بيدرو سانشيز: إسبانيا تثمن عاليا جهود صاحب الجلالة الملك محمد السادس من أجل الاستقرار الإقليمي    قضايا المغرب الكبير وأفريقيا: المغرب بين البناء والتقدم.. والجزائر حبيسة سياسات عدائية عقيمة    مجلس الأمن: بلينكن يشيد بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    ألمانيا.. توجيه اتهامات بالقتل للمشتبه به في هجوم سوق عيد الميلاد    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة        دورية جزائرية تدخل الأراضي الموريتانية دون إشعار السلطات ومنقبون ينددون    تبييض الأموال في مشاريع عقارية جامدة يستنفر الهيئة الوطنية للمعلومات المالية    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    نادي المغرب التطواني يقيل المدرب عزيز العامري من مهامه    مقاييس الأمطار المسجلة بالمملكة خلال ال 24 ساعة الماضية    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    العرائش: الأمين العام لحزب الاستقلال في زيارة عزاء لبيت "العتابي" عضو المجلس الوطني للحزب    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    سويسرا تعتمد استراتيجية جديدة لإفريقيا على قاعدة تعزيز الأمن والديمقراطية    ترامب يهدد باستعادة السيطرة على قناة بنما على خلفية النفوذ الاقتصادي المتنامي للصين    هجوم ماغدبورغ.. دوافع غامضة لمنفذ العملية بين معاداة الإسلام والاستياء من سياسات الهجرة الألمانية    تفكيك أطروحة انفصال الصحراء.. المفاهيم القانونية والحقائق السياسية    مجموعة بريد المغرب تصدر طابعا بريديا خاصا بفن الملحون    المجلس الأعلى للدولة في ليبيا ينتقد بيان خارجية حكومة الوحدة ويصفه ب"التدخل غير المبرر"    الأمن في طنجة يواجه خروقات الدراجات النارية بحملات صارمة    الأستاذة لطيفة الكندوز الباحثة في علم التاريخ في ذمة الله    السعودية .. ضبط 20 ألفا و159 مخالفا لأنظمة الإقامة والعمل خلال أسبوع    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    إسرائيل تتهم البابا فرنسيس ب"ازدواجية المعايير" على خلفية انتقاده ضرباتها في غزة    المغرب أتلتيك تطوان يتخذ قرارات هامة عقب سلسلة النتائج السلبية    أمسية فنية وتربوية لأبناء الأساتذة تنتصر لجدوى الموسيقى في التعليم    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    سابينتو يكشف سبب مغادرة الرجاء    الممثل القدير محمد الخلفي في ذمة الله    الدرك الملكي يضبط كمية من اللحوم الفاسدة الموجهة للاستهلاك بالعرائش    التقلبات الجوية تفرج عن تساقطات مطرية وثلجية في مناطق بالمغرب    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    توقيف شخص بالناظور يشتبه ارتباطه بشبكة إجرامية تنشط في ترويج المخدرات والفرار وتغيير معالم حادثة سير    علوي تقر بعدم انخفاض أثمان المحروقات بالسوق المغربي رغم تراجع سعرها عالميا في 2024    جلسة نقاش: المناظرة الوطنية للجهوية المتقدمة.. الدعوة إلى تعزيز القدرات التمويلية للجهات    بطولة انجلترا.. الإصابة تبعد البرتغالي دياش عن مانشستر سيتي حوالي 4 أسابيع        دراسة: إدراج الصحة النفسية ضمن السياسات المتعلقة بالتكيف مع تغير المناخ ضرورة ملحة    بريد المغرب يحتفي بفن الملحون    اصطدامات قوية في ختام شطر ذهاب الدوري..    العرض ما قبل الأول للفيلم الطويل "404.01" للمخرج يونس الركاب    جويطي: الرواية تُنقذ الإنسان البسيط من النسيان وتَكشف عن فظاعات الدكتاتوريين    مؤتمر "الترجمة والذكاء الاصطناعي"    كودار ينتقد تمركز القرار بيد الوزارات    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أشباح الليالي الظلماء.

دس يده تحت المقعد وسحب المقبض إلى أعلى فتداعى جسده إلى الخلف، و لم تلتقط عيناه سوى ظلال أرقام الساعة الإلكترونية .خمس دقائق تفصله عن منعطف آخر في حياته بعد أن ملّ الطريق الخطي الخالي من منعرجات اقتنع بضرورتها للتغلب على رتابة كادت تحوله إلى كتلة غباوة لطالما سخر من رؤيتها تتلبس الآخرين.كانت عيناه نصف مغمضتين, لكنه تمكن من رؤية نويرات أزهار الميموزا تتساقط متراقصة من على شجرة انتصبت أمام السيارة.
-طبيعي أن ينشب الضجر مخالبه في روحك..نصيحتي إليك، حاول أن تبتعد عن بيت العائلة، و ستر حينها سوف يصفو ذهنك و سيغدو بإمكانك رؤية العالم في حقيقته.
وصية نبيه قبل أن يسافر لاستكمال دراسته خارج البلد،لا تني تومض في ليل ذهنه.
ها هي ذي الآونة الفرصة تفتح له ذراعيها بعدما كلفته الشركة بتتبع أشغال بناء مارينا جنب قرية الصيادين، و ها هو الآونة على وشك اكتراء شقة مفروشة جنب الشاطئ.
...سوف...سأمر على متاجر مرجان...كرتونة نبيد نابوليون اللذيذ...كرتونة هينيكن ...نادين و الأصدقاء جميعهم.الاسترخاء و تمرينات اليوغا الملكية و الجوغينغ في الصباح الباكر و جمع قواقع البحر و الباربكيو و السمك الطازج ...الالتزام ببرنامج حياة مدروس بعناية فائقة ... المووسسيقى ...نيرفانا و بريان آدمس و لويس أرمسترونغ ..آه...لويس آرمسترونغ ... ماذا أيضا ...؟...دهمته غفوة استيقظ إثرها على أمل أن تكون قد انتفت الخمس دقائق التي استعذبت تعذيبه و في اللحظة التي ظن فيها أنه ولج من جديد النفق المؤدي إلى مغارة النوم أيقظته فكرة مرعبة،فكرة أنه ربما يحلم....تمطط في مكانه فانشبكت إحدى قدميه بدواسة الفرامل، أحس بألم عابر ...لا ...لم يكن ذلك حلما..لا..
من بعيد لاحت سيارة رونو 4 قادمة من الاتجاه المقابل وسط غيمة من الغبار .حين أيقن أنها سيارة السمسار أحس برعشة غريبة تسري عبر كامل جسده.
...تم كل شيء بسرعة فائقة...هكذا هي لحظات الانعطاف كما كنت تصفها...تذوب في محلول لحظة الانبهار...يرفض الذهن المعذب قبول هدايا الأيام.أليس كذلك ؟
الشقة جميلة كما تصورتها بالضبط،و مالكة المنزل طيبة و لو أن حزنا شفيفا و آسرا استشعرته يطفو في عينيها ،و يوحي بأنها عاشت معاناة عديدة ربما تتاح لي مستقبلا فرصة معرفة خباياها.
لا تقطب حاجبيك، أنا الآن ثمل.ثلاثة أيام مرت في سكينة و طمأنينة،و قد كانت كافية لأن أستأنس بالمكان رغم أن الحنين إلى هرج بيتنا شرع يتسلل في شكل شعور بوحدة قاتلة كنت أحن إليها فيما مضى و ها حواسي الآونة لا تطيقها .نعم...صدق أو لا تصدق...أظن أن التغيير يستلزم وقتا حتى نستأنس به أليس كذلك؟
نعم.كان صادقا، إذ في الأيام الأولى،لم يلتزم بالبرنامج الذي خطه في مذكرته ؛يذهب صباحا إلى عمله و لا يعود إلا في وقت متأخر بعد أن يمر على الحانة التي كان يرتادها فيما سبق و حتى إذا عاد مبكرا يمر على مقهى الصيادين حيث ينهمك في لعب البيلياردو إلى أن تناديه جنيات النوم، كما لو أنه يتهرب مما كان يشوق إليه أيام كان يعيش في كنف أسرته.
في منتصف الشهر كان مرتب الشهر المنصرم يستحيل بضع وريقات من فئة العشرة دراهم و تعاوده من جديد تلك الحالة من الانقباض و الحزن . الكآبة نفسها التي ظن أنه تخلص منها حين جاء الى قرية الصيادين...
في الوقت الذي خلت فيه أن الحياة ستأخذ مجراها،سأصاب بخيبة أمل لم أكن أتصورها بل أكثر من ذلك سيتبين لي فيما بعد أن الحياة ليست بالسهولة التي نتخيلها.
في تلك الليلة – و كانت ليلة سبت - زارني سامي رفقة مها و اصطحبا نادين –تعرف طيبة سامي-،كانت سهرة ممتعة ،رقصنا بمرح و أتينا على كرتونة من جعة الهينكن اللذيذة و...و رغم رفض الفتيات المبيت ،كانت، كبداية، سهرة رائعة.بعدما ودعتهم اندسست في الفراش مباشرة من فرط الإرهاق و كان النوم قد داعب جفني حين تناهى إلى مسمعي نشيج كتيم من جهة المطبخ .استغربت و ظننت الأمر مجرد هلوسة.بعد برهة ، أزحت عني الغطاء و اتجهت نحو مصدر الصوت.كان قد انخرس و انكتم فور دخولي المطبخ.نسيت أن أخبرك بأن مالكة البيت ممرضة متقاعدة و تسكن في الطابق الفوقي لكن باب بيتها يوجد في الزقاق الخلفي،و قد كنت أسمع طقطقة خطواتها مرات عديدة،خاصة في الليل، و هذا ما جعلني أظن أن النشيج إياه صدر من هناك خاصة و أن الأصوات بالليل تصبح واضحة.لم أعر للأمر اهتماما فقد كنت مرهقا حينها،كانت هذه الحادثة الغريبة ستعتبر عادية و ستغور في كهف النسيان، كغيرها من الأحداث الصغيرة التي تحدث للمرء مرارا و تكون نتيجة استيهام قد يولده الإرهاق أو شيء آخر،لولا ما حدث في اليوم الموالي.
ما حصل في اليوم الموالي و حسب ما رواه لي حين زرته في المشفى أعتبره ضربا من الاستيهام الذي يسبق عادة الهلوسة، و ربما تحت تأثير مؤثرات تربيته المحافظة يحاول ربطه بخوارق جهد محاولا إقناعي بإمكانية وقوعها مغلفا تفسيره بعدم قدرة العلوم في الوقت الحالي على تأكيدها.
في نفس اليوم الذي استلم فيه مرتبه و مر على متاجر مرجان و اقتنى ما اقتناه حسب برنامج قال أنه حدده في أول الشهر، دخل إلى البيت فوجده قد وضب في غيابه، الأغطية طويت ووضعت بعناية على حافة السرير و ثيابه التي تركها ملقاة ف يزوايا الغرفة رتبت هي الأخرى ووضعت فوق الأغطية، وحتى الأواني تم غسلها بينما أعيدت القنينات الفارغة إلى الكرتونة .التبس عليه الأمر و ارتبك بيد أنه صرف النظر بعدما تراءت إليه فرضية أن مالكة البيت هي من يحتمل أن تكون قد دخلت البيت.امتعض من ذلك التصرف و أنت تعرف أنه لا يحب أن يعتني به أحد – تذكر غرفته أيام كنا نهيئ لامتحانات الباكالوريا في ذلك العام الذي يبدو و كأنه البارحة.
...بعدما ملأت الثلاجة بقنينات النبيذ دخنت سيجارة ثم اتجهت مباشرة إلى الزقاق الخلفي عازما على الاحتجاج لديها.دفعت بابا خشبيا يطل على بهو صغير.على اليمين كانت هناك شقة ذات بناء مستطيل تبدو كزنزانة و كان قد أخبرني السمسار أنها تكترى لليلة أو ليلتين فقط.بعد برهة لمحت زر الجرس مدسوسا وسط الأعشاب في الباب المقابل للباب الخشبي .حين ضغطت عليه سمعته يرن في الطابق الفوقي فأيقنت أنه يعمل .بعد برهة انفتح الباب على ابتسامة مالكة البيت.
-كيف حالك، آمل أن تكون قد استمتعت بشقتك...
أحسست باطمئنان في لهجتها لم المسه خلال لقاءنا الأول. أديت لها واجب الكراء فناولتني بسرعة توصيلا و ابتسامة و حين هممت بإثارة مسألة دخول البيت في غيابي قاطعتني بصوت مبحوح.
-أنا في الحقيقة لا أكري البيت للشهر ...مسألة حساب أرباح لا أكثر ..تمليت سحنتها مليا و هي تتكلم بسرعة .لم أقو على مقاطعتها فاستسلمت لثرثرتها.علمت أن لها أربع شقق مفروشة و أن الشقة الملعونة التي أقطنها كانت و قبل مجيئي بثلاثة أشهر مسكنا لطبيب شاب ...حين يئست من هدرها و تلويحها بيدها ممسكة بمحفظة جلدية امحت صفحتها السوداء ،قاطعتها بنبرة حادة .
-سيدتي.أرجوك ،فقط أود إخبارك أني لا أحب أن يدخل أحد بيتي .أقصد الشقة في غيابي حتى للتنظيف...
انطلقت من جديد و بدت و كأنها كانت حبيسة زنزانة انفرادية مند أمد بعيد.
-الشقة ،لا ،التنظيف لا ،لم نتفق على ذلك،خلال الصيف تكون القرية آهلة بالمصطافين و أنا لا...
-سيدتي ،قلت فقط...
-فهمت لكن أنا، الكل يعرفني ...أرادت أن تسترسل لكني قاطعتها بعد أن أيقنت أنها حالة ميئوس منها فعلا.
-باي سيدتي.قلتها و أنا خارج البيت.
قفلت راجعا إلى الشقة و ما عساني أفعل مع كائنة من هذا النوع.مكانها في الحقيقة غرفة في الساناتوريوم.
يجب توخي الحيطة و عدم الانسياق وراء كل ما يقوله... ...
...كانت السنة النار تتراقص و الخشب يحترق باعثا دفئا ناعما في الصالون و من حين إلى آخر كانت جمرات واهجة تتفرقع ممزقة سكون ذلك الليل البارد.أزاح نبيه كوم الأوراق و أردف.
-معك حق ،رسائله الأخيرة جعلتني أعيد النظر في كل ما قاله...
الظلام المغبش بأنوار ألسنة النار المتراقصة في المدفأة كان يغري بالسهر.رنوت إلى أيقونة بودا الجالس في وضع زهرة اللوتوس بدت لي تظهر و تختفي و ظلال النار تداعبها من حين إلى آخر .وحده ذلك التعيس الذي أنهى حياته بتلك الطريقة الفاجعة نفتقده، أنا و نبيه، في هذه اللحظة الهادئة.
...بعدما عدت إلى الشقة أقفلت الباب بالمفتاح من الداخل و رحت أهدهد انفزاعي بتهيئة المزة أما الأكل فقد كنت أجلبه معي من المدينة.أتذكر جيدا تفاصيل ما وقع في تلك الليلة إذ و أنا في أوج ثمالتي أجر جسدي عبر زوايا الشقة معيدا ما رتبته يد تلك التي تناهى إلي نشيجها في الليلة التي زارني فيها سامي و الفتيات, داهمني إحساس غامض.لم أفهم حتى اللحظة أي قوة أوحت لي بفكرة البحث في جيوب ثيابي و هذا ما زاد ايماني بتلك الظواهر التي كنت دوما أعجز عن تفسيرها حين أعتمد على منطق العقل .تصور نبيه .في جاكيتتي السوداء التي أهديتنيها في عيد ميلادي ،العام الفائت. و جدت ورقة في جيبها الداخلي. ورقة طويت و طويت إلى أن صارت في حجم تذكرة الباص 33 . مكتوب عليها مايلي :
أنا التي نظفت شقتك، سامحْني، بدوت في حاجة إلى من يعتني بك...
صحوت نعم صحوت رغم أني كنت شبه" كنوك أوت٭" حينها.لبثت مدة طويلة انتظر ظهور،ها و أحيانا أحاور روحها التي كانت كل حواسي تخبرني أنها تعيش هنا في هذا البيت كنت أحس بوجودها في زاوية ما من البيت.حين يئست رحت اكلم الفراغ و قد سيطر علي شعور غامض أوحى لي أنها كانت تسمعني لكن قوة ما كانت تمنعها عن الإجابة .لا ادري كم من الوقت مضى حين أحسست بالملل فتهالكت فوق السرير دون أن أغير ثيابي .حين أغمضت عيني دافنا رأسي في الوسادة داهمتني الطيارة٭ .كان شريط الحياة يمرق بسرعة فائقة و،لمحت الأطفال يركضون عبر الأزقة و سيارات الجيب الرمادية و الرصاص و الدم و المزابل و الأشلاء تتطاير في الهواء تحت ضوء الشمس و المراحيض و الصراخ و العويل و الأكفان و المقابر الجماعية و أحواض السباحة و حقول القمح و النيران تشتعل فيها و الحيوانات تفر مذعورة ...و...و...و أنا أترنح قاصدا الحمام، و في منتصف المسافة انقدفت من جوفي كل تلك الصور الكابية و في تلك اللحظة البرقية بالضبط انتصب شبحها أمامي.
...كانت قبالتي على مبعدة مترين تقريبا ،خلت نفسي في عالم آخر له ابعاده و معالمه الخاصة.كانت ترتدي فستانا أزرق و شعرها أسود فاحم ينسدل على كتفيها مؤطرا وجها أبيض بدا لي مألوفا في تلك اللحظة، كانت تريد التفوه بشيء ما لكنها لم تتمكن إذ سرعان ما اختفت من جديد، و قبل أن يتبدد جسدها لمحت في عينيها نظرة حسرة شبيهة بتلك التي أراها في عيني والدتي كلما ولجت البيت ثملا.جاوزت بقعة القيء، و ولجت الحمام، أبليت وجهي بالماء ثم عدت مباشرة إلى السريرحيث نمت حتى الصباح.
و في الصباح و قبل أن تنفتح عيناي و تستيقظ حواسي لتلفي أنفسها تحت رحمة صداع الرأس و نتوء تلك الصخرة في الحنجرة و رائحة الجوف الحامزة ،في تلك اللحظة بالذات، سأتلقى طلقة الرحمة...اقتعدت فوق السرير بعد لأي و جلت ببصري في أرجاء الغرفة و قد كانت أشعة الصبح الأولى قد تسللت عبر ستائر النافذة و انتشرت بقعا في أرجاء الغرفة.بصعوبة أنهض دماغي جسدي فاتجهت مباشرة صوب الليفينغ روم و قبل أن أصل إلى هناك انتبهت إلى عدم وجود القنينات و الورقة في أمكنتهم فوق المائدة التي تتوسط الأرائك,بيأس التفت نحو البهو المفضي إلى الحمام.بقعة القيء التي كانت هناك اختفت و لم يعد لها أثر.أيقنت في تلك اللحظة أنها انبثقت أثناء الليل و نظفت المكان بتلك العناية التي نظفت بها في المرة الفائتة.لم أتذكر ما حصل بعد ذلك إذ كانت قد استبدت بي حالة من الهلع و الارتباك لم أشعر بها في يوم من الأيام.لم أع إلا و أنا في طريقي إلى بيت العائلة بعدما تناولت فطوري بسرعة في مقهى الصيادين.في بيتنا حدث شيء غريب.نظرة الحسرة الممزوجة بالشفقة التي لمحتها في عيني تلك الكائنة الهلامية التي قلبت حياتي رأسا على عقب ،قابلتني بها والدتي ...
-أظن أن الوقت قد حان لنتناول العشاء...
تمطط نبيه في الصوفا و تطلع إلى الإطارات حيث صور الماضي و لبث مركزا نظراته عليها ثم كما لو أنه وجد فيها تفسيرا لمأساة إلياس الغامضة، التفت في اتجاهي و قال مستعينا بابتسامة مريرة حطت على شفتيه فجأة.
- نعم معك حق ،أحس بجوع شديد رغم أني عادة لا أجوع في مثل هذا الوقت المبكر من الليل ...
تناولنا وجبة خفيفة طهوتها بسرعة. لحم مفروم بسلطة طماطم .لم نتحدث كثيرا كان كلانا يحاول أن يستنبط لوحده شيئا ما من محتوى الرسائل و قصاصات الورق التي اعطانيها قبل موته بتلك الطريقة الفاجعة.
و أنا أرنو إلى النار تلتهم على مهل الخشب في المدفأة ممسكا بكأس الويسكي ومضت الفكرة في ذهني.
-يمكن أن يكون هو من نظف البيت في الليل إثر خوف باطني من والدته أو يكون قد تعود على...
-تريد أن تلمح إلى بلوغ ازدواجيته مرحلتها العصابية و استحال عليه بالتالي إدراك ما تفعله شخصيته الأخرى..
- نعم ،شيء من هذا القبيل و هناك نماذج كثيرة هوت إلى هذا الدرك ...خاصة عند المدمنين على الكحول...
انحنى نبيه على المائدة الخفيضة و أمسك بقنينة الشيفاز التي اقتناها من الطائرة و سكب سائلها في الكأسين حتى منتصفهما و قال و هو يضع قطع الثلج بحذر عهدناه فيه منذ أيام الدراسة.
-على أي أكمل و سنرى أن كلانا مخطئ في فهم إلياس، خاصة حين ستوضح حكاية تلك الكائنة الشبحية...
...في بداية الأسبوع اتخذت قرارا بتكريس جل وقتي لاستكناه غوامض ما حصل.انعزلت تماما عن العالم و كروبوت مبرمج على اكتشاف خيوط جريمة رحت أبحث عن أي مصدر من شأنه أن يمدني بأخبار عن البيت و مالكته و ساكنيه الأوائل .
تمكنت بسرعة من جمع معلومات كانت بمثابة الفانوس الذي سيضيء طريقي في ذلك الكهف المظلم.
صديقي مصطفى الصياد أخبرني عن فتاة كانت تشتغل عند الممرضة المتقاعدة و قال أنها كانت تدعي أنها ابنتها لكن بعد أن غادرت الأخيرة القرية تبين أنها كانت تتبناها فقط.بسرعة و لا أدري مبعث تلك السهولة التي جعلتني أستنتج أن الفتاة التي اقتحم شبحها حياتي هي نفسها الفتاة التي كانت تشغل خادمة عند الممرضة .
سأعلم كذلك من أحد الحراس الليليين بأن الطبيب الذي سكن هناك كان أعزب ،إضافة إلى تلك الحادثة بين الطبيب و مالكة البيت التي لاكها سكان قرية الصيادين لمدة طويلة ،ففي إحدى الليالي و بعدما ثمل نشب بينه و بين الممرضة المتقاعدة شجار وصل إلى حد الضرب و الجرح و قد تبين لدورية الدرك التي صودف أن مرت في تلك الليلة أنها هي الأخرى كانت سكرانة و يشاع أن المسألة قد سويت عن طريق التصالح بعد تدخل أحد الهواتف ،و هذا ما جعل رياح الشك تعصف بشراع ذهني...
في بداية الأسبوع اتخذ قرارا بتكريس جل وقته لاستكناه غوامض ما حصل .كان قد حدس أن الأمر يتعلق بعملية قتل تسترا على علاقة جنسية غير شرعية أدت إلى الحمل أو شيء من هذا القبيل ,و هذا ما سيتوضح جليا ليلة الخميس من ذلك الأسبوع .سهرت في الليفينغ روم مسليا وحدتي بإشعال أضواء الغرف و التجول من حين إلى آخر عبر أرجاء البيت،أنتظر بفارغ الصبر ظهور تلك الكائنة الشبحية –اسمها آية حسب معلومات مصطفى الصياد.
جاءت أو انبثقت أو ظهرت-عجز أفعال اللغة الوضعية-.نتأت كحلم في سماء دنياي في الهزيع الأخير من الليل.حلم أو كابوس،رؤيا يصعب تحديدها في هذا الزمن المتقلب.
تناهى إلى مسمعي صوت طقطقة كتيمة فأطفأت الركوردر مباشرة و نهضت مسرعا إلى البهو و سرعان ما سمعت النشيج ينبعث من جهة المطبخ .تسرب الخوف في تلك اللحظة إلى نفسي ,لكني ربطت جأشي و تقدمت صوب المطبخ الذي كان في عمق البهو قبالة المرحاض.حين بلغت مدخل باب المطبخ الذي كان مشرعا على مصراعيه ،رأيتها قابعة في زاوية و بين أحضانها رضيع عار في الساعات الأولى لولادته و ترفع يديها احتماء من شيء ما .حين هممت بالتقدم و رغم الفزع الذي استولى على روحي حينها ،لم أتمكن .بدا و كما لو بيننا جدار هلامي غير مرئي .استمر هذا المشهد مدة لم استطع تحديدها,كانت خلالها تظهر و تغيب و في إحدى اللحظات أشارت بيدها إلى جهة الحمام و جاهدت كيما تنطق بسر ما...من خلف ذلك الستار اللامرئي حثتها على أن تفشي ما ودت افشاءه ...و بدا أنها كانت تقاوم قوة جبارة كانت تمنعها من قول ذلك السر, و قد نجحت بفعل اصرارها ،قبل أن تختفي التقطت اذناي كلمة ...الطرادة...قالتها بالفرنسية"لا شازل" وأشارت بيدها إلى جهة المرحاض ثم اختفت ...دون أدنى تردد اتجهت نحو المرحاض . نصف ساعة و لم اعثر على شيء ،توقفت برهة حتى استرجعت أنفاسي ثم واصلت البحث,رفعت غطاء الطرادة للمرة العشرة و حين لم أجد شيئا صعدت فوقها و رحت ابحث في جوانب أنبوب صرف كان يخترق سقف المرحاض. في لحظة انعدام توازن خفضت رأسي محاذرا السقوط فوقع بصري عل حفرة صغيرة في أسفل الطرادة.نزلت مباشرة.حين دسست أناملي اصطدمت بورقة مدعوكة و مدسوسة في أسفل الحفر,كانت ورقة رسائل...
أحبك و سنتزوج حالما تستقر وضعيتي...
تبين لي بعدما قارنت الورقتين أنها كتابة الطبيب،وأن الفتاة كانت ضحية جريمة قتل خوفا من الفضيحة و ربما حتى الممرضة متواطئة و ما إصرار تلك الكائنة الشبحية على أن أكتشف الورقة إلا لاستعمالها كدليل يساعد على كشف الجريمة...
نمت في هدوء تلك الليلة رغم كل ما تعرضت إليه،وكان لما ظهر من حقيقة وقع البلسم على قلبي ،وقبل أن أنام كنت قد اتخذت قرارا بالقيام بتحريات و فكرت ان ابدا بالاتصال بالطبيب صاحب الرسالة.نمت مخفيا الورقة في جيب سترتي الداخلية و قد وجدتها في مكانها صباح اليوم الموالي.بدا لي ظهورها و أنا أستيقظ توسلا كيما أكشف عن حقيقة هي عاجزة عن كشفها لأنها هناك في ذلك العالم الأخر الذي يفصلني عنه ذلك الجدار الهلامي...
-إننا هنا أمام شبح يشبه تماما أشباح الأدب الغرائبي...
-أجل الأمر يشبه نسجا غرائبيا و هنا ربما مفتاح كتابته بعض الأوراق بضمير الغائب،و أخرى بضمير المتكلم.تتذكر ولعه بالكتابة أيام الدراسة...
تزحزح نبيه في مكانه و استوفز كما لو أن شيئا ما ومض في ذهنه.
-تزامن مرضه مع استيقاظ حلمه بالكتابة.قال ضاغطا على الحروف و تابع...هذا هو التفسير الوحيد، ربما، لكل هذه المربكة ،و أنت تلاحظ و رغم الأوراق المبعثرة أن هناك تناسقا في الأحداث .
-إن الذي يضللنا هو محاولتنا وجود تفسير لظهور الشبح و الذي قد يكون من نسيج خياله الحالم بالكتابة هذا عوض أن نبحث عن سبب تزامن هذا النتوء الشبحي مع التغيير الذي طرأ في حياته و لم يكن بميسوره استغلاله...
سلم مفاتيح البيت إلى الممرضة و عاد إلى رتابته و ضجره المعتاد و لم يستسغ انهزامه فآثر الانتصار عبر الانتحار إذ من الصعب استبدال نظارات بعد أن ألفت شبكة العين نظاراتها الأولى.إن الأمر يشبه الفطام تماما و الصعوبة قد تتحول استحالة إذا كانت الألفة قد تجدرت بين شبكة العين و النظارات.
هذا ما تراءى لي بعدما قررت أن أقبض ثمن سكوتي.و هاأنا الآونة أتخلص من ماله القذر في هذا الفندق الساحلي بعيدا عن ضجر المدينة و كآبة بيت العائلة.أود أن أنسى و سأنسى بقوة الشيفاز و اللامبالاة .هل سأتمكن،سأنجح أم لا؟ليس السؤال مهما في هذه اللحظة.؟
كانت هذه بداية دخوله الخطوط الحمراء أو بداية مرحلة يأس قاتم ستقوده إلى الانتحار بتلك الطريقة الفاجعة،فقد وجد مخنوقا بسلك نحاسي في غرفة المشفى و هذه الورقة مرمية تحت قدميه.
رأيت الحقيقة حين رغبت في رؤيتها ,لكني كنت أجبن من أن أكمل مشوارا كان من شأنه أن يبعث دفئا في روحي يقيني برد هذا الصقيع.أمل.معنى حقيقي للحياة.لكني فشلت و ها أندا أعانق ألامي .أضمها كعشيقة أتحسس دقات قلبها تنبض في روحي. أنا و الفراغ و اللاشيء .غابت ،أغرتها الرياح الغربية.خدعتها ،طوتها تحت أجنحتها و سافرت بها بعيدا و ها أنا ذا أتهيأ للالتحاق بهم...
-كلمات مؤثرة حقا.حصلت عليها بعد جهد لقاء خدمة أسديتها إلى ضابط الشرطة الذي كلف بالتحقيق في الملف...آه..نسيت أن أخبرك أن والدته وجدت في جيب بنطلونه وصلا يشير أنه استلم مبلغا لا بأس به..
-قد يكون من مدخراته أو مجرد صفقة ما...إسمنت أو...لا أظنك ستصدق حكاية الطبيب و الشبح...
-لا...على أي .الوقت متأخر و غدا عليك الاستيقاظ مبكرا حتى تكون في المطار عند موعد إقلاع الطائرة في الساعة التاسعة و النصف...


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.