الفصل الأول التأشيرة الجزء الثاني اضغط هنا لقراءة - موعد مع الشمس : الفصل الأول -التأشيرة –الجزء الأول- ترك نعمان صاحبه وقد زاده حديثه ألما وإحباطا, أدرك أن الحديث مع عبده الحشاش ليس بالأمر السهل فالرجل ينتحر في اليوم أكثر من مرة ويفرح عندما يأتي الليل لكي ينام فينسى واقعه الأسود. تذكر صورة عبده أيام الجامعة وهو يضع الكوفية الفلسطينية على كتفه ويصيح في جموع الطلبة بشعارات الغد اللآتي ..ويمنيهم بشعلة ثورة الجياع والمقموعين ضد جماعة وزير الداخلية وأعوانه..تذكر يوم محاكمته وكيف كان عبده مثال الطالب الطموح نحو غد أفضل لهذا الوطن الرائع..يومها كان يحارب المخدرات ويحاكم كل طالب ضبط وهو يتعاطاها..قارن بين تلك الأيام وواقعه اليوم وقد حولته الأيام إلى كومة عظام ..ومدمن مخدرات على مدار اليوم..يقتل ساعات يومه في التجوال بين أزقة الحي يسترزق من هبات أهله البسطاء وينفق ما تقع يده عليه على مخدر الشيرا. مشى نعمان وهو يجتر رجليه عنوة نحو البيت الذي يأوي أمه وأخواته الثلاث فاطمة، مريم ونادية: الأولى في منتصف الثلاثين من عمرها وتكبره بسنتين، تزوجت قبل عشرة أعوام من مصطفى وكان زميلا لها في سلك المعلمين أنجبت منه ولدا سمياه عمر هو اليوم في الثانية عشر من عمره ثم هاجر مصطفى بعد أن حصل على تأشيرة إلى فرنسا..وانقطعت مكالماته منذ فترة طويلة ،..فاطمة معلمة في إحدى المدارس البعيدة تقضي يومها في زحمة الحافلات أومشيا على الأقدام والصراخ داخل فصل مدرسي مكدس باربعين تلميذ وتلميذة لا يرحمون تعبها بصراخهم وضجيجهم المتواصل ، أحرزت شهادة الليسانس في الأدب العربي، وأمام تقلص فرص العمل لأمثالها من المعدمات أضطرت للقبول بمهنة التعليم رغم طموحها الكبير في إكمال دراستها العليا والتخصص في علم اللسنيات. تمضي فترات راحتها القليلة في البيت وهي تدرس ولدها وتحلم أن تحقق له ما لم تتمكن من تحقيقه لنفسها.. أغلب خصامها مع والدتها بسبب المال ومصروف العائلة، فمساهماتها في إعالة الأسرة لم تعد كرما منها بل أصبحت واجبا بعد وفاة الوالد وإنقطاع باب الرزق أمام الأسرة.ما زالت تحتفظ بصورة مصطفى في محفظتها وتحن إلى أيامها معه ومن حين لآخر تستغل خلوتها في البيت فتضع الصورة أمامها وتنغمس في أحلام اللذة الضائعة..ضبطتها أمها ذات يوم وهي عارية بالفراش تمارس العادة السرية مستعينة بما تبقى في مخيلتها من لقطات لقاءاتها مع مصطفى..كانت تصرخ باسمه وهي في ذروة النشوة وتبادله الحديث مستحضرة جسمه العاري الفارع الطول وشاربه الفوضوي الثائر..لم تنكر يوما حبها له وتقسم للجميع أنها ستنتظر عودته يوما ما كما وعدها قبل أن يرحل. أما مريم فهي أوسط أخواته بلغت الخامسة والعشرين، تدرس الإقتصاد وتشتغل بأحد فنادق الدارالبيضاء .. جميلة وجذابة..طولها الفارع ورشاقة جسمها الممشوق يزيدانها جمالا ونظارة تتعمد إرتداء الملابس الضيقة، وتكشف عن مفاتنها بشكل فاضح ومغري وتتلذذ بفعل ذلك ولا تخفيه تلبس التنورة القصيرة إلى ما فوق الركبة بكثير وعادة ما ترتدي قمصانا مفتوحة لتبدي للعيان صرتها الموشحة بجوهرة تلمع وكأنها تنادي أصحاب النصيب، وأحيانا كثيرة تحشرفخديها في سراوبل الجينز الضيقة فتنحصر مؤخرتها في إغراء شديد..كانت تتعمد المشي بغنج يفتك بقلوب شباب الحي الذين يتسابقون لخدمتها ويتباهون بالحديث معها..كثيرة التمرد على عادات حيها ومجتمعها..تضحك مع هذا وتمزح مع ذاك ..وتسخر من الفتيات اللواتي يحرصن على بكارتهن ، فاجأتها أختها نادية وهي في سطح البيت تمارس الجنس مع زوج إحدى الجارات بعد أن استولت على نصف أجرته الأسبوعية ..مريم مجنونة بنفسها ويسيطرعليها الطموح والرغبة في الإنعتاق من محيط الفقر والحرمان الذي يحاصرها و أسرتها..لم تخفي يوما أنها مستعدة لفعل أي شيئ ينقذها من هذا الواقع الذي تكرهه..غير مقتنعة بالحب أو العلاقات العاطفية والزواج كل الرجال في نظرها نسخة واحدة ..وعادة ما تشبههم بالشيكات إذا لم يك لها رصيد فيجب رميها في القمامة. علاقتها بنعمان متدهورة وشبه مقطوعة ، منذ إكتشف أنها تتردد على بيت أحد الأثرياء العرب الذي يزور مدينة الدارالبيضاء باستمرار بحجة التجارة وطلبا للمتعة مع فتيات يكبرهن بعشرات السنين. ورغم ذلك فهي الأكثر حنوا على نعمان تبادله نظرات العطف في صمت وعجرفة كما أن نعمان يدرك في عمقه مدى حنو قلبها وسخاءها المفرط. حياة مريم مقسمة بين الكلية وعملها الذي لا ينتهي قبل أن ينتصف الليل . تعود أحيانا إلى البيت لتغير ثيابها وتغوص في زحمة ليل كازابلانكا الذي لا ينتهي قبل إبتسامة الصباح.أما نعمان فيغضبه ذلك ويكره أن يذكر أحد أبناء الحي إسمها..وكان كلما أراد الحديث مع أمه عنها وصفها بالعاهرة ما يحز في نفس العجوزالمريضة التي تكتوي بين نار إبنتها- التي تجهل مصير مغامراتها الليلية- وبين نار إبنها الذي تريده أن يحل مكان الراحل. أخته الصغرى إسمها نادية خجلها المفرط وإنغلاقها على نفسها في خلوة دائمة جعلا منها لغزا غامضا بالنسبة لنعمان وباقي أفراد الأسرة .تدرس في قسم الباكالوريا, ارتدت الحجاب منذ الخامسة عشر ومن يومها واظبت على الصلاة و الإجتماع بفتيات جماعة العدل والإحسان (3). البيت بالنسبة لها هو للأكل والنوم والصلاة أما حياتها فتقتصر على المدرسة أو حلقات الوعظ والإرشاد..ترفض مشاهدة التلفزيون وتزهد في معظم ما يستهوي الفتيات من عمرها. لم تخفي ناديا يوما كرهها للنظام ، ورغم صغر سنها فهي تبدو رصينة وواثقة من أفكارها. تزداد كرها للغرب يوما بعد يوم وتعتبره عدوا للإسلام. خزانتها الصغيرة مكدسة بكتب الدين بشتى أصنافها ولم تفكر يوما في الهجرة رغم إيمانها العميق بأن رفيقاتها اللواتي هاجرن إلى فرنسا لم يقترفن أي خطأ فأرض الله واسعة كما تردد دائما . قناعتها راسخة بأن المغرب هو الأرضية الأصلح لنجاح تجربة الدولة الأسلامية. ..أما نعمان بالنسبة لها فهو الأخ الضحية ..مثل مئات الآلاف من حملة الشهادات العليا والعاطلين عن العمل. كيف لا وهو الحاصل على الإجازة في القانون منذ خمسة أعوام ولا يملك ثمن دفع مشروبه بالمقهى.عندما تسمع أبناء الحي وبناته يتهكمون عليه وينادونه بنعمان الميريكان تغضب كثيرا وتثور في صمت يزيد من عزلتها. طرق باب بيته ففتحت الأم المنهكة من شدة المرض فبادرها بقبلة على يدها فأسمعته عبارته المفضلة: إرتمى على مرتبة بركن البيت المتواضع حاول تشغيل جهاز التلفزيون ..فلم يسعفه الحظ فثارت ثائرته وهو يصيح غاضبا ذكرته والدته بأن الهوائي هو ملك للجيران وانهم يفضلون مشاهدة القنوات العربية خرجت ناديا من غرفة البيت الوحيدة نظرت إلى أخيها وهو يصارع جهاز التلفاز فبادرته بالتحية فلم تسمع أي رد منه أولعله لم يسمعها ولكنه استدار في مكانه كالمعتوه وخاطبها قائلا: قضى معظم ليلته يحارب الأرق ويقاوم ويصارع أسئلة كثيرة تزاحمت على باب ذهنه المشوش ..فبعد أسبوع من اليوم سيفصل خط التلفون عن دكان السيد مبروك ، وما عساه سيفعل ؟ وهو الذي اختُصرت كل مشاكله في تلفون دكان بالحي لا تتجاوز مساحته المئة متر مربع, من أين له بخمسة آلاف درهم لسد فاتور مبروك ؟ وهل إذا عجزعن فعل ذلك يستطيع عمل أي شيء يغنيه عن إنتظار المكالمة التي تأخرت كثيرا ..؟ فكر في أمه وأخواته الثلاث ..سأل نفسه عن مصير هذه الأسرة التي تركها له المرحوم ثقلا ينهك كاهله الفتي ..حاصره النعاس فجأة فسرح بخياله يفكر في مصير مريم التي لم تنم الليلة في البيت، وساورته وساوس وشكوك في أمر قصصها ومغامراتها التي باتت على لسان كل نساء الحي ورجاله..أين تراها الآن؟ وفي حضن من تنام هذه الليلة ..؟ وكيف يستطيع سؤالها وهي التي تدفع أجرة البيت والقسط الأوفر من مصروف الأكل وغيره ؟ كيف يجرؤ على الإحتجاج وهو الذي يضع في جيبه بعض ما تعطيه والدته من دراهم، يعلم مسبقا أن مصدرها مريم وسهرات مريم وعرق ( جبين ) مريم..إسترخص في أخته هذا الإسم الطاهر ..وتذكر والده الذي كان يردد على مسمعه أنه إختار لها إسم مريم تيمنا بالعذراء عليها السلام ..ممنيا نفسه أن يكون هذا الإسم حصنا لها ضد غواية الشيطان، ومات المسكين وهو لا يعلم أن الدواء الذي كان يتناوله كانت تدفع ثمنه مريم من رصيد أعمالها الليلية المتنوعة ..وأن الشيطان في نظرها هو الفقر والعوز. تساوت في ذهن نعمان الكرامة بالمال والسعادة بالمال والعلم بالمال وعلاج أمه بالمال وتراقصت أما مخيلته آلاف الدولارات ثم انغمس في حلم أميركا ونعيم أميركا وبنوكها وشوارع نيويورك وضواحي واشنطن وأغمض عينه في استرخاء عميق لعله بفعل المخدر الذي دخنه مع عبده الحشاش. أحس ببرد يلفح وجهه ولمح خيالا يفتح الباب في ظلمة الصباح الشتوي البارد ألقى بنصف جسمه خارج نافذة البيت فلمح سيارة مرسيديس سوداء تستدير ببطء في محاولة للخروج من الزقاق الضيق. صفعها بقوة وقسوة ولم يكن ليتخيل نفسه يوما ما يمد يده على إحدى أخواته..كان غضبه قويا وأحس بكرامته تمرغ في تراب كعب حذاءها العالي..خرجت الأم للتو مهرولة من حجرة البيت فوجدت مريم ملقاة على مقعد مكسور وهي تصيح، تبكي وتولول بأعلى صوتها و رائحة الخمر تفوح منها بقوة فاختلط كحل عينها بدموعها المنهمرة بشحوب السهر طوال الليل, إختطلت رائحة العطرالذي تضعه برائحة المرحاض الذي لا يبعد سوى بضعة أقدام عن صحن البيت الذي يتحول ليلا إلى غرفة نوم نعمان. إختطلت كل الروائح والأشياء ببعضها لتحول صورة مريم إلى قناع مومس تحمل بيدها اليمنى الكتب ومحاضرات الإقتصاد السياسي وفي اليد اليسرى تحمل علبة العازل الطبي.. سلاحها الوحيد في وجه مرض الإيدز الذي تحول إلى سيف مسلط على عنق كل فتيات الهوى في شوارع وحانات ومراقص كازابلانكا الليلية. خرجت فاطمة وهي مغمضة العينين ..كانت مذعورة من صراخهم وتبعتها نادية التي أنهت صلاة الفجر قبل هنيهة من بدأ الخصام بين أخيها ومريم .. سمعت فاطمة نداء إبنها عمر من الداخل فهرعت مسرعة إليه بينما انزوت نادية بالقرب من النافذة تتأمل بزرغ النهار. أما الأم المسكينة فكانت ترتب على ظهر مريم وهي تقرأ بعض الآيات القرآنية وتردد البسملة وهي تمسح على وجهها. ألقى بمعطف والده الصوفي على كتفه وأشعل سجارة ثم فتح الباب بعنف ورمى نفسه خارج البيت تاركا أمه تصيح من وراءه وهي تدعو له بالرضى والسلامة..كان الزقاق هادئا إلا من صوت قط جائع يعبث بمخالبه في براميل القمامة. كان يمشي بهرولة وعندٍ شديدين وكأنه يفرغ كل مكبوتاته بدك الأرض من تحت قدميه . وصل إلى أقصى حدود الحي فتراءت أمام بصره أضواء مدينة الدارالبيضاء و صومعتها الشاهقة تنتصب في شموخ نظر إلى المنارة وتساءل مع نفسه كم كلف بناء هذه المعلمة العمرانية الرائعة وهل كان المغرب في حاجة إلى مسجد بهذا الحجم ألم يكن أولى بهذه الأموال أن تذهب لمشاريع تعود بالنفع على الفقراء والعاطلين عن العمل. تذكر ماضي المغرب القريب وتذكر معه كل شيئ .. كان هواء الصباح منعشا يتعطر بنسيم أعشاب البحر ..رائحة يعشقها وكم هي الليالي التي قضاها منبطحا على ظهره يعانق ببصره ضوء البدر وهو يحاول عبثا ترتيب مواقع النجوم.. اقترب منه أحد الصيادين وطلب منه عود ثقاب فسأله نعمان عما إذا كان الصيد في فصل الشتاء أكثر وفرة..نظر إليه الصياد بعينين غائرتين تترقرق بداخلهما دموع أفرزها الهواء البارد. ترك الصياد مسترسلا في ثرثرته وانطلق يبحث عن ملاذ بين الصخور لينام قليلا قبل أن تشرق الشمس.. فتح مذياعه المحمول ووضعه قرب أذنه وانكمش في معطف والده الصوفي ثم نام وصوت أخبار لندن تمتزج بأصوات أمواج الأطلسي العاتية..لمحت عيناه قنينة زيت تتلاطمها الأمواج..فابتسم وهو يسأل نفسه كم هي محظوظة هذه القنينة تركب البحر وترحل لا تحتاج إلى جواز أو تأشيرة..استغرق يُثمن بعده الإنساني في عالم فصل على مقاس اهله بينما احتكر الجماد والطيورمعاني الحرية المطلقة.. )يتبع( تلتقون مع رواية موعد مع الشمس كل أربعاء وسبت حصريا على موقع هسبريس اضغط هنا لقراءة - موعد مع الشمس : الفصل الأول -التأشيرة –الجزء الأول- اللوحات المرافقة للرواية للفنان محمد سعيد الوافي