزْدادُ خفاءً وغَيْبًا بما يُؤكِّد إمّا قُصور "العِلْم" وإمّا ﭐنْحرافَ مَسْعاه في مُقارَبة "الحقيقة")؛
سادسًا، ليستِ "ﭐلعَلْمانيّةُ" بالحَلّ في مُجتمعاتٍ أكثريّةُ النّاس فيها مُتديِّنة؛ مِمّا يُوجب لا فقط أن تُؤْخذ بالحُسْبان مُعتقداتُ المُواطنين فيها وحاجاتُهم الرُّوحيّة من قِبَل المَعْنيِّين بأيِّ تَدْبير في السِّياسة العُموميّة للدّوْلة، بل يُوجب أيضًا أن يَكُون تدبيرُ «الشّأْن الدِّينيّ» من وظائف الدّوْلة، بﭑعتبار أنّ هذا الشّأْن له أَهميّةٌ كُبرى في حياةِ أكثريّةِ المُواطِنين الذين هُمْ – في حالةِ المُجمتعات الإسلاميّة- مُسْلِمُون مَعْنيُّون بالآخرة بقدر ما هُمْ مَعْنيُّون بالدُّنيا. وإلَّا، فإنّ تَرْكَ تَدْبير «الشّأْن الدِّينيّ» خارج السِّياسة العُموميّة للدّوْلة يُمثِّلُ خطرًا أَكبر على الأَمْن "الماديّ" و"الرُّوحيّ" للمُواطِنين كما لمْ تَفْتأْ تُؤكِّدُه الوقائعُ حتّى في الدُّوَل الغربيّة العَلْمانيّة (إِمْكان ﭐنْفلات «الشّأْن الدِّينيّ» نحو نَزَعات "التّطرُّف" و، بالخُصوص، نحو تعاطي «الإجْرام الاسترهابيّ»!)؛
سابعًا، ليستِ "ﭐلعَلْمانيّةُ" بالحلّ لأنّها غيرُ مُؤسَّسةٍ من النّاحية الفلسفيّة. فالمُسلّمةُ المُقوِّمةُ لها (مُسلَّمة «ﭐنْحصار الوُجود الإنسانيّ في هذ العالَم الدُّنيويّ») والقائلةُ بأنّ هذا "العالَم" مفصولٌ عن غيره من العَوَالم يُمْكنُ الاعتراضُ عليها بما يُقِيمُ مُسلَّمةً مُناقِضةً (مُسلَّمة «تَعدِّي وُجود الإنسان لهذا العالَم») تُفيد أنّ وُجودَ الإنسان الماديّ والرُّوحيّ وعملَه التّدْبيريَّ مفتوحان على أنواع من "التّشْهيد" و"التّغْييب" على النّحو الذي يقتضي الخُروج من ضيق «التّسيُّد العَلْمانيّ» و«التّربُّب الدِّيانيّ» إلى سَعة «التّزَكِّي الائْتمانيّ» (وهذا هو مَدارُ كتاب «رُوح الدِّين» [2012] للفيلسوف المغربيّ "طه عبد الرحمن")؛
ثامنًا، ليستِ "ﭐلعَلْمانيّةُ" بالحَلّ لأنّها تَفترض «وُجوب حياد الدّوْلة»؛ غير أنّ مَطْلَب الحياد التّامّ مُمْتنعٌ حتّى في مجال "العِلْم" الذي ثَبَت منذ عُقود أَنّه إنْتاجٌ مشروطٌ ﭐجتماعيّا وتاريخيّا بالشّكْل الذي يَقتضي أنّ "العقلَ" نفسَه لا حياد فيه لكونه ليس سوى نتاجٍ ﭐجتماعيٍّ وتاريخيٍّ (كتاب «بِنْيةُ الانقلابات العلميّة» [1962، 1970] لصاحبه "طُوماس كُون"؛ وكتاب «التّحالُف الجديد: تبدُّل العِلْم» [1979، 1986] لصاحبَيْه "ﭙريغُوجين" و"ستنْغرز")؛
تاسعًا، ليستِ "ﭐلعَلْمانيّةُ" بالحلّ في المُجتمعات الإسلاميّة لأنّ «الإسلام/الدِّين» يَرفُض مبدئيّا قيام "التّسلُّط" سواء أَكان على شاكلة "الكَهَنُوت" الكَنَسيّ الخاصّ باليهوديّة والمسيحيّة («مَحاكم التّفْتيش» و«الحُروب الدِّينيّة» ليست ﭐبتكارًا إسلاميًّا، بل حتّى «الفِتْنة الكُبرى» لم تَكُنْ سوى نزاعٍ سياسيٍّ بين فَريقَيْن: فريق الذين يَرَوْن أنّ «الخلافة» مَناطُها "الشُّورى" و"الإجْماع" [مذهب أهل السُّنّة والجماعة وجُمهور العُلماء]، وفَريق الذين يَرَوْن أنّها حُسِمَتْ وَصِيّةً نبويّةً [مذهب عُموم الشِّيعة] أوْ أَمْرًا من اللّه الذي لا يكون "الحُكْم" إِلَّا له [مذهب الخَوارج]!) أَمْ كان على غرار "الفَقَهُوت" المُسْتحدَث في «الإسلام الشِّيعيّ» للخُروج من مَأْزِق الغياب المُزْمِن للإمام المعصوم. ومهما اشتدَّتِ المُماحَكات حول عَلاقة "الجَبَرُوت" (كسُلْطانٍ دُنْيويٍّ) ب"الدِّين" (بما هو سُلْطانٌ رُوحيٌّ)، فسيَظلُّ المبدأُ الإسلاميُّ صريحًا بأنّه «وأَمْرُهم شُورى بينهم» [الشُّورى: 38] و«لَيْستْ لِمُكْرَهٍ بَيْعةٌ!» (قياسًا على فَتْوَى الإمام "مالك" رضي اللّهُ عنه بأنّه: «ليس على مُسْتكرَهٍ طلاقٌ!»)؛
عاشرًا، ليستِ "ﭐلعَلْمانيّةُ" بالحلّ لأنّها لم تَستطعْ أنْ تَجْتَثَّ العُنفَ من المُجتمعات الخاضعة لها، بل كانتِ السّببَ في أشدّ الحروب تَقْتيلًا وتَدْميرًا في الفترة المُعاصرة، حيث إنّ الدُّول التي تسبّبتْ في الحربَيْن العالميَّتَيْن الأُولى والثانية كانتْ دُولًا عَلْمانيّةً؛ بل إنّ مُعظَم الدُّوَل التي لا تزال تُهدِّد السِّلْمَ العالميَّ إنّما هي دُوَلٌ عَلْمانيّةٌ، مِمّا يَعني أنّ أهمّ أنواع العُنف في المُجتمعات البشريّة لا يقف وراءها الصِّراع بين الطّوائف الدينيّة المُتباينة والمُتنازعة دائمًا، وإنّما تقف وراءها "السِّياسةُ" و"الاقتصادُ" اللّذان صار يُعزِّزُهما حاليًّا "الإعلام" بدعايته التّحْريضيّة وَ/أوْ التّعْتِيميّة؛
أخيرًا، ليستِ "العَلْمانيّةُ" بالحَلّ لأنّ مُشكلةَ «الحياة الطّيِّبة» لا يُمكن حَسْمُها في مُجتمعٍ مُتعدِّدٍ ومُتفاوتٍ فقط بإِلْزام "المُتديِّنِين" الصّمْتَ بخصوص الأُمور السِّياسيّة في المَجال العُموميّ؛ وإِلَّا، فإِذَا صَحّ أنّه من المُمْتنع ﭐشْتقاق "الواجب" من "الواقع" (كما يَقْضي قانونُ "هِيُّوم")، وكان "العِلْمُ" لا يَستطيعُ أنْ يُحدِّد للمُجتمع ما يجب أخلاقيّا (إلَّا في ظنِّ من لا يزال ضحيّةً ل"العِلْم-انيّة" [scientism]!)، فإنّ الجميعَ يَصيرُون مُلْزَمين بالصّمت عُموميًّا تُجاه «الحياة الطّيِّبة» بما في ذلك "الدّوْلةُ" التي تُصبحُ مُطالَبةً به، خصوصا في مُؤسَّسات "التّعْليم" و"الإعْلام" (وهو أمرٌ لا يَخفى كونُه مُحالًا، لأنّه يَستلْزم إِبْطال كُلِّ خطاب عُموميّ بمُقتضى أنّ مَدارَهُ لا يَنْفكّ عن تَعْيين "الواجب" تَدْبيرًا وتَنْظيمًا!)؛وهكذا، إِذَا تَبيَّن أنّ "العَلْمانيّةَ" ليستْ بالحَلِّ الواجب عقْلًا وواقعًا، فإنّ الذين ما فَتِئُوا يَعْرِضُونها (ويَفْرِضُونها) بصفتها كذلك يُعَدُّون إمّا واقعين في "التّضْليل" بادِّعائهم النُّطْق حصرًا «بﭑسم العقل»، وإمّا عامِلين على "التَّبْشير" بما يعتقدونه حقًّا وصوابًا وهو الذي لا يَعْدُو أن يكون، بالتّحديد، «دعوةً» أو «فِكْرَى» تَخُصُّهم!
وإنّ المرءَ ليَعْجَبُ كيف أنّ دُعاةَ (وأدعياءَ) "العَلْمانيّة" يَبْقَوْن، في مُعظَمهم، أَمْيَلَ إلى "الاعتقادانيّة" (أو "الوُثوقيّة"، من حيث إنّهم يَثِقُون في اعتقاداتهم كأنّها «حقائق يقينيّة ونهائيّة») و"الرَّجْعيّة" (يَرْجِعُون إلى «تقاليد مُتقادمة») بالشّكْل الذي يَجعلُهم لا يَقِلُّون "سَلَفيّةً" و"ظلاميّةً" عن أُولئك الذين يَرَوْنَ أنّ «الإسلام/الدِّين» – بالضّبْط كما يَفْهمُونه ويَعْمَلُون به (حتّى في ظنِّهم بأنّهم يَسترجعون فَهْمَ «السَّلَف الصّالِح» وعَملَهم به)- هو الحَلّ الذي لا يَأْتيه الباطلُ من بين يَدَيْه ولا من خَلْفه!وبِما أنّه ليس من المعقول أن يُستَنْجَد بنُتَفٍ مُنْتقاةٍ لأجل الغَرَض من هذا الماضي أو ذاك، فإنّ الذين لا يَترَدّدُون عن التّظاهُر بصفةِ من يَنْطق حَصْرًا «بﭑسم العقل» لا يَكادُون يَخْتلفون عمّنْ يَعْرِضُون ذواتهم بصفةِ مَنْ يَنْطق «بﭑسم اللّه». وإلَّا، فإنّ المُشترَك الدُّنْيويّ الذي يَفْرِض نفسَه على الجميع إنّما هو «تَنْسيبُ العقل» سواء أَتعلَّق الأَمرُ بالاجتهاد النّظَريّ أَمْ بالمُمارَسة العَمَليّة. وعليه، فلَيْس أربابُ "الدِّين" وأَحبارُه هُم فقط الذين اخْتلفوا (كما في حال "الفُقهاء" عند المُسلمين)، بل إنّ أصحاب "العقل" وأَصفياءَه هُم أيضًا كانُوا ولا يَزالُون مُختلِفين ومُتنازِعين ("الحُكماء" و"الفلاسفة"، وحتّى "العُلماء").
ومن ثَمّ، فإنّ "العَلْمانيّة" و"الإسلامانيّة" تُمثِّلان كلتاهُما نزعَتَيْن مُتطرِّفَتَيْن: الأُولى تَعْمَلُ على «تَعْطيل الدِّين» (بدعوى وُجوب الاحتكام، على المُستوى العُموميّ، إلى "العقل" وحده)، والأخرى تَبْتغي «الإكْراه على الدِّين» (بدعوى وُجوب الاحتكام، على المُستوى العُموميّ والخُصوصيّ، إلى "الدِّين" وحده). وبعيدًا عن هذين التّطرُّفين، فإنّ مَطْلَب "التّرْشيد" - في قيامه على الخُروج من كُلِّ تسلُّطٍ أو تَسيُّبٍ- يَبقى مُرتبطًا بالعمل على التّأْسيس الموضوعيّ لشُروط «التّحقُّق بالرُّشْد» على النّحو الذي يَجعلُ أكثريّةَ المُواطِنين قادرةً على البَتّ في تَدْبير الشُّؤُون العامّة كتَدْبيرٍ لمُشكلاتِ «الحياة الطّيِّبة» على أساس ما يُمْكنُ بناؤُه من «توافُقات معقولة».
وفَحْوَى ذلك أنّ دُعاةَ (وأدعياءَ) "العَلْمانيّة" بيننا لو كانوا حقًّا يُحْسِنُون شيئًا آخر غير "التّقْليد"، لَمَا سَلَكُوا نفس الطّريق الذي يَضعُهم على قَدَم المُساواة مع "الإسلامانيِّين"؛ ولَنَهضُوا بمُقتضيات "الابتكار" و"التّجْديد" في إيجاد التّطْبيق المُناسب لمبدإِ «لا إكراهَ في الدِّين»: فإذَا كان لا يَصِحُّ شَرْعًا أنْ يُكْرَه النّاسُ على "الدِّين" بحيث يَخْضَعُون لما تراهُ أكثريّتُهم أو أقلِّيَّتُهم، فإنّه لا يُعقَلُ أن يُعَطَّل دينُ أَكثريّة المُجتمَع إرْضاءً لأقلِّيَّةٍ تَظُنُّ أنّ "الدِّينَ" كُلَّه لا غَناء فيه. والحالُ أنّ ما يُفْرَض على النّاس إِلْزامًا شَرْعيًّا وقانُونيًّا لا يَكُون إِلَّا نتيجةً للتّوافُق والإجْماع إمّا ﭐستفتاءً شعبيًّا حُرًّا وإمّا تَشْريعًا من قِبَل «صَفْوة المُجتمَع» في ﭐشتمالها الضّرُوريّ على "العُلماء" و"الحُكماء" و"الخُبراء"، وليس في ﭐقتصارها على أَشْتاتِ الانتهازيِّين مِمّنْ يَحترِفُون "المُزايَدة" تَسايُسًا أو تَعالُمًا أو تَشاعُبًا!
هوامش:
[1] اُنظر:- Secularism and its Critics, edited by Rajeev Bhargava, Oxford University Press, 1998, 550p.
[2] اُنظر:- Varieties of Secularism in A Secular Age, edited by Michael Warner, Jonathan Vanantwerpen and Craig Calhoun, Harvard University Press, 2010, 337p.
[3] اُنظر:- Rethinking Secularism, edited by Craig Calhoun, Mark Juergensmeyer and Jonathan VanAntwerpen, Oxford University Press, 2011, 311p.
[4] اُنظر: - Judith Butler, Jurgen Habermas, Charles Taylor and Cornel West, The Power of Religion in Public Sphere, Edited and introduced by Eduardo Mendieta and Jonathan VanAntwerpen, Afterword by Craig Calhoun, Culumbia University Press, 2011, 137p.
[5] اُنظر:- Matthew Sharpe & Dylan Nickelson (editors), Secularisations and Their Debates : Perspectives on the Return of Religion in the Contemporary West, Springer, 2014, 235p.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.