أنفقت «ليلى» نصف الليل تقريبا وهي تتقلب فوق السرير الخشبي المركون في الغرفة التي استأجرتها بالطابق الثاني في أحد المنازل بمنطقة ليساسفة بالدار البيضاء. استعصى عليها النوم وظلت عيناها مفتوحتين رغم انحناء رأسها من شدة النعاس. سحبت عود ثقاب من علبة مركونة إلى جانبها وأشعلتها. على ضوء عود الثقاب لمحت عقارب ساعتها.... الخامسة فجرا، فقامت لتصلي وتستعد لأطوار رحلة سيزيفية جديدة تبدأ منذ بزوغ خيوط الصباح الباكر. ليلى والذئب منذ ذلك اليوم المشؤوم، يوم احترقت فيه صديقتها حنان بمصنع «روزامور»، وهي تحاول أن تقنع نفسها بأن النوم ضروري وواجب ولا سبيل لا إلى الأحلام ولا إلى التفكير... فقط النوم والراحة والاستسلام لرغبات «الشاف حمد». كانت ترغب في النوم ولا ترغب به في الآن نفسه، فقد كانت منهوكة القوى بسبب السفر اليومي من بيتها، أو غرفتها، إلى مصنع النسيج الذي تعمل به منذ أن غادرت بلدتها النائية بنواحي بني ملال قبل خمس سنوات. تقول بتلكؤ «تعبت من كل شيء من العمل ومن تهكم صاحب المصنع، ومن تحرش الشاف حمد بدرجة أكبر». ألهبت جلدتها الطرية أشعة الشمس الحارقة المنعكسة على بلور نافذة متآكلة بالغرفة. وكانت عيناها متورمتان لشدة الأرق وقلة النوم، وهي لا ترغب في النوم خشية الاستغراق فيه فيفوتها الوقت صباحا، بل فجرا، إذ عليها أن تصطف منذ السابعة على الأقل مع من يصطف في الطابور المعتاد أمام باب مصنع النسيج بليساسفة. الطابور الذي طالما سخرت من المصطفين فيه ولعنتهم كلما مرت إلى جانبهم، لكنها لا تجد بدا من الهلاك تعبا وإرهاقا من أجل أن تحصل على مكان متقدم في ذات الطابور. «هكذا هو الزمن، ما نعتقده تافها ولا قيمة له يصير بمرور الوقت مصيرنا مرهونا به»، تقول ليلى، التي نالت حظا من التعليم دون أن تستطيع مواصلة الطريق لضيق ذات اليد، قبل أن تردف: «هكذا هي البلاد بقدر ما نحبها بقدر ما نتمنى الرحيل عنها». هذا هو حال غالبية العاملات القاطنات بمنطقة ليساسفة التي لا أمر فيها يحنو على منعطفات الروح سوى الغبار والهباء، ولا جرى فيه نبع وطال ولا أورق على جنباتها أخضر... منطقة يباب لا تنبت غير الرحيل. تختلط الروائح النتنة في ثقبي أنف كل والج ل«شبه البيت»، الذي تقطن فيه ليلى رفقة عاملات أخريات قدمن من نقاط بعيدة، إلى أن تسري في كامل جسده، بقايا دجاج تحت السرير، رائحة فراش اكتظ بمستعمليه الليليين حتى استحال خرقة سوداء، ورائحة التجاويف والنتوءات البارزة على امتداد الجدران الأربعة المتآكلة تفوح كلها في الغرفة الضيقة الواطئة، حتى أرضيتها كانت لزجة طرية الملمس لكثرة السوائل المنسكبة عليها. وكيس بلاستيكي أسود اللون محشو بالجوارب والقمصان المختلفة الألوان. رائحة الموت في تمام السابعة والنصف كانت ليلى أمام مدخل المصنع. تنفست الهواء الجاف ملء صدرها وهي ترفع رأسها نحو السماء. سماء خالية من الغيوم، لا تزال مخرمة بدخان النيران التي حولت الحي الصناعي نهاية الأسبوع الماضي إلى محرقة حقيقية مليئة بالسواد الحالك. مضت ليلى رفقة زميلاتها تسرع خطاها في الزقاق الضيق وهي تدس تحت إبطها كيسا محشوا ببعض الأغراض. خيل إليها وهي تسارع الخطى أنها تسمع وشوشة زميلتها حنان العاملة السابقة بمعمل روزامور، تسألها عن وقت تحصيلها للجمعية «دارت» التي انخرطت فيها عشر عاملات ويتناوبن عليها كل أسبوع، أو هكذا تناهى لها الصوت المنبعث من بعيد. مدت عنقها بين جنبات الطريق لكنها لم تجد غير رائحة الموت تعج بالمكان. واصلت خطواتها المتسارعة إلى أن توقفت في أحد المنعطفات. أمام باب المصنع انتصب عمال وعاملات أمام طاولة فوقها موقد يغلي على ناره سطل حديدي تناصف بيضا. ألقى أحد العمال بيضة مسلوقة في جوفه ومضى يمسح فمه بظاهر يده اليمنى ويسحب باليسرى علبة السجائر من جيب قميصه. أشعل واحدة ومضى يدخنها بشراهة وباطمئنان من أكل بما فيه الكفاية ليقاوم مفعول التبغ على الخواء، وهو يستطيب رائحة الأفران و«المقاهي المتحركة» المنبعثة من مداخل الأزقة الضيقة. «الحگرة» قبل أن تصل ليلى إلى باب المصنع، اعترضت سبيلها عاملة من إحدى صديقاتها: «الله يعاونك»، قبل أن تضيف «والله مابقينا قادرين نخدمو، الزمان هالكنا وحتى البشر ماص عرقنا وما قنعش». قالتها العاملة وعادت تحني ظهرها في انتظار فتح الباب. دلفت ليلى وهي تتبع حركة المارة في اختلاف اتجاهاتهم. أغلبهم كانوا نساء، إنهن عاملات المصانع أو منظفات المؤسسات والشركات الخاصة يتناثرن كل فجر فوق الأرصفة والشوارع... «ماذا يفعل الآن صاحب المصنع أو مدير الشركة؟» تتساءل إحدى صديقات ليلى بتهكم. «الأكيد أنه يدندن بلحن شرقي تحت ماء الدش الساخن المتدفق على جسده الممتلئ برائحة إحدى عشيقاته في أحد النزل البحرية... هذا مؤكد». قبل أن تضيف، «هو زير نساء ونتفاداه حتى ونحن غارقات في رائحة العرق من طول ساعات العمل». تقول ليلى: «الظروف التي عاناها عمال مصنع روزامور هي نفسها الظروف التي يعانيها جميع العمال، فأرباب المصانع جشعون ولا يدفعون لنا إلا القليل، أكثر من ذلك نحن نعمل بعقود مؤقتة نضطر إلى تغييرها كل ستة أشهر». وتضيف زميلتها: «نحن غير مسجلين في صناديق الضمان الاجتماعي، ولا تغطية صحية لدينا، والأجر الذي نتلقاه علينا أن ندبر منه كل شيء لنا ولعائلاتنا». تعمل ليلى طوال أيام الأسبوع، وعلى الرغم من ذلك فأجرها لا يتعدى 1500 درهم في أحسن الأحوال. تقول بحنق: «لا خيار لدي غير الصبر، الصبر على الواجهتين على التعب وعلى تحرشات «الشاف حمد»، الذي سأقتله يوما بكل تأكيد». زهور تؤكد أن لديهم الحق في نصف ساعة فقط للغذاء، فيها يتناثرون أمام بائعي البيض والشاي للحصول على وجبة يظلون عليها اليوم كاملا. رغم أن الساعة لم تحن بعد فإن الطابور تمطط بطول النهج كما الحبل المستقيم، نساء ورجال، شبان مفتولو العضلات وشابات ناهدات... كلهم مصطفون في الطابور وهاماتهم تلوح كأنها أشباح جبارة تتماهى مع بعضها البعض بفعل انعكاس الضوء على الحائط فوق الرصيف المحاذي لمبنى المصنع. ظلت ليلى تزحف بتؤدة مثل دودة القز، أمام وجوه بملامح كسلى، ربما لدنوها من باب المصنع، ومخلفة وراءها وجوها أكثر إشراقا لتأخرها في نظام الطابور... وجهة الجالية الداخلية منطقة ليساسفة محور استقطاب مهم للجالية الداخلية النازحة من القرى النائية. بعض المنازل بالمنطقة تخطى مرحلة البناء، والباقي لم يمر إلا بإحدى مراحله ليصبح في نظر أصحابه جاهزا للسكن وتستحق غرفه أن تعرض للكراء بمبالغ تصل إلى 700 درهم للغرفة الواحدة إضافة إلى فواتير الماء والكهرباء. تقول ليلى: «أكتري الغرفة التي أقطن بها بمبلغ 700 درهم في الشهر». وتضيف: «لقد استعصى علي دفع المبلغ كاملا فاشتركت في الغرفة مع ثلاث عاملات أخريات». أما «أمينة»، ذات 15 ربيعا، فتقول إن أجرها لم يسمح لها سوى بكراء «سداري» رفقة عاملات أخريات بغرفة نتنة مقابل مبلغ 300 درهم ل«السداري» الواحد». أشارت أمينة إلى مكانها في الغرفة الضيقة، أو بالأحرى إلى السداري الذي تكتريه، فلم يظهر منه إلا أكوام الملابس المتراكمة فوقه، والأواني المبعثرة إلى جانبه. تقول بألم مشيرة إلى مربع مرسوم على الأرض: «لا حق لي في تجاوز هذا المربع لأنه يدخل في حدود زميلتي». فلاحات... عاملات تعيش أمينة رفقة العشرات من بنات القرى النائية المهاجرات إلى العاصمة الاقتصادية بحثا عن عمل، أي عمل، كفيل بسد أفواه العائلات البعيدة التي قذفت بفلذات أكبادها نحو المدينة، وزرعتها في تربة عميقة طالبة منها أن تنتج نقودا. تقضي «أمينة»، القادمة من إحدى القرى القريبة من مدينة الصويرة، ساعات الليل الرهيب بمكان أرهب بليساسفة رفقة قريناتها ممن رمى بهن القدر في براثنها، يحتمين ببعضهن البعض، ويستهللن كل يوم بالدعاء لله الذي كتب لهن عمرا جديدا بعدما قضين الليل ضيفات على الحيرة والخوف، طالما أنهن لم يخترن الليل الآخر رفقة العاملات الأخريات. تمضي أمينة معظم وقتها بإحدى شركات النسيج تتناثر أيام حياتها كأوراق شجرة عتيدة لم تقو على الصمود أمام جبروت مصانع النسيج غير المتوقفة عن الإنتاج. تستيقظ على صياح الديك لتقتلع تاريخ اليوم السابق من يوميتها وتستقبل آخر تبدأ مع بداية ظهور خيوطه الأولى رحلة سيزفية جديدة تختلف مجرياتها حسب طبيعة كل عاملة، لكنها تنحو في اتجاه واحد، يشي بالاستنزاف والاستغلال والحرمان. تعمل من السابعة صباحا إلى السابعة والنصف مساء وما فوق تمارس خلالها دور أقنان العهد الفيوذالي مقابل أجر أشبه بالعدم، ضغط إن استطاعت أمينة بل كابدت من أجل تحمله فإن غيرها وما أكثرهن يرفلن دون مكابرة في حس الحصانة والرقابة الذاتية على أنفسهن متذرعات بالحاجة والإملاق للارتماء في أحضان المساومة في الأعراض التي تباع هناك بأبخس الأثمان. تقول: «أعمل في المصنع منذ سنتين تقريبا مقابل ثمانية دراهم للساعة». وتضيف: «أضطر في غالب الأحيان إلى العمل خلال يومي السبت والأحد حتى أضمن مصروفا إضافيا يساعدني على توفير حاجياتي وحاجيات أسرتي». رحلة سيزيفية.. تمضي «زهور» إلى عملها متأبطة كيسها البلاستيكي الأسود الذي عجز عن حجب مدى بساطة وجبتها اليومية، تمضي مسترسلة في اختراق دروب عجزت مواسيرها الضيقة عن احتواء كل الرواسب فقذفت بها إلى الممرات، يأخذ منها كل عابر ما لم يستطع تخطيه معيدا رائحتها الأسنة إلى عقر داره، لم يعد المشهد يحرك فيه ساكنا بعدما التحق بقافلة المشاهد الرتيبة لفضاء ليساسفة الشاسع. بعد ممارسة (سخرة) تبتدئ في الظلام وتنتهي فيه تعود «زهور» مع ريح الغروب إلى وكرها أملا في وضع أوزار العمل ومحاولة تخطي ضغطه اليومي. هاجس أمينة وليلى وزهور... والباقيات دفع الكراء الشهري الذي يصل إلى 700 درهم. تقول أمينة: «أكثر شيء يغضبني أن تقف صاحبة البيت أمامي في آخر الشهر وهي مصممة على أن ألا تعود أدراجها إلا والنقود في يدها وبالنسبة إلي فالأجر الذي أتقاضاه لا يكون بحوزتي إلا بعد مرور العشرة أيام الأولى من الشهر هذا هو برنامج الشركة، فما عساي أن أفعل؟». بعض العائلات بليساسفة تعرض بيوتها للكراء، وهي إذ تفعل ذلك لا تهمها طبيعة العناصر التي ستسكن معها بقدر ما يهم الأجر الشهري، باستثناء بعض العائلات. أصحاب المنازل يقولون إنه يصعب عليهم فرض ضوابط على بعض العاملات اللواتي حولن بيوتهن إلى أوكار للدعارة. فبعد انقضاء ساعات العمل في الشركات، تقول أمينة: «يحين عمل وقت آخر انخرطت في أجوائه الموبوءة مجموعة من العاملات». بعد خلع وزرة العمل المتسخة تكون الأجساد أكثر استعدادا لارتداء لباس العمل الليلي ويكون الوقت ملائما أيضا لتبادل علب الماكياج، لحجب علامات التعب، والعطور البسيطة، لإخفاء رائحة العرق، استعدادا للقاء زبائن تتقارب ظروفهم المعيشية وتتشابه في أصولها مع ظروف العاملات، على اعتبار أنهم أيضا مهجرون قادمون من القرى بحثا عن فرص عمل لإعالة ذويهم. وتختلف طرق جلب المال وصرفه بين المكتفيات بالعمل بالشركات فقط، وبين المزاوجة بين عمل النهار وتسكع الليل. أما العمال فما يجنونه هناك يصرفونه أيضا هناك وما لعائلاتهم البعيدة سوى الانتظار عسى أن يتبقى شيء بعد إرضاء الحاجات الخاصة. يقول «عمر» القادم من مدينة خريبكة للعمل ككهربائي بالبيضاء.. «يأتي العمال من قراهم بأفكار سرعان ما تتغير بعد انصهارهم في الجو الحياتي بالمدينة، فينسون أهلهم وذويهم، الذين رحلوا من أجلهم. ويضيف: «نحن نعيش ظروفا صعبة فأصحاب المعامل يستغلون جهدنا بأبخس الأثمان وكل ما نجنيه لا يصل إلى الحد الأدنى للأجور، وهو لا يكفي حتى لتغطية واجبات الكراء». واقع أكبر من الحلم معظم المستقرات بليساسفة عاملات غادرن مساقط رؤوسهن تحت ضغط الحاجة، وكلما استقر بإحداهن المقام أرسلت في طلب قريباتها للعمل معها، أو يحضرن بطلب من العائلة التي تفرض على إحدى بناتها استقبال أختها أو ابنة عمها ... لتتسع دائرة النفوذ. نقطة جذب للعمال والعاملات من أبناء المهاجرين تشكل المنطقة الصناعية، التي تعطي 200 هكتار وتضم حوالي 80 وحدة صناعية أنشطة مختلفة نقطة جذب مهمة للعمال والعاملات من أبناء ليساسفة والمهاجرين من القرى النائية على الخصوص. وتفد على المعامل فئات عديدة من أعمار مختلفة تقل أحيانا كثيرة عن السن القانوني للعمل. أما الأجور فهي تختلف أيضا تبعا لطبيعة العمل المنجز، وتتراوح ما بين 3 دراهم للساعة الواحدة كحد أدنى و 8.7 راهم كحد أقصى. وعلى الرغم من أن القانون يمنع إنشاء مناطق سكنية بجوار منطقة صناعية، فإن بعض أصحاب الشركات تمكنوا من إنشاء وحدة سكنية يقومون بكرائها للعاملات مقابل مبلغ 600 درهم شهريا. وهي مزودة بمحلات تجارية تقتني منها العاملات كل ما يحتجن إليه على اعتبار أنهن ممنوعات من مغادرة محل السكن. تقول (ي.ف): «كل ما نجنيه في الشهر من صاحب الشركة يسترجعه عن طريق استخلاص واجب الكراء، إضافة إلى المصاريف الجانبية التي نؤديها. ونحن هنا نمنع من الخروج في أي وقت، كما أن دخول الرجال محظور حتى ولو كان الزائر ذا قربى، فوالدي حين يأتي لزيارتي يضطر إلى الانتظار أمام الباب حتى أنزل لملاقاته».