حظيت مؤخراً المسألة اللغوية في المغرب بنقاش هام شارك فيه مختصون لسانيون وباحثون وفاعلون تربويون ومدنيون، ونال اهتماما إعلاميا من خلال ما صدر عن الموضوع في الصحافة الوطنية من تحليلات وتعليقات وآراء. وقد انطلق هذا النقاش بعد الندوة التي نظمتها مؤسسة «أماديوس» حول التعليم خلال شهر ماي 2010 بمناسبة صدور كتاب «النظام التربوي والطبقات المتوسطة في المغرب»، حيث تم التركيز على ضرورة اعتماد الدارجة المغربية في التعليم، وكذلك بعد ندوة جمعية «زاكورة» المنظمة خلال شهر يونيو 2010 حول المسألة اللغوية بالمغرب بحضور خبراء مغاربة وأجانب ومهتمين بقطاع التعليم بهدف فتح نقاش حول علاقة اللغات بالتعليم من جهة، وعلاقتها بالتنمية الاجتماعية والاقتصادية من جهة أخرى، حيث أوضح السيد نور الدين عيوش رئيس المؤسسة أن الوضعية اللغوية بالمغرب تعد غنية ومعقدة، مبرزاً أن الإشكال المطروح حاليا هو أن آليات التواصل بصفة عامة، والتعليم بالمغرب بشكل خاص، يجب أن يكون أكثر نجاعة وإفادة ليس فقط للواقع الاجتماعي واللغوي والثقافي، بل أيضاً لمواجهة الرهانات الحالية المتعلقة بالتطور الاقتصادي والانفتاح على العالم والانخراط في ركب الديمقراطية والحداثة. وكشف النقاش الذي عرفته الندوة الدولية التي نظمتها مؤسسة زاكورة عمق الأزمة اللغوية القائمة، انطلاقاً من الاجتهادات والأجوبة المطروحة لتجاوز الأزمة اللغوية في المغرب، وهذا ما يعني الاعتراف بوجود مشكل لغوي بالمغرب يقابله التباين الملحوظ في الخيارات المستقبلية لمعالجة هذا المشكل الحاد. وانطلقت الندوة، حسب أرضيتها، من اعتبار المغرب في دائرة البلدان التي توجد في وضعية عدم الحسم في سياسة لغوية واضحة، كما ارتكزت على وجود مشكل لغوي بالمغرب يقابله التفاوت المسجل بين «العربية الشفوية» و «العربية المكتوبة»، وأن هذا المشكل يطرح التساؤلات التالية: هل سيتم الاستمرار في وضعية التمايز القائم أم سيتم تصفية إحداهما لصالح الأخرى؟ هل سيتم تجسير الهوة بينهما؟ وقد اتجه العرض الافتتاحي ل «كلود هجج Glaude HGEGE» الباحث التونسي نحو القول بأن المستقبل اللغوي للمغرب في الدارجة المغربية. لقد كانت الأجواء التي سبقت تنظيم الندوة مطبوعة بنقاش حول الوضع اللغوي بالمغرب وتجاوز الأمر الى السجال بين من يدعو الى التخلي عن العربية الفصحى في التعليم واستبدالها بالعربية المغربية، وبين من يناهض هذه الدعوة ويدعو الى تمكين اللغة الرسمية للبلد من حقوقها التي يكفلها لها الدستور، وتوفير شروط تأهيلها. والملاحظ أن أرضية الندوة قد خلصت إلى طرح السؤال عن مصير هذه العلاقة: هل ستستمر الفصحى والمغربية في مستويين متوازيين، أم يجب أن يتم تفضيل أحد المستويين على الآخر؟ وأكدت توصيات الندوة على ضرورة التشبث باللغات الوطنية التي حددتها في العربية الفصحى والعربية المغربية والأمازيغية، وفي الوقت نفسه، دعت إلى تملك الجرأة لاختيار اللغات الأجنبية التي بإمكانها أن تؤهلنا لمواكبة التقدم العلمي والمعرفي والاقتصادي وتحقيق التواصل الكوني. وفي هذا الصدد، أجمع المشاركون على أن الاعتماد على الفرنسية باعتبارها لغة أجنبية أولى أو وحيدة لن يؤهلنا إلى ما نطمح إليه. كما شددت توصيات الندوة على التعدد والتنوع اللغويين في المغرب، وأكدت أن المشكل اللغوي لا يتمثل فقط في علاقة العربية بالدارجة، وأن المطلوب اليوم هو تدبير هذا التنوع والتعدد، سواء تعلق الأمر باللغات الوطنية أو اللغات الأجنبية بشكل إيجابي، يكون بإمكانه أن يحقق التقدم والتنمية بشكل يستهدف إحدى اللغات. لقد أثير نقاش هام على هامش ندوتي جمعية زاكورة حول الإشكالية اللغوية بالمغرب ومؤسسة «أماديوس» التي دعا من خلالها بعض المتدخلين الى استعمال الدارجة المغربية في التعليم الأساسي. وفي هذا السياق، يمكن الإشارة إلى الأفكار التالية: إن الموضوع اللغوي موضوع حاسم لمستقبل الهوية المغربية، والمشكل اللغوي لا ينحصر في ضعف التمكن من اللغة العربية، بل يمتد الى اللغات الأجنبية في ظل هيمنة الفرنكفونية. والتخوف المطروح هو اختزال المشكل في ثنائية الدارجة والعربية وإغفال الأبعاد الأخرى للإشكالية اللغوية بالمغرب. قللت بعض الآراء من الأصوات الداعية إلى توظيف الدارجة والأمازيغية بدل العربية الفصحى، مؤكدين بأن اللغة العربية محمية من المغاربة ولا خوف على الهوية المغربية. العربية الفصحى ليست لغة مستعصية تماما على الطفل الذي يلتحق بالمدرسة، والعربية الدارجة ليست إلا نتاجا مشتقا من العربية الفصحى. أما بالنسبة للأطفال الناطقين بالأمازيغية فالمسألة تطرح بشكل مختلف. إن التعريب لم يتم بطريقة علمية ومدروسة، خاصة وأن التلميذ (ة) المغربي (ة) يدرس بالعربية الفصحى مواد علمية في الثانوي ثم يجد نفسه في حاجة إلى لغة أخرى في الجامعة والنتيجة أنه لا يكتسب بشكل جيد لا اللغة العربية الفصحى ولا الفرنسية ولا لغة أجنبية أخرى، من هنا جاء الطرح الذي يدعو إلى اعتماد خيار «الدارجة المغربية». إن اللغة العربية الفصحى، بالرغم من التنصيص عليها في الدستور، فهي لا تتمتع بحقها الدستوري كاملا، لا في الادارة ولا في مجال الإعلام ولا في مجال التعلم، لأن التعريب الذي حصل كان ناقصا. اللغة العربية الفصحى لغة حية، ولكن ينبغي اختيار اللغات الأجنبية التي تمكننا من مواكبة التطور العلمي والمعرفي. وبالرجوع الى بعض المقالات الصادرة في هذا السياق في الصحافة الوطنية نجدها تثير التساؤل عن أصول وغايات الدعوة الى الدارجة المغربية، ومبرراتها المطروحة. وحسب بعض الباحثين، فإن هذه الدعوة وصلت إلى المغرب متأخرة، واحتلت مساحة هامة في النقاش الإعلامي والثقافي في الأيام الأخيرة، وهي حاضرة في الفضاء الثقافي بالمشرق العربي منذ أواخر القرن التاسع عشر، وقد اتخذت الدعوة إلى العامية أو اللغة المحلية، في الشرق العربي عدة مسارات قادها دعاة الحداثة من الغربيين. ومن أهم الأهداف والأسس التي بنيت عليها أطروحة العامية، كما حددها الدكتور إميل يعقوب، نذكر ما يلي: الفصحى لغة أجيال مضى عهدها، تعجز عن التعبير عن الحياة، لذا فهي صعبة التعليم والتعلم لصعوبة نحوها وصرفها، في حين أن العامية لغة سهلة. اعتماد العامية لغة للتعليم يؤدي الى اقتصاد في وقت التعلم لصعوبة الفصحى، ولأنها ليست اللغة الأم. من أهم أسباب التخلف اختلاف لغة الحديث عن لغة الكتابة، واعتماد العامية كفيل بالقضاء على هذا التخلف وعلى سلبيات الثنائية. وهذه الأسس الداعية الى الدارجة أو العامية لا يختلف حولها مشرقا ومغربا، وقد عرفت هذه الدعوة فشلا في شرق العالم العربي. وفي هذا السياق، أجرت جريدة «لمساء» بتاريخ 22 يونيو 2010 حواراً مع الأستاذ عبد القادر الفاسي الفهري الخبير اللساني وأشهر اللسانيين المغاربة، تم التأكيد من خلاله على ما يلي: يروج أساتذة فرنسيون أطروحات ترتكز على نقطتين لا تصمدان أمام الحجة العلمية، النقطة الأولى هي أن اللغة العربية لغة مقطوعة عن الدارجة، والنقطة الثانية هي أن الفرنسية ينبغي أن تكون لغة المغرب في العلم والاقتصاد والتواصل، وهاتان الأطروحتان قديمتان، وكذلك متخلفتان بالنسبة لما قطعه المغرب من أشواط. لقد كان اختيار الدولة، من خلال الميثاق الوطني للتربية والتكوين الذي حظي بموافقة مكونات المجتمع المغربي، فيما يخص المسألة اللغوية بالمغرب واضحاً، باعتبار أن المبدأ الأول هو أن اللغة العربية لغة المغاربة والدستور ينبغي تعزيزها، والمبدأ الثاني هو العناية بتعليم الثقافة واللسان الأمازيغيين، والمبدأ الأساس الثالث هو أن المغاربة ينبغي أن يتقنوا اللغات الأجنبية مع الأخذ فيها بمبدأ التعدد، كما تم اعتماد ثنائية اللغة الأجنبية تبدأ من اللغة الثانية في الابتدائي وهي الفرنسية، ثم بعدها الانجليزية في مرحلة لاحقة خصوصا في الإعدادي، بالإضافة الى لغات أجنبية أخرى، مع العناية باللغة العربية وتطويرها في إطار أكاديمية محمد السادس للغة العربية، ولم يرد ذكر لمسألة الدارجة، لأن الفصحى والدارجة والعربية المتوسطة كلها تنوعات داخل مكون واحد، وهناك تنوع في الدارجة، نظراً لاختلاف المناطق سواء الشمالية أو الجنوبية. كما نشرت جريدة «الاتحاد الاشتراكي» بتاريخ 12 يونيو 2010 ملفا حول السياسة اللغوية بالمغرب تضمن مقالا للأستاذ عبد الغني أبو العزم المهتم بعلوم اللغة العربية والمعجميات، والذي أوضح رأيه في السياسة اللغوية بالمغرب من خلال العناصر التالية: إن ما يميز الوضع اللغوي في المغرب هو التعدد اللغوي على اختلاف مستوياته، أي وجود لهجات تعد من مكونات المجتمع المغربي، كل منها لها تاريخ وثقافة، تمكنت من أن تصب في مصب الوحدة الوطنية لضمان استمرارية الوجود للنظام السياسي. إن تدبير السياسة اللغوية بالمغرب في إطار التعدد اللغوي الذي يعتبر من مكونات الهوية الوطنية المغربية، يستدعي أن يكون التدبير قائماً على إعطاء أهمية قصوى لتداول اللغات الوطنية من منطلق أن أي نوع من التنمية الوطنية والبشرية لبلادنا يصعب ضمان إرساء صيرورة ما لم يرتبط بلغة متكلميها، ولقد أضحت هذه المقولة تفكيراً مشتركا بين علماء اللغة وعلماء الاقتصاد، إذ لم يعد بالإمكان الحديث عن أية لغة وعن تقدمها أو إحيائها وإصلاحها دون الحديث عن علاقتها بالاقتصاد والتنمية والبحث العلمي، فضلا عن الثقافة والحضارة. ومن هنا، فإن نقل العلم والتكنولوجيا بلغة أجنبية ثانية من شأنه أن يؤخر عملية التنمية الوطنية ويقف دون التقدم الاقتصادي والصناعي، وكذلك كل ما له علاقة بالتعليم والبحث وتطوير المعرفة، وهذا رأي علماء الاقتصاد والمنظمات الدولية، وليس فقط رأي علماء اللغة الذين يحثون على ضرورة التعلم والتدريس باللغات الوطنية لتحقيق التنمية الشاملة، لذا، فإن تبني اللغة العربية واللغة الأمازيغية في العملية التعليمية والبحث العلمي يعد من ركائز التنمية الشاملة، مما يفرض تطوير أدواتها ومصطلحاتها وتراكيبها وهذا من مهام الباحثين والعلماء. أما بالنسبة لمسألة اللغات الأجنبية كواقع دولي ليس بالإمكان استبعادها أو عدم الارتباط بها في العملية التعليمية لما لها من علاقة بالبحث العلمي وتطوير المعرفة، وكذا في مجال التواصل الحضاري، وبالنسبة للدارجة المغربية باعتبارها لغة التواصل اليومي بين الناس فلا يمكن التخلي عنها، وقد بدأ البعض يدعو إلى اعتمادها لغة رسمية ووطنية تحل محل اللغة العربية دون مراعاة كونها لهجة لها خصوصية التخاطب، وتفتقر الى المعيرة لتنتقل إلى المجال العلمي والمعرفي مما يطرح فهم الدوافع الكامنة وراء هذه الدعوة الغربية عن علوم اللغة وأدواتها ومنهجيتها وقد أصبح لها أنصارها وهم فئتان: فئة تنطلق من منطلق البحث السوسيولوجي والدراسات اللسانية. والفئة الثانية لها خلفية معقدة التركيب بين ما هو إيديولوجي وما هو عنصري. ترتكز الفئة الأولى على أطروحة بديهية عندما تعتبر أن الدارجة المغربية لغة الأم وهي لهجة التخاطب والحوار اليومي، وعليها أن تحتل موقعها الذي تمارسه مما يستدعي التركيز عليها في علاقتها باللغة العربية والبحث في أساليب تطويرهما معا، وعلى عكس الفئة الأولى، تذهب الفئة الثانية الى الدعوة إلى اعتماد اللغة الأجنبية في التعليم والتدريس وتعميق إشاعتها في مرافق الدولة، إذ مهما بلغت الدارجة من الشيوع لن تصل الى مستوى اللغة العربية أو الأجنبية لكونهما خضعتا للبحث والتنقيب والتقعيد خلال قرون، وهم يعرفون أيضاً وعلى وعي تام بأن الدارجة المغربية لا يمكن أن تضاهي اللغة العربية أو أن تكون بديلا لها، وقد أضحت لغة التدريس والعلم، وتشكل الوجه البارز للحضارة العربية عبر مسارها الطويل. إذ أن لغة الدرس لغة لها قواعدها وتحكمها ضوابط التطور اللساني والمعرفة العلمية، بخلاف الدارجة لتي لا يمكن اعتمادها في الدرس التعليمي والعلمي. وفي مقال بأسبوعية «الحياة» الصادرة بتاريخ 24 يونيو 2010 أوضح رئيس تحريرها باعتبارها متدخلا في ندوة زاكورة، بأن النقاش في المسألة اللغوية في المغرب تغيب عنه الأحزاب السياسية التي بقيت بعيداً عن موضوع له علاقة بالسياسي والاجتماعي والاقتصادي، فضلا عما هو لغوي وثقافي. كما لاحظ بأنه ليس من صالح المغرب أن يعرف نزاعا لغويا جديداً بين العربية الفصحى والدارجة المغربية، لأن الأمر يتعلق بلغتين وطنيتين، فالعربية الفصحى عربية مكتوبة وهي لغة المدرسة، والدارجة المغربية عربية شفوية وهي لغة التواصل اليومي واللغة الأم التي نمارسها في الأسرة والمجتمع، فالدارجة تؤدي وظيفتها المجتمعية التواصلية بينما العربية الفصحى لغة مكتوبة نكتسبها بالتعلم ونمارسها بالقراءة والكتابة، فضلا عن كونها لغة البحث العلمي والتنمية المعرفية. ويرى صاحب المقال بأن معالجة المسألة اللغوية في المغرب لن تكتمل بدون فتح ورش اللغات الأجنبية، لكون اللغة الفرنسية التي تحولت في الواقع الى لغة رسمية في عدد من القطاعات والواجهات غير قادرة على تأدية جميع الوظائف المنتظرة منها، وهذا لا يعني التخلص منها، ولكن المستقبل يقتضي أن نتجه نحو اللغات الأجنبية القوية، كما أن معالجة واقع لغوي مختل وما يترتب عنه من اختلالات مجتمعية خطيرة يستدعي فضلا عن النظرة العلمية الموضوعية، اعتماد جرأة وواقعية وبراغماتية لاتخاذ القرار المؤدي الى التقدم والتنمية المجتمعية.. والخلاصة، فإن ما تم تقديمه من أفكار وآراء من خلال النقاش الدائرة حول المسألة اللغوية سيساهم في تعميق النقاش حول مشروع البرنامج الاستعجالي المتعلق بالتحكم في اللغات، والذي يستدعي تدخل المجلس الأعلى للتعليم باستعجال بحكم دستوريته وتنوع تركيبته وأهليته لمعالجة المسألة اللغوية بالمغرب، وذلك حتى لا يتيه النقاش العمومي، انطلاقاً من منابر متنوعة، عن القضايا الجوهرية التي تشغل المجتمع المغربي كالحسم في لغة تدريس المواد العلمية والتقنية، وكذا اختيار اللغات الأجنبية التي ينبغي تدريسها مع تحسين مستوى تعلم اللغات في أفق التحضير لمدرسة المستقبل، انطلاقاً من التوجهات الكبرى للميثاق الوطني للتربية والتكوين في المسألة اللغوية.