تشكل وفاة الأستاذ أحمد الطيب العلج خسارة كبيرة للثقافة المغربية الحديثة، خسارة لكونه أحد صانعي القيم الفنية الراسخة في ذاكرة المغاربة مسرحا وشعرا زجليا... لقد كان لي الشرف، بحكم اشتغالي كمخرج على بعض أعماله كمخرج، أن اكتشف في الرجل حبه للقلم والكتابة وإصراره العنيد على الإبداع حتى وقد بلغ من الكبر عتيا.. إصرار بدأه وهو طفل صغير في «حي سويقة بن صافي» بفاس العتيقة في ثلاثينيات القرن الماضي، حيث ارتوى من معين الثقافة الشعبية من خلال جلسات الحكي التي كانت تقام في منزل العائلة.. وفي نفس الحي عاصر ويلات «عام البون» أواسط الأربعينات، وما تلاها من حركة فنية بعد انفراج الضيق في هذا الحي الذي تحولت فيه الدكاكين ليلا، من مجال للتجارة إلى فضاءات للموسيقى والمسامرات والحكي في كل مساءات فاس أيام زمان، حيث تختلط موسيقى أم كلتوم وعبد الوهاب بأغاني الملحون الشجية، وحيث يتردد الكثير من الفنانين الذين أصبح لهم فيما بعد شأن كبير في الساحة الفنية المغربية كعازفي القانون الغالي الخميسي وعبد الرحمن اللعبي والفنانين محمد فويتح وعبد الرحيم السقاط والعابد زويتن والمسرحي الراحل صديق طفولته الحيسن المريني، وآخرين سواء كانوا من نفس المدينة أو من المترددين عليها كالملحنين الراحلين عبد القادر الراشدي وأحمد البيضاوي وغيرهما. لم تكن تجربة الراحل أحمد الطيب العلج المسرحية تجربة عابرة، بل استثناء في الثقافة المغربية المعاصرة؛ ابتدأت من بائع خضر ونجار إلى كاتب مسرحي كبير وشاعر زجال تدين له الأغنية المغربية بالكثير من العرفان. كما أن حسه النضالي في فترة الاستعمار من العلامات البارزة على نضاليته وانحيازه لقضايا الشعب، ولا أدل على ذلك تذكره المستمر لباكورة أعماله المسرحية «الحاج بناصر- رئيس الغرفة التجارية» والتي انتقد فيها مرشحين انتقتهم الحماية الفرنسية لشغل مناصب رؤساء الغرف التجارية والفلاحية لتمرير قرارات المقيم ضدا على الحركة الوطنية. والتي أدت في النهاية الى اعتقال كل الفرقة ومعها المرحوم إلى مخافر الشرطة وتدوين أسمائهم في لائحة سوداء اضطروا معها إلى تغيير أسمائهم لتفادي الرقابة، حيث غير فقيد الخشبة المغربية والعربية اسمه بتغيير نسبه باسم الوالد حيث أصبح يحمل اسم «أحمد الطيب» عوض «أحمد العلج»، وهو ما جعله يحمل فيما بعد اسما ثلاثيا هو: «أحمد الطيب العلج». من يتتبع مسار الراحل الغني لابد أن يذكر بإعجاب مساهمة هذا المبدع الكبير في ريبرتوار فرقة المعمورة الشهيرة، حيث ولجها المرحوم ابتداء من تداريبها الأولى في بداية الخمسينيات كنجار منجز ديكورات، قبل أن يكتشف أندري فوازان والمرحوم عبد الصمد الكنفاوي عبقريته الكبيرة في الكتابة ليصبح علامة من علاماتها وأيقونة من الجيل الذهبي للمسرح المغربي. عبقرية الرجل لم تتوقف عند هذا الحد، بل كانت دائما مصرة على الاستمرار والإبداع، حيث أغنى الساحة المسرحية المغربية بروائع ك «ملاك الدويرة» و»حليب الضياف» و»النشبة» و»الأكباش يتمرنون» و»السعد» و»قاضي الحلقة» وغيرها كثير... من يعرف المرحوم أحمد الطيب العلج، سيندهش لعلاقة الراحل بالكتابة التي كانت عشقه الأبدي الذي لا يتوقف.. أينما وكلما زرت أحمد الطيب العلج، تجده رفقة القلم وكومة من الأوراق، يكتب يكتب ثم يكتب، بل وحتى وهو على فراش المرض كان يكتب أو يملي أو يسجل بصوته إذا لم يسعفه الحال، يرتب ويوثق لدرجة أن غير المعروف من أعماله يتجاوز بشكل كبير ما هو معروف ومتداول. لقد مكنني شرف الاقتراب من الشخصية الكبيرة أن اتحسر على عدم نشر العديد من أعماله، وقد بادرته بالسؤال ذات لحظة بمصارحة كاشفة: «الحاج... لماذا لم تنشر أعمالك؟»، فكانت إجابته أبلغ وأرفع: «ليس لدي وقت... من الأفضل أن أكتب مسرحية جديدة»... هكذا كانت علاقة أحمد الطيب العلج بالكتابة وكأنها سباق مع الموت... سباق ابتدأه وهو صغير واستمر فيه إلى آخر حياته، لا يمكن أن تجالسه دون أن يتكلم معك بحماسة عن إبداع جديد أو عن موضوع مسرحية أو قصيدة لازالت في مرحلة الاختمار. في فترة مرضه، هزني كثيرا إصراره على مقاومة المرض بالكتابة، بل وحرصه على أن يلقى ربه وفي نفسه عزة الفنان الذي عاش كبيرا ومات عظيما؛ أذكر زيارة فريق تصوير مصري له مؤخرا لإعداد شريط وثائقي عن المسرح المغربي، أذكر كيف أصر على الظهور بأناقته التقليدية المعهودة مقاوما المرض، وكيف أسر لي هو وأفراد أسرته على الحرص أن يتوقف التصوير إذا ما لم يتمكن من التعبير المناسب عن أفكاره وقناعاته. لقد رحل الرجل إذن لدار البقاء وهو في عز إبداعه، مات وهو يتحدث بحب كبير عن أمه التي يقول عنها: «كانت تمتاز بأنها لم تكن تحكي القصة مجردة، بل كانت تقدم لي نموذجا للتمثيلية القصيرة المحبوكة والمطروزة، لدرجة أن تبقى الحكاية في حاجة فقط إلى من يشخصها، وكانت والدتي رحمها الله تجيد فن التشخيص، وهكذا تعلمت منها فن الحوار، وتعلمت منها ديباجة الكلام على لسان أشخاص التمثيلة وكأنه شهد مقطر... هكذا كانت هي التي تنقل لي عناصر الديباجة لتقديم التمثيلية كما ينبغي أن تكون تمثيلية وليست حكاية فقط. وكنت حريصا وأنا صغير على أن اسمع مردداتها الحوارية لأحاول أن أنسج على منوالها وأسير في اتجاهها لأكمل الصورة كما كانت تحاول أن ترسخها في دماغي، هذه المهمة كانت تقوم بها والدتي بكل إتقان وبكل تشبت وبكل قدرة على تحويل الحكاية إلى تمثيلية.» رحل أحمد الطيب العلج وقد جعل موليير يتحدث بلسان مغربي أصيل مفعم بالبساطة والعمق وعدم التكلف، لدرجة أن أصبح يحمل لقب «موليير المغرب»، وهو ما وعاه بصدق حين يقول «أشعر في اقتباساتي له أحيانا أنني أنطق باسمه أو هو الذي نطق باسمي»، وذلك ما انعكس فعلا في أعمال مقتبسة خالدة، مثل مسرحيات: «ولي الله»، «الحاج العظمة»، «الفضوليات»، «مريض خاطرو» وغيرها كثير. رحل أحمد الطيب العلج الذي بقي في علاقة وطيدة مع الخشبة المسرح، وأذكر حصص التداريب التي كان يحضرها أثناء إعداد مسرحية «النشبة»، وأمام إعجابه بأداء الممثلين تحسر لكونه لا يستطيع المشاركة فيها كممثل؛ وأذكر أيضا بروح الممثل الكبير التي لم تنظفئ شعلتها داخله، الأريحية الكبيرة التي كان يقبل بها إعادة كتابة بعض المشاهد حينما يفرضها واقع الإبداع على الركح متحججا دوما بأن ما يكتبه ليس قرآنا منزلا، أتذكر أيضا غضب السي احمد من كل زيادة غير محسوبة أو من كلام فج يناقض أناقة لغته المغربية الدارجة الراقية، المطروزة بأعذب الكلام وأرقه؛ أو من رغبة أنانية في إثارة الضحك دون عمق ونقد اجتماعي أو سياسي مبطن. لقد عبر أحمد الطيب العلج عن هموم المغاربة وناصر قضايا المغاربة بحس نقدي ساخر، تناول بحس فني مرهف إشكاليات العدالة والاستبداد، وانتقد الجهل والتخلف والادعاء والرشوة وغيرها من الأمراض الاجتماعية، وتناول الأحاسيس البشرية في ظاهرها المغربي وعمقها الإنساني، تحدث عن الحب والظلم وتواطؤ الضحية مع جلادها؛ كما عكس العمق الروحي للمغاربة في شعره الديني... رحل أحمد الطيب العلج، لكنه لم يرحل، بل سيبقى اسما محفورا في الذاكرة الثقافية المغربية كأحد أهم رموزها، وأحد أهم امتدادات الفكر التنويري الإصلاحي في مجال المسرح. رحل أحمد الطيب العلج ولم يرحل... ستظل أعماله نبراسا للأجيال القادمة، ودروسا لكل محبي الدراما والركح.. وداعا الحاج العلج... عشت عظيما ومت عظيما.... رحمك الله وأسكنك فسيح جنانه. إنا لله وإنا إليه راجعون. *مخرج مسرحي ورئيس النقابة المغربية لمحترفي المسرح