وتحول القاعدة إلى المغرب الكبير، معناه توفير مجال أكبر للتدخل الأمريكي بالمنطقة، وبالتالي إعطاء المبرر للإدارة الأمريكية وجيوشها من أجل النزول على سواحلنا وإنشاء قواعد في أراضينا، مما يطرح السؤال وبحدة حول هوية هذه التنظيمات وأهدافها الحقيقية ومراميها. تتحرك القوى الاستعمارية بطبيعتها الإمبريالية، وفق أجندات محددة، قوامها الأساس الحفاظ على مصالحها الحيوية بالمناطق المستهدفة من مشروعها الهيمني، والولايات المتحدة بإدارتها الحالية، تعد إحدى أوضح التعبيرات عن هذا المنطق وتلك الطبيعة، إذ إن قادتها ما فتئوا يعبرون ومنذ سقوط النظام السوفيتي أواخر ثمانينات القرن الماضي، عن رغبة جامحة في الاستفراد بالزعامة في عالم، لم يعد فيه للتعددية القطبية وجود، واختل فيه التوازن السياسي والاقتصادي لصالح معسكر أعاد العالم إلى ما قبل سيادة نزعات الإيديولوجيا والاستقلالات. وقد نتج عن هذا التوجه مصادمات كبرى، جسدت نظرة حكام الكون الجدد للصراع من أجل السيطرة على العالم، ودعا فلاسفة القطب الوحيد إلى الإغلاق النهائي لبوابة التاريخ، وإعلان ختام مسلسل التطور السياسي والاجتماعي البشري، بسيطرة النموذج الأمريكي في فهم وترويج مقولات العولمة والديمقراطية وحقوق الإنسان، وإنتاج صراع بين الحضارات، ينتهي حسب منظريه بانتصار الأقوى عسكريا واقتصاديا ومعرفيا. ولعدة اعتبارات، شكلت المنطقة العربية والإسلامية مسرحا مناسبا لهذا التوجه الجديد، فمن جهة لأن دولها هشة من حيث بنيانها التكوينية، وهي في مجملها بلدان خرجت حديثا من فترة الاستعمار المباشر، وتمتد على مساحة غنية بالموارد الطبيعية والبشرية، والأهم من هذا وذاك، مركزيتها من حيث وجود السرطان الصهيوني في قلبها، ولعل الإدارة الأمريكية الحالية وحسب كثير من المحللين هي أكثر إدارة وضعت أمن إسرائيل ضمن أولوياتها الإستراتيجية القصوى، ناهيك على أن العالمين العربي والإسلامي ظلا طوال القرن الماضي مجالا للصراع والمنافسة بين قطبي المنظومة الدولية آنذاك في إطار ما كان يعرف بالحرب الباردة. هذه الأسباب مجتمعة وغيرها، شكلت ذرائع ملائمة من أجل التدخل للسيطرة على بلدان المنطقة والحيلولة دون خروجها عن الطوق، وانتهجت القيادة الجديدة للعالم من أجل ذلك شتى السبل والوسائل، ففي حين تدخلت عسكريا في الخليج العربي كمقدمة لإقرار ما سمي بالنظام الدولي الجديد، كانت جحافل جيوشها تغزو بلد معدما مثل الصومال، وتقنبل طائراتها السودان، وتتقاطر معوناتها اللوجيستيكية المتواصلة على تل أبيب. ولئن كانت هذه المسلكية غير جديدة، بالنظر إلى الأطماع التوسعية والإدارة الهيمنة التي شكلت الحافز لقوى الاستعمار من أجل ترتيب أوضاع العالم، وفق مصالحها الإستراتيجية وحاجياتها الحيوية، فإن أحداث الحادي عشر من سبتمبر أعطت المبرر الملائم لإعادة تحريك هذه النزعة لدى الغرب، عموما والولايات المتحدةالأمريكية على وجه الخصوص، إذ إن كارثة مانهاتن أحيت في دواليب صناع القرار الأمريكيين مشروعا كان يراوح مكانه منذ أن حمل شارته المنظرون الأوائل للسياسة الخارجية الأمريكية، وابتعثه من مرقده الوزير الإسرائيلي شمعون بيريز في فترة احتضار المعسكر الشيوعي، وهو مشروع الشرق الأوسط الجديد أو الكبير، والذي يمتد من المغرب إلى باكستان، ويروم في تفاصيله إعادة تشكيل المنطقة على المستوى الجغرافي السياسي، بما يوافق المطامح الأمريكوصهيونية في السيطرة على مساحة مهمة تتكاثف فيها عناصر حيوية، تضمن الوجود والاستمرار للقوى الكبرى، وتشكل خزانا استراتيجيا للطاقة بجميع أنواعها. إن أحداث الحادي عشر من سبتمبر لفتت انتباه الأمريكيين إلى ضرورة مراجعة سياستهم تجاه المنطقة، التي كانت المصدر الأول لمن خططوا ونفذوا هذه الهجمات، وبالتالي ضرورة الضغط على البلدان المنتجة لما سماه الساسة الأمريكيون بالإرهاب من أجل وأد "الكراهية" و"التمرد" في مهدهما، وهكذا نشأ مفهوم الحرب الاستباقية ضد أي تهديد أمني، قد يربك حسابات البيت الأبيض ويزعزعها، فتم بذلك التسريع ببرنامج غزو منطقة الخليج باعتبارها المجال المؤهل ليكون مركزا لعملية التغيير الاستراتيجي الجذري للمنطقة، وهكذا استكمل بوش الابن ما بدأه أبوه من استئصال شأفة النظام العراقي الذي خرج قويا من حرب الثماني سنوات مع إيران، وشكل في "عاصفة الصحراء" عنصر استفزاز لمشاعر وحساسيات الغضب العربي، واعتبرت الإدارة الأمريكية أن القضاء على النظام العراقي وتفتيت البلد سيكون بلا شك بوابة ملائمة من أجل خلق نموذج جديد للدولة العربية المعاصرة، وخنق أي صوت قد يفكر في التمرد أو مواجهة الهيمنة، واعتبر الساسة الأمريكان أن سهولة دحر نظام طالبان في أفغانستان سيكون مدخلا مشجعا لصنع مثيله بأسوار بغداد. فيما اتخذت الحرب عنوانا مغايرا لما كانت عليه إبان الحرب الباردة، ووجدت في شعار "مكافحة الإرهاب" مفتاحا للتدخل في أي منطقة وفي أي وقت وبأي شكل. والمغرب الكبير لم يشذ عن هذه القاعدة، رغم أن منظري السياسة الأمريكية دأبوا في السنوات الأخيرة على التفريق بين المسارين الشرق أوسطي والشمال الإفريقي، إلا أن المنطقة وبطبيعة الأجواء السائدة في العالمين العربي والإسلامي، وببداهة تأثرها بما يقع في المشرق من أحداث وتحولات، ومع حقيقة أن أبناء المغرب الكبير وُجدوا بأشكال متعددة في كل مناطق المواجهة مع الأمريكان، خصوصا في أفغانستان ومن بعدها العراق، وبواقع التحول الذي شهدته إستراتيجية التنظيمات الجهادية العالمية من تشتيت للصراع، فيما يبدو أنه محاولة لإنهاك الخصم الأمريكي واستنزاف قواه، فإن منطقة المغرب العربي دخلت هذه المرة وبقوة في حساب الساسة الأمريكان وبرامجهم، وتجاوزت الإطار الذي كانت تتحرك فيه مسبقا، حيث إن البلدان المغاربية ظلت أجواءها حكرا على أوروبا، التي استفادت دول منها بشكل كبير من سابقتها الاستعمارية، وكذا من قربها الجغرافي وقابلية بلدان المغرب العربي للتعامل معها، وهي البلدان التي طالما شكلت مجالا طبيعيا للصراع بين عدة أطراف تروم الاستفادة من عذرية المنطقة وانفتاحها على أكثر من واجهة جغرافية وسياسية. وهكذا تحول الاهتمام الأمريكي بشكل متزايد نحو المغرب العربي، في أفق اتخاذه نقطة ارتكاز جغرافي إستراتيجي، تتوفر على شتى المؤهلات التي تجعل منها الخلفية المناسبة لإمداد القوى الكبرى بالطاقة والامتداد الميداني، وقد عزز من هذا الاتجاه تحول القاعدة إلى المنطقة، وتحويل المعركة إليها، في خطوة تنذر بعواقب وخيمة على بلداننا، وتؤشر على عبثية هذه التنظيمات وارتباك مديريها، ولا أدل على ذلك من طبيعة العمليات الدموية المنفذة في المغرب والجزائر على الخصوص. وتحول القاعدة إلى المغرب الكبير، معناه توفير مجال أكبر للتدخل الأمريكي بالمنطقة، وبالتالي إعطاء المبرر للإدارة الأمريكية وجيوشها من أجل النزول على سواحلنا وإنشاء قواعد في أراضينا، مما يطرح السؤال وبحدة حول هوية هذه التنظيمات وأهدافها الحقيقية ومراميها. وقد بدأت ملامح السياسة الأمريكية في منطقة المغرب العربي في الاتضاح عندما استطاعت عزل التعامل مع بلداننا على مسارات، فمن جهة هناك الغزل المتبادل بين ليبيا وواشنطن، خصوصا مع خروج طرابلس من لائحة الدول الداعمة للإرهاب، والاتصالات المستمرة بين البلدين، رغم التصريحات الليبية المتناقضة في هذا الشأن، في حين تتموقع موريتانيا في مركز متقدم، من حيث أنها الدولة المغاربية التي عبرت بصراحة عن فتح أبوابها للتعامل مع إسرائيل، أما بخصوص الجزائر، فقد سجل الملاحظون مؤخرا حجم التبادل بين البلدين في مجال التسليح والخبرات النووية، مما يدل على وجود نية لدى الإدارة الأمريكية في تقوية طرف داخل أصلا في صراع مع المغرب، في الوقت الذي تتلكأ فيه واشنطن في إبراز وجهة نظر محايدة وواضحة في ملف الصحراء. إن ما يحرك السياسة الأمريكية بمنطقة المغرب الكبير، هو مصالحها الحيوية المتمثلة أساسا في الثروة النفطية والمعدنية الهائلة التي تتمتع بها هذه البلدان، ناهيك عن اتخاذها مجالا جديدا لتثبيت الوجود وبناء القواعد العسكرية تحت ذريعة مكافحة الإرهاب، وفي المجال السياسي والثقافي والاجتماعي، حينما تشجع أمريكا بعض الجمعيات المدنية والأحزاب والهيآت السياسية والإعلامية في سبيل إيجاد تباينات من شأنها زعزعة الوضع بمغرب يحتاج أكثر من أي وقت مضى للتوازن والاستقرار، وإعادة بناء الهيكل الثقافي والسياسي داخل بنية غضة وفي طور التشكل، إن لم تكن في مراحلها الجنينية الأولى، ولا قدرة لها بأية حال على مقاومة وسائل التفتيت والتشريح العميق التي تمارسها آليات الغزو الأمريكي.