تعاني اللغة العربية اليوم الأمرين أمام كيد أعدائها وتخلف أبنائها، ولقد بدأت هذه المحنة والمعاناة مع مجيء الاستعمار الذي وضع مخططا جهنميا للقضاء على الهوية الثقافية للبلاد العربية والإسلامية، ومن ثم سلط معاول هدمه على كل معالم الثقافة العربية الإسلامية، وفي مقدمتها اللغة العربية الفصحى التي هي أساس التعلم وبها تتلقي مختلف صنوف المعرفة والعلوم ابتداء من علوم الشرع التي تؤسس عقيدة المسلم وعبادته وأخلاقه، وتحافظ على عاداته وتقاليده الأصيلة التي تربط حاضره بماضيه، ولذلك كان من أعظم بدع الاستعمار الهدامة الدعوة إلى استعمال اللهجات العامية في البلاد العربية في التعلم داخل المدارس والثانويات والجامعات، وقد عبرت في إحدى مقالاتي بالفرقان (عدد 36 ص: 16) أن المخطط الاستعماري لاستهداف العالم الإسلامي في نهاية القرن التاسع عشر ركز على ضرب القيم الدينية من خلال ثلاثة مجالات أساسية وهي: السياسة، واللغة، والمرأة. والذي يعنينا الآن هو الهجوم على العربية الفصحى. محنة تتجدد اليوم في ظروفنا الراهنة ها هم اليوم دعاة العامية يتحركون من جديد لإزاحة العربية الفصحى عن موقع صدارتها محاولين استبدالها في ميدان التعليم والإعلام بلهجات عامية أو لغات إقليمية ضيقة، وفي نظري أن إحياء هذه الدعوة الجائرة في حق لغتنا تتحكم فيه العوامل التالية: 1 تفاقم الهجمة الصهيوأمريكية على العالم العربي والإسلامي تحت غطاء العولمة الاقتصادية والثقافية، حيث تتعرض ثقافات الشعوب المستضعفة في العالم الثالث للتذويب والاحتواء في بالوعة الغول الأمريكي المستأسد اليوم بقرنه الوحيد، وتعتبر الثقافة العربية الإسلامية اليوم العدو الأول المستهدف من طرف أمريكا التي تُحَمِّلُ ثقافتنا المسؤولية المعنوية فيما يقع من تطرف وإرهاب في العالم. ولذلك فاستهداف الفصحى اليوم لا يمكن عزله عن استهداف ثقافة الأمة بصفة عامة، والهجمة تبدأ من إعادة النظر في برامج التعليم. 2 إن واقع الهجانة الذي تتخبط فيه السياسات التعليمية ببلادنا اليوم هو نتاج لواقع مختل تغيب فيه شروط الإبداع والتقدم من حرية وديمقراطية حقيقية داخل كل الوطن العربي مع الأسف، كما تسيطر على برامج التعليم العفوية والارتجالية، بل التخبط والاضطراب في جل الأحيان، ومثالا على ذلك سياسة التعريب ببلادنا، والموقف من تعلم اللغات الأجنبية واللهجات المحلية، ومجانية التعليم...وهلم جرا. هذا الواقع المتخبط غالبا ما تعلق أخطاؤه على مشجب اللغة العربية المسكينة التي يسهل اتهامها من طرف أعدائها المغرضين بأنها هي المسؤولة عن تدهور وتراجع مستوى التعليم ببلادنا ؟!..وعوض أن تشتكي لغتنا المظلومة من الحالة التي وصلنا إليها بتخلفنا، فإننا نقلب لها ظهر المجن ونستبقها بالبكاء والشكوى. ولو كنا نسمع أو نعقل ونحسن النظر من حولنا لرأينا ما فعلته ''إسرائيل'' لكنها مع الأسف الأكثر ديمقراطية وعقلانية من كل بلاد العرب، فقد استطاعت أن تحيي لغتها العبرية الغارقة في القدم والعتاقة وأن تنفخ فيها روح الحياة والتقدم من جديد فجعلت منها لغة العلم والتكنولوجيا والأدب، أفلا تبصرون يا منهزمين أمام لغتهم؟ نعيبُ لسانَنا والعيبُ فينا وما للسانِنا عيبٌ سوانا 3 إن إذكاء روح النعرات الإقليمية الضيقة من طرف الاستعمار وأذنابه تحت غطاء إنصاف الأقليات الإثنية ''المظلومة'' وأغمضوا أعينكم أيها القراء عن كل جرائم الظلم البشعة التي يرتكبها الاستعماريون يوميا أمام أنظار العالم كله في فلسطين والعراق...الخ يضاعف اليوم من محنة اللغة العربية، لأنه في الوقت الذي ينبغي أن تتوحد فيه الجهود للنهوض باللغة العربية لمنافسة اللغات العالمية الحية، والعربية لغة كونية جديرة بالتحدي وقادرة عليه، كما عبر عن ذلك حافظ إبراهيم رحمه الله في شعره: وسعتُ كتابَ اللهِ لفظاً وغايةً وما ضِقْتُ عن آيٍ به وعِظاتِ فكيف أعجزُ عن وصف آلَةٍ وتنسيقِ أسماءٍ لمخترعاتِ أنا البحرُ في أحشائه الدُّرُّ كامنٌ فهل سألوا الغَوَّاصَ عن صَدَفاتي؟ لكننا عوض ذلك نبعثر الجهود ونشتتها في هدر الوقت والطاقات والكفاءات للقيام بتدريس لهجات ولغات محلية ما كان يضيرنا شيء لو أخرنا تدريسها والعناية بها وهي تستحق منا كل عناية إلى حين أن ننتهي من النهوض بلغتنا العربية رمز التحدي والهوية لكل المسلمين والعرب سواء كانوا عربا أو أمازيغ أو أقباط أو غير ذلك. ملاحظات على الاستعمال اللغوي في الخطاب الإعلامي والإشهاري نظرا لأن الغاية الأساسية من تعلم كل اللغات هي التواصل كما قال اللغوي العربي الفذ ابن جني ''اللغة أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم'' ، والله عز وجل يقول ''وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم''، وإذا كان حال الناس اليوم يطغى عليه الجهل والأمية فإنه في نظري لا بأس من الاستعانة باللهجات المحلية في الخطاب الإعلامي والإشهاري لتحقيق التواصل مع أوسع شريحة من الناس داخل المجتمع، لكن لا بد من مراعاة الشروط التالية: أن تبقى العربية الفصحى هي القاعدة واللهجات هي الاستثناء، وكلما كان التعبير بالفصحى واضحا ومفهوما لدى الغالبية من القراء والمستمعين فلا ينبغي التحول عنه إلى التعبير العامي ليس تنقيصا من العامية التي هي لهجتنا ونعتز بها أيضا، ولكن لأن الفصحى هي الضامن لاستمرار هويتنا الثقافية بما فيها لهجاتنا وثقافتنا الشعبية. ونحن نلاحظ اليوم كيف أن فئات عريضة من عامة المجتمع تستطيع متابعة الخطاب الإعلامي الفصيح والجيد وتتجاوب معه بشكل جيد. لا يليق بنا تخصيص منابر إعلامية مكتوبة أو مسموعة يكون منهجها هو الترويج للخطاب العامي الدارج على حساب الخطاب العربي الفصيح، لأنه يكفينا أن نخصص مساحات محدودة للهجة العامية في برامجنا التلفزية والإذاعية أو على صفحات جرائدنا ومجلاتنا عندما تتطلب الضرورة ذلك، لأنه في ظل انتشار الأمية وتراجع مستوى التعليم ببلادنا أصبح حتى الأساتذة في دروسهم الخاصة والعامة يستعينون بالخطاب الدارج أثناء شرحهم وتفسيرهم ''والبلية إذا عمت هانت'' وحسبنا الله ونعم الوكيل. ينبغي أن نضع وسائل للتمييز على مستوى الخط بين الفصحى و العامية إذا اضطررنا للكتابة بالعامية كأن نكتب العامية بلون خاص يصبح علامة لها عند القراء، وذلك حتى لا يختلط على أبنائنا من الناشئين أمر العامية والفصحى وهم غير قادرين على التمييز بينهما، وكثيرا ما يدرج التلاميذ في إنشاءاتهم صيغا من العامية سمعوها في الإعلام أو قرؤوها وظنوها من الخطاب العربي الفصيح. أن ننتقي خطابنا الإعلامي الدارج من العامية الراقية التي لا تبتعد كثيرا عن الخطاب العربي الفصيح، وأن نتجنب اللهجة السوقية المغرقة في الإسفاف، وكما أنه للفصحى بلاغتها وفصاحتها فكذلك للدارجة بلاغتها وفصاحتها، وأظن أن هناك تقاطعات كثيرة بين الخطاب البليغ في الفصحى والعامية، والمطلوب من إعلامنا أن يكون هدفه الأسمى هو تقليص الهوة بين الفصحى والعامية، وقد عملت الصحافة منذ عصر النهضة على تطويع أساليب الفصحى نفسها لجعلها في متناول جماهير القراء، ولو ظل الكتاب يكتبون بأساليب العصر العباسي مثلا لهجرت اللغة العربية وماتت، وحتى في العصر العباسي نفسه فقد كانت المدرسة الشعبية في الأدب هي الأكثر انتشارا وكانت تنافس مدرسة الصنعة والزخرفة منافسة شديدة، ولذلك مثلا كانت أشعار بشار بن برد وأبي العتاهية أكثر انتشارا من أشعار أبي تمام وعبد الله بن المعتز. وإمكانية ابتكار خطاب وسط بين العامية والفصحى كمرحلة انتقالية أظنه أمرا ممكنا وفي متناول الإعلاميين الجادين الذين يهمهم أمر لغة التواصل مع الجماهير العريضة من القراء. تثار باستمرار قضية التحدث في الإعلام بالعامية وأن ذلك خير من اللغة الفصحى المتخشبة التي يستعملها بعض المتحدثين في إعلامنا من المسؤولين وغيرهم، وأظن أن الأمر في غاية البساطة ولا يحتاج لكل هذا الضجيج والفرقعة الإعلامية، فالمطلوب من المواطن مسؤولا كان أو غير ذلك إذا ما تحدث إلى الإعلام أن يتكلم على سجيته وطبعه بكل عفوية وأن يتحدث باللغة أواللهجة التي يحسنها ويتمكن من إتقان أساليبها، فالتخشب هو ليس في اللغة أواللهجة وإنما هو في عقل المتحدث ولسانه وكما قال جودت سعيد فالشيء الذي نحسن فهمه هو الذي نحسن التحدث عنه، وأظن أننا معشر المغاربة تعاني غالبيتنا من عقدة التحدث في الإعلام، والمسألة هي قضية نفسية مرتبطة بواقع سوسيو ثقافي كرسه واقع السياسة والإعلام الرسمي المحنط في بلادنا لعقود من السنين العجاف سياسيا وإعلاميا، ونحن في بدايات نهضتنا الإعلامية المنفتحة على فئات الجماهير العريضة وأول الغيث قطر، ولنترك للناس حرية التعبير شريطة أن نؤهلهم ونرفع من مستوى تعليمهم وأخلاقهم، وآنئذ لن يعود المغربي يخجل من مستوى فصاحته أمام المشارقة وهو يتحدث إلى الإعلام سواء تحدث بالفصحى أم بالعامية، وبواكير ذلك بدأت تلوح في آفاقنا الإعلامية ونحن ننتظر المزيد. خاتمة خلاصة القول علينا أن نجتهد للنهوض بلغتنا العربية الفصحى، والنهوض بتعليمنا العربي، والرقي بمستوى أبناء شعبنا علميا وأخلاقيا، وأن نتيح لهم أجواء الحرية والديمقراطية ليتعلموا ويتثقفوا بثقافتهم العربية الأصيلة أولا، ولينفتحوا ثانيا على ثقافات العصر الحديث في لقاح وتلاقح، وأن نحسسهم بكرامتهم الإنسانية ونخلصهم من كل إحساس بالإهانة والقمع، وآنذاك سنرى عبقرياتهم تتفتح، وأخلاقهم تصقل، وقرائحهم تنطلق، وألسنتهم تلين وتعذب، وإذا ما تحدثوا سلبوا العقول بمنطقهم وفصاحتهم كما كان أجدادهم يفعلون، ولا زالت خطبة طارق بن زياد الأمازيغي ترن في الأسماع إلى يومنا هذا رغم أنف المشككين فيها. وآخر دعوانا إن الحمد لله رب العالمين.