دخلت النقاشات العمومية إلى مجال التداول حول اللغة التي نتكلم اليوم أو علينا أن نتكلمها، ووقعت الحرب بين الدارجة والعربية، وأحيانا الفرنسية والأمازيغية في أفواه المغاربة. وسالت اللغة منها كما يسيل اللعاب. وفي هذا النقاش نسينا أن نعود إلى البداهة، تاريخية كانت أو يومية. هناك دفاع يستمد حججه من الجذر اللاهوتي للعربية. فمن يريد العامية، بهذا المعنى فهو كمن يريد أن تكون اللغة اللادينية، هي السائدة، وبمعنى آخر بأن العربية لغة الإسلام، وكل مس بها أو مناقشتها أو حتى التفكير فيها بعقلية غير عقلية النحاة الأوائل، هو محاولة لتقويض الإسلام.. أولا، إن الأمر، إذا كان بهذا المعنى يتم في كل لحظة وفي كل ثانية، لأن الحديث يتم حتى داخل المساجد بالدارجة المغربية. ثانيا، إن الأمر فيه غير قليل من المجازفة، حيث لا ننتبه إلى أن الحماس في جر الدفاع عن العربية إلى الأصل الرباني للغة، أمر مجازف للغاية. كما أنه لا يستقيم مع العديد من معطيات الحال. هناك اليوم أكبر دولة دينية إسلامية لا يتحدث أبناؤها العربية، وهي التي تعد امبراطورية الفكر الديني والمؤسسات الدينية ونقصد بها إيران. فأبناؤها، الشيعة في أغلبهم إطلاقا، كما مؤسساتها الدينية، أكثر تشبثا وتمسكا بالدين حتى في عواطفهم وفي تعذيبهم لذواتهم، وكلهم عندما ينهون الفاتحة في صلواتهم، صبحا كانت أو عصرا، فإنهم يعودون إلى الفارسية التي يتحدثون بها يوميا وفي كل لحظة، ويعبرون بها عن حزنهم وعن فرحهم وعن غضبهم وعن إبداعاتهم. في هذا دليل على أن جر اللغة العربية إلى القسم الديني المحض لا يستقيم بالضرورة للعرب إذا لم يستقم لغيرهم من شعوب المسلمين، والتي لها، في ماليزيا وأندونيسيا وغيرهما حضور كبير. نحن أمام معضلة، لها جانب آخر. فقد ارتبطت العربية، في جزء من تاريخها بالسلطان، والسلطان هنا بمعناه التقليدي، أي السلطة وممارسات الدولة. ولهذا فإن شعوبا عديدة ربطت بينها وبين القمع أو التسلط الذي مارسه المتعاقبون على الحكم في دول الإسلام العديدة. وهو الوجه الآخر للعملة، فإذا كانت العربية لغة الفقه والتدين ويعتبر الحديث بها بمثابة تكريم لنبي الإسلام وللغته، وتعظيما وتشريفا له صلوات الله عليه، فإنها بالمقابل ارتبطت بالسلطة وبالدولة، وأحيانا بالجانب المظلم فيهما، لهذا فإن الصراع معها، مضمرا أو واضحا، عادة ما يكون صراعا غير معلن مع الدولة ومع لغتها الضاربة في المحافظة، كما أن الاستناد إليها قد يكون في أحد تمظهراته استنادا إلى السلطة ذاتها، ولهذا لا نعدم من يعود إلى نصوص بناء السلطة وشرعيتها، بشكلها العام، للدفاع عن استعمالات اللغة الفصحى. إن من جوهر المعضلة هو أن جزءا منها يتم بجوار السلطة وبالقرب من المقدس، كما أنه يتفرع إلى جوانب أخرى ترتبط بمواقع في المجتمع، حيث أن جانب الآخر من الصراع يتخذ شكلا بين الفرنسية والعربية، وتجد من يعتبر الهجوم على الدارجة هو من صميم الصراع مع الفرنكفونية. كما لو أن الحرب مع العامية هي استمرار للحرب مع الفرنكفونية بوسائل أخرى، أكثر قربا من عامة الناس، وهذه هي المفارقة. ولعل في الأمر عودة إلى الشعبوية ونعتها بخدمة الاستعمار الخ، كما أن له ارتباطا بالمواقع التي تحصل عليها النخب المفرنسة مع النخب التي جاءت من التعليم الأصيل وما تعانيه من تهميش وتحقير غير جديرين ببلد تاريخه طويل في الانتماء إلى اللغة العربية وإلى التعليم المرتبط بالدين وبالفقه وأجيال من الثقافة العربية الإسلامية. هناك ضرورة لفك الارتباط بين الدارجة والفرنكوفونية، لأن الدارجة المغربية، ككيمياء يومية، بدأت تتخذ لها مجرى في تاريخ البلاد منذ قرون، هي دارجة أيضا للإبداع والخيال والحل اللغوي التاريخي بين مكونات التداول المغربي بكاملها، فلا يمكن أن نلغي تاريخا من الدارجة من أجل تركيب لغوي في كتاب! والمغاربة مطالبون بأن يفكروا بعقل ونضج كبيرين في أن اللغة هي مع أبنائها، فإن تغيروا لابد أن تتغير. فلا أحد شاهد أو استمع للكلمات تنطق لوحدها أو تنطق نفسها، فلا بد لها من بشر يحملها، ولا يمكن أن يتغيروا وتظل هي جامدة. كما أنه لم نشاهد أبدا بشرا بلا لغة، فإن وجدوا يكون الواحد منهم أبكم. فهل سيكون مجال حريتنا الوحيد هو ما بين .. البكم والجمود؟ أعتقد بأن من أوسع الأشياء التي جاءت بها المداولة الجماعية في البلاد هو أننا أخرجنا اللغة من أفقها المسدود، وهو نفس الشيء الذي يقع مع اللغة الأمازيغية . والبحث عن أفق مسدود لنقاشنا سيكون وخيما للغاية. إذ أحيانا نتراوح بين من يكرر علينا، مثل سبحة، شعارات هدفها بالأساس هو منع أي نقاش وبين من يكرر علينا كل «القفزات» الهوائية، أي من يتحدث لغة الخشب ومن يتحدث لغة اللهب.