العلف هو الغذاء الذي يقدم للدواب. ويكتسب مفهومه من تقديمه لحيوانات أو طيور يجري تربيتها في منشآت محددة الشكل والمكان، كالمزارع والأسطبلات وأبراج الحمام. وكلها منشآت يسيطر عليها الانسان الذي يقدم العلف، ويعرف عدد من في داخلها وأماكن تواجدهم ويراقب حركة نموهم ووضعهم الصحي وأنماط سلوكهم. والأهم من كل ذلك، هو الذي يتحكم في أوقات تقديم العلف، وفي كميات العلف المقدمة، وفي نوعيتها. عندما تحدث مسؤول "اسرائيلي" عن تحديد عدد السعرات الحرارية التي يحتاجها كل انسان في قطاع غزة والسماح بادخال المواد الغذائية كماً ونوعاً طبقاً لذلك، كان ينطلق من هذا المفهوم بالضبط، وهو المفهوم ذاته الذي يقال أن ألمانيا النازية اعتمدته في اطعام السجناء في معسكرات الاعتقال. الأصل أن لدى الناس مياه شرب جارية على مدار الساعة، وعندهم تيار كهربائي لا ينقطع، ولديهم دواء يكفي لعلاج مرضاهم، ولديهم طعام متنوع وكاف اما مستورد او من ناتج محلي، وهذه الأمور هي من مسلمات الحياة المعاصرة. لكن عندما يتحول ادخال شاحنة وقود الى خبر، أو زيادة عدد ساعات التيار الكهربائي الى بشرى، أو توفر الخبز الى احتفال، أو توفر مياه صالحة للشرب الى انجاز، فان ذلك دلالة على أن نظرية العلف في أدق دلالاتها هي ما يحرك أصحاب القرار المتعلق بقطاع غزة. كميات الأدوية التي أرسلتها حكومة الحمد لله لقطاع غزة، أعلن عنها بشكل استعراضي، مما يؤكد أن من أرسلها ينطلق في تعامله مع أهل قطاع غزة من مفهوم العلف الذي يقدم لسكان المزرعة أو الزريبة. فلا يوجد في العالم حكومة تعلن عن ارسال كميات دواء لمواطنيها وكأنه انجاز أو خطوة تستحق كل هذا الاستعراض والثناء. بعد الحصار المشدد عليهم من قبل الاحتلال قبل سنوات، اجتاز أهل غزة الحدود الفاصلة بينهم وبين مصر بعشرات الآلاف، فعلق الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك بتصريحه الشهير قائلاً: "أنا قلت انه مفيش مانع ياكلوا ويرجعوا..."!! هو ذاته مفهوم العلف اذن. الأغرب هو ترويج الاعلام لهذا التصريح على أنه دليل انسانية وكرم ونخوة لا تعرف الحدود!! عندما يتصرف رئيس السلطة، المفترض أنه مسئول ادارياً عن مليوني مواطن في قطاع غزة بموجب اتفاق أوسلو الذي وقعه بيده في حديقة البيت الأبيض عام 1993، على أن رواتب 50 ألف موظف مسألة قابلة للمساومة واللعب والضغط والتوظيف في مماحكات السياسة القذرة، فهو دليل على أنه مقتنع بعدم حاجة هؤلاء الموظفين للرواتب أصلاً!! ألا يكفي أن هيئة المعابر التي يديرها أزلامه مع الاحتلال تدخل لغزة الطعام والشراب؟! فلماذا الرواتب اذن؟ هل سمعتم بدجاجة أو ثور أو أرنب أو حصان أو معزى تحتاج الى راتب لكي تعيش؟! ليس هذا كل شيء، فرئيس السلطة وحكومته والاحتلال من ورائهما لا يتعاملون مع غزة وفق نظرية العلف بمفهومها الزراعي التنموي المعاصر، فالمزارع والاسطبلات الحديثة مزودة بالكهرباء والتهوية والعلاج والنظافة على مدار الساعة، لكن سكان قطاع غزة تحكمهم في نظر السلطة واسرائيل نظرية العلف بمفهومها البدائي بقسوته وتخلفه. فان كان ولا بد من ادخال الوقود الكافي لتوليد الكهرباء، فلتكن كمية الكهرباء تكفي لابقاء الناس أحياء، وليس لممارسة حياتهم كبقية البشر. هل يوجد مكان في الكرة الأرضية غير معبر رفح و السجون والزرائب، تغلق فيه البوابة على مليوني كائن حي، ويمنعون من الحركة خارج بيوتهم وأزقتهم الضيقة بما يعني حرمانهم من العلاج والتعليم والعمل واللقاء بعائلاتهم والتواصل مع العالم؟! ثم يأتي السماح لعدد محدود منهم للخروج والعودة فقط لممارسة طقوس دينية يلتمسون فيها بعض الطمأنينة الكاذبة على حياتهم ومستقبلهم. هنا نظرية العلف تأخذ شكلاً سادياً مغرقاً في الوحشية حيث يعلن عن فتح معبر فح 3 ايام كل شهر أو شهرين، ويصور ذلك على أنه أريحية وكرم أخلاق وانسانية ما بعدها انسانية. عندما نرى نظرية العلف تحكم سلوك صانع القرار، أستحضر ما قاله لي مسئول احتلالي سابق مات قبل سنوات: "سنلقي بكم في البحر ولكن سنسمح لكم بالسباحة"!! حتى البحر يا خواجة...لم يعد صالحاً للسباحة.