أحيانا الطبيعة أرحم من الإنسان. حين يستحيل أو يتملص الإنسان من أداء واجبه تنوب الطبيعة فتعطي صورة عرضية لبرهة قصيرة من خلالها نستمر في الحياة. إنها شبيهة بجمجمة تناوب أهل الدرب على اغتصابها ، فأكلت أذنها فقلنا : سيَسمع صوتنا وصرختنا وسيَنصت إلى مطالبنا ، فأُصيب آكلها بصم لا يسمع لا من نداه من قريب ولا من بعيد ، ثم أُكلت عيناها فقلنا : هناك من سيرى هذا الدمار ويوَثق لهذا الإعصار بالصوت والصورة ويتجنب الأعذار ، فأصبح مكفوفا قاعدا لا يتحرك من مكانه إلا وكانت العصا بصره ، والثالث أخد لسانها فتلذذ بطعمه فقلنا : سيَتكلم بلسانها وسيحدثهم عن أخبارها وسيرفع شكواها ، فتلعثم وصار أبكما لا يتكلم ولا يحسن حتى لغة الإشارة ، أما الذي بحث عن المخ فنهشه قلنا : يا له من مفكر عظيم سيحسن النظرية ، وسيطرح حلا يجدي وينفع العامة ، ويفك رموز المسألة أو القضية ، فصار أحمقا لا يميز الألوان ولا يعرف الأرقام إذن فكيف سيستوعب أطراف القضية. تلك هي حالة قرية بين جبال الأطلس المتوسط لا تبعد إلا بحوالي 22 كيلومترا عن شقيقتها تيزي نسلي، تتقاسمان الهموم والمتاعب التي تزداد كل دقيقة. تأتي الطبيعة هذه الأيام فترحم قريتي لبرهة وجيزة فسترت عورتها وكست عظامها ومع ذلك فهي حزينة تتقاسم معها المتاعب والأحزان فتجمد الدمع الذي تذرفه على أوراق الأشجار وعلى عتبة الأبواب ومجاري المياه حتى الصخرة المتينة التي توسطت البلدة ثارت ضد الظلم والقهر الذي تحملته لأكثر من خمسين سنة انشقت غلى نصفين من شدة صرختها. حين استحال علينا نحن ابناء المنطقة توحيد الصفوف وتحديد المسؤوليات من أجل قفزة نوعية تجعلنا نتخطى العقبات والعراقيل. سندَع الأشجار والطيور والأحجار تنوب عنا لعلها تحضر من يفك عقدة لساننا وشلل أطرافنا. بكيت الطبيعة فأسدلت كسوتها وألبستها لباسا أبيض كأرملة لم تقضي بعد حِدادها وهي تمشي وقد أثقل أو أعدم النسيان تقدُّمها ، شوارعها ممزقة ، متشردة صغارها ومهجرة شبابها وعقولها ، قريتي لبست كفنا لكنها لم تدفن بعد فهل ستحيى من جديد حين تُشَمِّر الطبيعة ستارها؟