يوم الثلاثاء 3 نوفمبر 2009 تحولت رسميا حرب اليمن ضد المتمردين الحوثيين الى حرب إقليمية فقد أعلنت السعودية انها شنت غارات جوية على اليمن «لاسكات مصادر النار» التي اطلقها حوثيون تسللوا الى المملكة وقتلوا حارس حدود سعودي. وقالت الحكومة السعودية في بيان أنها اتخذت سلسلة من الاجراءات للتصدي لهؤلاء المتسللين من بينها «تنفيذ ضربات جوية مركزة على أماكن وجود المتسللين في جبل دخان والاهداف الاخرى ضمن نطاق العمليات داخل الاراضي السعودية». وكان مصدر سعودي مطلع قد صرح يوم الخميس 29 أكتوبر أن الطيران السعودي قام بقصف مواقع للمتمردين الحوثيين الزيديين في شمال اليمن في اليومين السابقين. واشار مصدر مسؤول في بيان الحكومة السعودية الى ان السلطات المختصة «باشرت اخلاء القرى الحدودية المجاورة لموقع الحدث الى مناطق آمنة حفاظا على سلامة المواطنين والمقيمين». وكان المصدر السعودي أكد كذلك يوم الخميس ان القوات السعودية يمكن ان تتحرك برا ضد الحوثيين، موضحا «انها ليست عملية على طريقة «اضرب واهرب» بل عملية مستمرة» قد تشمل التحرك برا «لتطهير» معاقل الحوثيين في شمال اليمن بالتنسيق مع السلطات اليمنية. بعد ذلك زادت الأوضاع خطورة بعد ان تبين ان الحوثيين احتلوا مناطق داخل السعودية، وهو ما حول المواجهات الى معارك ضارية شاركت فيها قوات من مختلف الأسلحة. في البداية طبلت نفس الأبواق الإعلامية والسياسية التي ساندت بشكل أو بآخر تمرد الحوثيين في اليمن منذ الصيف الماضي، لما سمته انتصارات الحوثيين على القوات السعودية واليمنية، كما تحدثت عن تبدل موازين القوى في منطقة الجزيرة العربية، وفي نفس الوقت سعت وبإسلوب اعتبره الكثيرون ساذجا الى الإيقاع بين صنعاء والرياض. قناة العالم الإيرانية واظبت خلال هذه الفترة على لعب دور الناطق الرسمي بإسم الحوثيين ونشرت صورا كثيرة عما وصفته الضربات المظفرة ضد القوات السعودية واليمنية. وبتزامن ملفت خصصت قناة العالم عدة مواضيع، لا يمكن إعتبارها سوى معادية لجمهورية مصر العربية، خاصة ما يتعلق بإمكانية خنق مصر عبر تحديد حصتها من مياه نهر النيل، وقد جاء ذلك عقب تأكيدات أن وحدات البحرية المصرية والسعودية تقوم بدوريات مكثفة على الساحل اليمني على البحر الأحمر لمنع تهريب أسلحة الى الحوثيين، وقد تصادف ذلك مع نشر وكالات الإعلام الدولية خبر احتجاز السلطات اليمنية لسفينة إيرانية «ماهان» محملة بأسلحة للتمرد. تهديدات طهران لم تمض أكثر من 96 ساعة على بداية التحول الرسمي نحو الحرب الإقليمية حتى قفزت طهران الى إطلاق التهديدات. فقد حذر وزير الخارجية الايراني منوشهر متكي الثلاثاء 10 نوفمبر دول المنطقة من أي تدخل في اليمن، من دون ان يسمي السعودية. وقال متكي خلال مؤتمر صحافي في طهران ان «دول المنطقة عليها الاحتراس جديا من التدخل في الشؤون الداخلية لليمن». واضاف ان «اولئك الذين يصبون الزيت على النار عليهم ان يعلموا ان الدخان الذي سيتصاعد من هذه النيران لن يوفرهم». واعتبر متكي ان اليمن يواجه ثلاث مشاكل هي «الارهاب وعماده تنظيم القاعدة الذي يريد جعل اليمن محور عمله، والحركات الاستقلالية، والعلاقات بين الحكومة والشيعة». وقال متكي في كلمة له أثناء مراسم تقديم المتحدث الجديد لوزارة الخارجية الإيرانية وتوديع المتحدث السابق إن «عودة الاستقرار إلى اليمن تساعد على الاستقرار في المنطقة كما أن زعزعة الأمن في أي من بلدان المنطقة يؤثر سلبا على أمن المنطقة برمتها». كما حذر وزير الخارجية الإيراني من عواقب ما سماه «قمع» الشعب اليمني عبر شن حملات عسكرية، قائلا إن «من يحاول صب الزيت على نار الفتنة لن يكون بمنأى عن لهيبها وسيدخل الدخان في عيونه. وإن الدعم المالي والتسليحي للمتطرفين والتعامل مع الشعب بأسلوب قمعي تترتب عليه تبعات خطيرة جدا». وأعرب متكي عن استعداد إيران للتعاون من أجل حل مشاكل اليمن، مشيرا إلى أن طهران اقترحت بحث هذه المشاكل باستضافة إيرانية أو على الأراضي اليمنية، وأوضح أن الشق الثاني حظي بالترحيب، وأنه سيقوم بزيارة إلى اليمن قريبا. مباشرة بعد تصريح متكي الذي تؤكد عدة أوساط في داخل إيران أن شركات في ملكية أفراد عائلته توجد بعض مكاتبها خارج إيران، تملك تعاملات تجارية كثيفة مع فروع لشركة «هالبيرتون» التي كان يديرها نائب الرئيس الأمريكي السابق ديك تشيني. رفضت صنعاء رسميا التدخل في شؤونها الداخلية. ونقلت وكالة الأنباء اليمنية الرسمية «سبأ» عن مصدر مسؤول بالخارجية اليمنية أن بلاده تابعت تصريحات متكي، وهي ترفض مطلقا التدخل في الشؤون الداخلية لليمن من قبل أي جهة كانت أو ادعاء الوصاية أو الحرص على أي من أبناء الشعب اليمني. صمت واشنطن الطويل هنا يجب التذكير بما سجله الملاحظون وهو أن الولايات المتحدة التي تعتبر رسميا حليفا للرياض ظلت تلتزم الصمت تجاه تحول حرب الحوثيين الى مواجهة إقليمية. زيادة أنه قبل دخول الرياض المواجهات المسلحة رسميا دعت واشنطن الى حل سلمي وأشارت ان الحلول العسكرية لن تنهي المشكل. بل أن مصادر أمريكية تحدثت عن إستحالة سيطرة الرياض على حدودها مع اليمن التي تمتد مسافة 1500 كلم. وجاء هذا التحليل رغم نشر مراقبين على صفحات صحف أمريكية عن أن المواجهات الدائرة بين السعودية والحوثيين هي حرب بالوكالة في الشرق الأوسط بين إيران ذات الغالبية الشيعية والسعودية الدولة السنية، والحليف الرئيسي لواشنطن. صحيفة الواشنطن بوست كتبت في نوفمبر «صار من الوضوح أن الحوثيين قد اتخذوا، وجهة أخرى لمعركتهم التي يخوضونها في صعدة، شمال اليمن، مع الجيش اليمني، وهي وجهة بدت، في اتساع نطاقها إلى خارج حدود اليمن، مفاجئة لدى بعض الأوساط السياسية، فيما لم يجدها البعض سوى مكملة لمطمح استراتيجي يستهدف إحداث تغيير ما في المنطقة يصبح فيه الوجود الإيراني هو المحدد لمسار السياسة العامة في هذه الدول، إذا لم يكن هو المهيمن. صحف أمريكية ذكرت كذلك أن البنتاغون الأمريكي لم يرد في شهر اكتوبر خلال الآجال المتعارف عليها على طلب سعودي بكميات هامة من قنابل الطائرات المضادة للتحصينات وفسرت ذلك بأنه إشارة من إدارة أوباما الى السعودية بأنه يجب البحث عن حلول سياسية بدلا من الحلول العسكرية. صحف تصدر في مدينة هونك كونغ تحدثت وليس في نفس التوقيت عن عقد الرياض صفقة مع بكين للحصول على قنابل للطائرات تنتجها الصين وتصلح للطائرات الأمريكية التي يستخدمها الطيران السعودي. وأخيرا وعندما تأكدت مصادر الرصد الأمريكية من سير السعودية واليمن على استراتيجية تقود الى نهاية قريبة وحاسمة الى حد كبير للتمرد الحوثي، أصدرت الخارجية الأمريكية تصريحا يساند الرياض في الدفاع عن أراضيها. مع نهاية الثلث الأول من شهر نوفمبر 2009 قدرت وسائل الإعلام الدولية أن الحيثيين خسروا جولة وإن لم يخسروا بعد الحرب خاصة بعد أن أكد مساعد وزير الدفاع السعودي الامير خالد بن سلطان آل سعود يوم الثلاثاء 10 نوفمبر ان الرياض ستواصل غاراتها الجوية على المتمردين الزيديين الى ان يتراجع الحوثيون «عشرات الكيلومترات من الحدود السعودية». وبدت تصريحات الامير خالد، الذي كان يتحدث خلال زيارة لموقع عسكري على طريق مدينة الخوبة بالقرب من الحدود مع اليمن، وكأنها تأكيد لما ذكره المتمردون الحوثيون عن قيام الجيش السعودي بشن غاراته داخل الاراضي اليمنية. وأكد الأمير خالد انه تم «تطهير» الاراضي السعودية من المتمردين الحوثيين. وكان الرئيس اليمني علي عبدالله صالح قد تعهد عدم وقف الحرب الدائرة في شمال البلاد، مؤكدا ان «لا مصالحة ولا مهادنة ولا وقف للحرب «قبل القضاء نهائيا على المتمردين الحوثيين. الرياض التي دخلت المعركة بعد تردد، أكدت أنها لن توقف العمل العسكري سوى إذا تراجع الحوثييون عشرات الكليومترات من الحدود، أو بمعنى آخر نهاية تمردهم لأن المواقع المتقدمة للجيش اليمني تقع داخل هذا النطاق. تورط الحوثيين على الأراضي السعودية كلفهم الكثير من الخسائر فبالاضافة الى مئات القتلى والجرحى الذين سقطوا في المواجهات، أكدت الرياض انها أسرت حتى يوم 11 نوفمبر أكثر من 800 من المتسللين، في نفس الوقت كشفت مصادر إعلامية سعودية ويمنية أنه تم ضبط اتصالات بين الحوثيين باللغة الفارسية. حصار من الجنوب عندما شبت المواجهة السادسة بين الحوثيين والجيش اليمني في الصيف الماضي، استبعد البعض أن يتجه الحوثيون في معركتهم نحو السعودية إلا أن تصريحات قادة التمرد التي زعموا فيها أن الجيش اليمني يتلقى تسهيلات من أراض سعودية لمحاربتهم كانت بمثابة الدليل على أن أهدافهم تتعدى حدود اليمن. بعض التقارير التي وضعتها مصادر الرصد الألمانية والفرنسية قبل صيف 2009، أفادت أن إيران تريد تصعيد التوتر في شبه الجزيرة العربية، وأن فرضية تحرك الحوثيين ضد الأراضي السعودية في منطقة الحدود الجبلية الوعرة، تعني أن هناك مخططا لتحريك إضطرابات في شرق السعودية حيث تقطن أقلية شيعية تحاول طهران منذ أكثر من عقدين استمالتها وخلق طابور خامس داخلها. ربط مناوشات تنظيم القاعدة وهجوم الحوثيين على السعودية يتأكد يوما بعد آخر ويظهر كمخطط وجزء من عملية أكبر. في 27 أغسطس 2009 كادت القاعدة تنجح في إغتيال مساعد وزير الداخلية الأمير محمد بن نايف الذي تعتبره القاعدة والحركات الشيعية المناهضة للرياض من أخطر خصومها. محاولة الإغتيال تمت في محل إقامة المسؤول السعودي وإنتحر منفذ المحاولة عبد الله عسيري. مباشرة بعد ذلك جرى اعتقال 44 مسلحا خططوا لتنفيذ هجمات داخل السعودية وتمت مصادرة 17 بندقية و 50 رشاشا و 96 آلة تفجير عن بعد بالإضافة إلى كميات هامة من الذخيرة. في أعقاب ذلك تتالت عمليات الكشف عن مخازن أسلحة هامة، آخرها في شهر نوفمبر حيث أعلن عن اكتشاف مخبأ كبير للأسلحة قرب الرياض، وأظهر التلفزيون السعودي رجال الأمن وهم يكشفون النقاب عن 281 بندقية هجومية و41 ألف طلقة كانت مخبأة في كتلة خرسانية مدفونة. في 21 اكتوبر 2009 نشرت وكالة فرانس برس ملخصا لتقارير محللين في الأجهزة الأمنية الغربية جاء فيه: بعد ثلاث سنوات من انحسارها في السعودية، تبدو القاعدة عازمة على استخدام اليمن جبهة خلفية لشن هجمات جديدة على السعودية، وهو الأمر الذي جسدته محاولة الاغتيال الفاشلة التي استهدفت اميرا سعوديا ومحاولة التسلل الى البلاد من الحدود مع اليمن والقيام بتفجيرات. وتؤكد هذه المعطيات رغبة «تنظيم القاعدة في جزيرة العرب» بتكريس اليمن جبهة خلفية لشن هجمات على السعودية. وتم تشكيل «تنظيم القاعدة في جزيرة العرب» عبر الدمج بين الفرعين السعودي واليمني لتنظيم القاعدة، وهو بزعامة اليمني ناصر الوحيشي. ويرى انور عشقي مدير مركز الشرق الاوسط للدراسات الاستراتيجية والقانونية في جدة أن استخدام اليمن من قبل القاعدة يترافق مع تغيير في تكتيك التنظيم. وقال عشقي ان «عناصر القاعدة لم يغيروا استراتيجيتهم الا أنهم يريدون استهداف اشخاص من النخبة السعودية». وكان مايكل ليتر مدير المركز الامريكي الوطني لمكافحة الارهاب قد قال أمام مجلس الشيوخ الامريكي في سبتمبر 2009 «نشهد عودة للقاعدة في الجزيرة العربية، واليمن يشكل ارض المعركة الرئيسية وقاعدة اقليمية محتملة يمكن للتنظيم ان يشن انطلاقا منها الهجمات وأن يدرب المجندين ويسهل إنتقال المقاتلين». تقاطع المصالح ولا يمكن إغفال حقيقة أن الجماعة الحوثية التي تتلقى الدعم الخارجي من إيران نتيجة للتشابه المذهبي وتقاطع المصالح السياسية، تعرف كذلك تعاونا كثيفا مع تنظيم القاعدة خاصة فيما يتعلق بالتسلح. ومهما كان هنالك من اختلاف مذهبي بين الحوثية والقاعدة إلا أن تقاطع المصالح يشكل عامل تلاق، فجميع الأطراف الثلاثة تهدف إلى زعزعة استقرار اليمن والسعودية بل وكل أقطار الجزيرة العربية. كشف مزيد من المعطيات عن تلاقي القاعدة والحوثيين وإيران، دفع بهذه الأطراف وبسرعة وتوقيت متقارب وعبر نفس الأبواق المساندة للتمرد في اليمن الى محاولة التمويه، فقد وجه قيادي يعتقد أنه يتزعم حاليا ما يعرف ب «تنظيم القاعدة في الجزيرة العربية» انتقادات إلى إيران، كما ندد بالسياسة السعودية، متوعدا الرياض بهجمات دامية، على غرار محاولة اغتيال نائب وزير الداخلية. وبرز في التسجيل المنسوب إلى محمد عبد الرحمن الراشد رفضه التقارير التي تربط تنظيمه بطهران، في توقيت تزامن مع إصدار زعيم المسلحين، عبد الملك الحوثي، لتسجيل مماثل، ينفي فيه صلة الحوثيين بالقاعدة أو إيران. الخبراء العسكريون في أوروبا وخاصة الألمان يرون ان طهران عبر تدخلها بشكل متزايد في الشأن اليمني، تهدف إلى تعديل الوضع في هذا البلد ذي الموقع الإستراتيجي الهام وذلك في نطاق صراع إقليمي تخوضه مع دول الخليج العربي وتستهدف به بعد ترسخ نفوذها في العراق، الى فرض حصار على السعودية وجاراتها، خاصة الإمارات العربية المتحدة وعزلهما مما يسهل هيمنتها على المنطقة، وبالتالي تحسين أوراق مساومتها مع القوى العالمية الأخرى لتقاسم «الكعكة». طموحات إمبريالية كتب نعوم تشومسكي في كتابه طموحات إمبريالية: بدأت أوروبا ومنطقة شرق آسيا تحتلان مركزا اقتصاديا عالميا مهما لا يقل أهمية عن مركز الولايات المتحدةالأمريكية، ولكنها مجموعات اقتصادية مرتبطة ببعضها ولديها مصالح مشتركة، وإن كان لكل منها مصالح منفصلة. طالما كان للولايات المتحدةالأمريكية موقف متناقض تجاه أوروبا، فهي تريد أوروبا موحدة تكون سوقا أكثر كفاءة للشركات الأمريكية تقدم مزايا من الحجم الكبير، لكنها تخشى دائما التهديد الناجم عن احتمال تحرك أوروبا في اتجاه آخر، ويتصل بذلك انضمام العديد من دول أوروبا الشرقية إلى الاتحاد الأوروبي. فالولايات المتحدة تؤيد عملية الانضمام هذه لأنها تأمل أن تكون هذه البلدان أكثر عرضة للنفوذ الأمريكي، وأن تتمكن من تقويض نواة أوروبا، وهي فرنساوألمانيا. واشنطن تخشى خاصة بعد أن توحدت المانيا من أن يعيد التاريخ نفسه وتصطدم مصالحها مع مصالح برلين، ويحدث تحول نحو عالم جديد في موازين قواه، موازين قامت من أجلها حربين عالميتين. الاعبون وراء الستار والذين يتحكمون في القوة العالمية الأولى التي بزغت بعد نهاية الإتحاد السوفيتي يرتعدون أمام أي تحالف بين القوى الأوروبية المتزعمة ألمانيا مع قوى أخرى كالصين أو روسيا أو قوى أخرى تملك مقومات القوة والثقل الحضاري والتاريخي مما يكفل تعدد مراكز القوة بعيدا عن المحور الوحيد الذي شرع في الترسخ فيه منذ سقوط الأندلس في القرن الخامس عشر. عالم الاجتماع الإيطالي أنطونيو غرامسكي كتب في سنة 1925 «إن إحدى العقبات الرئيسية أمام التغيير هي أن القوى المهيمنة تعيد إنتاج أيدولوجية الهيمنة، ومن المهام الجليلة والملحة تطوير تفسيرات بديلة للواقع. ويقدم روبرت مكنمارا في الفيلم الوثائقي «ضباب الحرب» اعترافا مثيرا للاهتمام، فهو يستشهد بقول الجنرال كورتي ليماي، وكان قد خدم معه في فترة قصف المدن اليابانية بالقنابل الحارقة في الحرب العالمية الثانية، «لو خسرنا الحرب لكنا حوكمنا جميعا كمجرمي حرب» فما الذي يجعل الحرب غير أخلاقية إذا خسرت وأخلاقية إذا ربحت ؟. إن الإستراتيجية الأمريكية التي تفسر السلوك الأمريكي الأخير هي إستراتيجية الدفاع الوقائي، وهي كما تقول مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأمريكية في عهد كليتنون كانت موجودة في جيب أي رئيس، ولكن بوش الأبن هو من استخدمها، وقد علق هنري كيسنغر على هذه الإستراتيجية بأنها تمزق ميثاق الأممالمتحدة والقانون الدولي، بل وتلغي منظومة وستفاليا للقانون الدولي التي وضعت في القرن السابع عشر. إن الحرب رهان والسلام رهان والمشروعات الكبري سياسية واقتصادية وأمنية رهانات يضع فيها كل طرف أرصدته علي «مأمول مطلوب» يبحث عن الحق أو التفوق أو التقدم أو الأمن، وذلك جار من بداية القصة الإنسانية إلي نهايتها، هذا إذا كانت للقصة الإنسانية نهاية. النفط في نهاية القرن العشرين أنجز محللو مراكز الرصد الألمانية تقريرا عن الوضع في منطقة سموها البطن الرخو للشرق الأوسط التي تحتفظ في باطنها بأهم مخزون عالمي للنفط والغاز وجاء فيه: وضعت وزارة الدفاع الأمريكية خارطة مؤثرة ومثبتة ومعلومة لإقامة نظام حافظ للمورد العالمي الأساسي من الطاقة أو ما وصفته بالطوق أو الحزام من الناحية العسكرية والتعبوية والإستراتيجية. وأضافت أن ما يمكن تسميته بالحزام الصحراوي لا يستبعد أي سيناريو للوصول الى الهدف المنشود فهو لا يبالي في تطبيق خطط لنقل الفوضى من جزيرة سقطري اليمنية حتى المغرب. يوم 10 نوفمبر 2009 ذكرت صحيفة «الغارديان» البريطانية ان العالم قريب جدا من نفاد مخزون النفط وهذا ما تؤكده تقديرات الوكالة الدولية للطاقة التي تخفف من خطر نفاد المخزون كي لا تخلق حركة ذعر. ونقل الموقع الالكتروني للصحيفة عن مسؤول كبير في الوكالة رفض الكشف عن إسمه أن الولايات المتحدة لعبت دورا مهما من أجل تشجيع الوكالة الدولية للطاقة للتقليل من أهمية نضوب حقول النفط الحالية والى المبالغة من فرص ايجاد احتياطي جديد. وفي تقرير للوكالة نشر في منتصف شهر نوفمبر 2009 ولا يعرف هل تدخلت واشنطن أو غيرها في صياغته رغم أن عددا من الحكومات تعتمده لرسم سياستها في مجال الطاقة وتغير المناخ. يؤكد أن انتاج النفط قد يتراجع من 105 ملايين برميل يوميا حاليا الى 83 مليون برميل يوميا. وقال المسؤول للغارديان ان «كثيرين داخل الوكالة الدولية للطاقة يعتبرون انه حتى مستوى انتاج ما بين 90 و95 مليون برميل يوميا سيكون مستحيلا، ولكن يخشى حصول حركات ذعر في الاسواق المالية في حال انخفضت الارقام». واضاف ان «الامريكيين يخشون انتهاء هيمنتهم على النفط لأن ذلك من شأنه ان يهدد نفوذهم القائم على قدرة الوصول والتحكم في المصادر النفطية». وكذلك أوضح مصدر اخر في الوكالة الدولية للطاقة فضل أيضا عدم الكشف عن هويته أن القواعد الاساسية للوكالة هي «عدم اغضاب الامريكيين» ولكن بالواقع فإن الكميات من النفط في العالم التي تؤكد الوكالة وجودها غير متوفرة». وقال «وصلنا الى اعلى نقطة في ما يتعلق بالنفط. اعتقد ان الوضع هو فعلا سيء». وتضم الوكالة الدولية للطاقة 28 دولة، اعضاء في منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية. مصادر أوروبية ذكرت ان الوكالة أغفلت في التقرير الذي نشرته الغارديان أن تبين أن غالبية التقديرات المبالغ فيها تتعلق بالرصيد الخاص بالولايات المتحدة وكندا وحقول بحر الشمال وخليج المكسيك وبحر قزوين. وبمعنى آخر فإن المخزون الموجود في الشرق الأوسط لا يعنيه التزييف. وهنا يجب التذكير أن فيما يخص حجم الاحتياطي النفطي المكتشف والمثبت رسميا في العالم فانه يبلغ 1050 مليار برميل حسب آخر احصائيات سنة 2007، موجود منه في دول مجلس التعاون الخليجي حوالي 450 مليار برميل، أي ما يعادل 43 في المائة من مجموع احتياطي العالم المكتشف. ولو أضفنا حجم الاحتياطي الموجود في العراق والمقدر حتى ما قبل ابريل 2008 كحد أدنى ب120 مليار برميل، يصبح حجم الاحتياطي النفطي العربي 570 مليار برميل، بما يعادل 54 في المائة من مجموع احتياطي العالم، وعليه فأكثر من نصف الاحتياطي النفطي في العالم موجود في المنطقة العربية، في حين ان الدراسات تشير إلى ان أقصى توقع لحجم الاحتياطي النفطي في منطقة بحر قزوين لا يتجاوز 150 مليار برميل وهو ما يمثل نسبة 15 في المائة من مجموع الاحتياطي العالمي. وفي الوقت الذي يصدر من هذا الاحتياطي 100 ألف برميل نفط يوميا، فان حقول النفط العربية تؤمن للعالم يوميا ما يقارب 25 مليون برميل، منها 21 مليونا من دول مجلس التعاون الخليجي. في وقت متقارب تقريبا أفادت تقارير لشركة البترول البريطانية أن مناطق واسعة من أراضي شمال اليمن وجازان السعودية تحتفظ في باطنها بمخزون ضخم من النفط والغاز وأن الحقول الباطنية تمتد حتى حضرموت في جنوب اليمن والمنطقة البحرية من جنوب عدن حتى جزيرة سقرطي اليمنية وجنوب مضيق باب المندب المدخل الجنوبي للبحر الأحمر. قوة مستهلكي النفط قبل ذلك ويوم 15 سبتمبر 2008 كتب هنري كيسنغر، وزير الخارجية الأسبق، ومارتن فلدستاين مقالا نشرته صحيفة «واشنطن بوست» تحت عنوان «قوة مستهلكي النفط»، استهلاه بقولهما «إن ارتفاع أسعار النفط بنحو ثلاثة أضعاف من 30 دولار إلى أكثر من 100 دولار للبرميل في الفترة من 2001 إلى اليوم تشكل أكبر تحويل مالي في التاريخ. إذ أنه من المتوقع أن تجني الدول الأعضاء بمنظمة «الأوبك» نحو الف مليار دولار هذا العام من مبيعات النفط، وهو ما سيترتب عليه العديد من العواقب السياسية الغير متوقعة ومنها تحكم الدول الضعيفة في الدول الكبرى إلى حد ما. المتتبع للأحداث في منطقة الشرق الأوسط الكبير كما حددها البيت الأبيض خلال سنوات حكم الرئيس بوش، ومحاولة ما سمي بالمحافظين الجدد إعادة رسم خريطة جديدة لدولها انطلاقا من أفغانستان مرورا بالعراق ولبنان ومصر حتى مشارف المحيط الأطلسي، يمكنه أن يحدد ما يمكن تسميته بطوق الإضطرابات وخلخلة الأنظمة على طول هذه المنطقة. المحاور الرئيسية لطوق الأزمات بعد سقوط أفغانستان والعراق في قبضة الإحتلال، أصبحت الجزيرة العربية حيث تنشط القاعدة وأنصار النظام الإيراني وإسرائيل ويجري السعي لإعادة تقسيم اليمن وتفتيت السعودية على أسس طائفية. وهناك على الساحل الآخر من البحر الأحمر السودان حيث تمول وتوجه حركات تمرد وإنفصال من جنوب البلاد حتى شمالها من طرف قوى مختلفة، فهناك الموساد الإسرائيلي في دارفور والجنوب الى جانب الكنيسة والولايات المتحدةالأمريكية، وفي شرق السودان يتحرك عملاء إيران وتنشط محاولة تشييع سكان المنطقة، والى الجنوب من السودان الذي يعتبر من العمق الإستراتيجي لمصر تتحرك تل أبيب لخنق مصر عن طريق تشجيع دول المنبع على حرمان القاهرة أكثر فأكثر من مياه النيل. وفي مصر تتحرك أذرع الأخطبوط الإسرائيلي ومعها أوساط أمريكية تثير الفتن بين الأقباط والمسلمين وتحارب مشاريع التسليح وتطالب من حين لآخر بفصل الصعيد والواحات الشرقية وحتى سيناء عن مصر. وفي مصر تتحرك بشكل متواز القاعدة ومخابرات الحرس الثوري الإيراني وأجهزة طهران المختلفة لتكوين الخلايا المسلحة والقيام بأعمال عنف الى غير ذلك. ومن ليبيا مرورا بالجزائر وتونس وحتى المغرب وموريتانيا تتفاعل المؤامرات تارة من إيران أو إسرائيل أو القاعدة وغيرهم من أجل زعزعة الإستقرار ونشر الفرقة والتشرذم ونعرات الإنفصال. تحالف وبكل بساطة نجد في نفس المركب الذي يحاول عجن منطقة الشرق الأوسط الكبير وإعادة تكوينها في قوالب جديدة، مجموعة من المحركين الذين قد لا يقبل الكثيرون فكرة تحالفهم وهم إسرائيل والولايات المتحدة والقاعدة وإيران وقوى استعمارية أخرى تلعب أدوارا ثانوية. أن ما يحدث في قلب الأمة العربية من تطور وإدراك متجدد بقيم الوحدة والتكتل وبعث لقدرات اقتصادية هو مصدر القلق الرئيسي للولايات المتحدة التي تحاول جاهدة بتخطيط ودفع صهيوني أن تعرقله بالمعارك والوجود العسكري وبإذكاء الحروب الأهلية والصراعات المذهبية وتكريس النزعة الانفصالية العرقية لشرذمة القوة الإقليمية التي تطمح إلى لعب دور عالمي في عالم متعدد الأقطاب. ثمة توجه واضح وأصيل في المشروع الصهيوني المدعوم أمريكيا، ومفاده دمج إسرائيل عضوا أصيلا في منطقة الشرق الأوسط، فمن المعروف أن مؤتمر بازل الذي أسس الحركة الصهيونية في العام 1897، وما تلاه من مؤتمرات صهيونية قد حددت ثلاث مراحل لبناء دولة إسرائيل: أولاها: تأسيس الدولة، وثانيتها: توفير وسائل تثبيت الدولة وبقائها (التفوق العسكري، الهيمنة العسكرية، المياه، الهجرة اليهودية ...) وثالثتها: وهي المرحلة الراهنة، الانتقال من الهيمنة العسكرية إلى الهيمنة الاقتصادية. ويعني هذا في بيئة المتغيرات الدولية الراهنة، إعادة رسم حدود كل الأقطار العربية على أسس عرقية وإثنية ولو مفتعلة حتى تصبح هذه المنطقة تضم زهاء 54 كيانا متنافرا تستطيع في ظله إسرائيل أن تستمر وتترعرع وتبعد عن نفسها شبح الإضمحلال. يرى هنري كيسنغر، وزير الخارجية الأمريكي الأسبق وهو يحاول رسم تحركات الولايات المتحدة مع عالم متبدل ومن أجل أن تحافظ على مركزها، «بأن الصراعات المهمة والمسلحة والخطرة لن تكون بين الطبقات الاجتماعية أو بين الغني والفقير، أو بين أي جماعات أخرى محددة اقتصاديا، بل ستكون بين شعوب تنتمي إلى كيانات ثقافية مختلفة، فالحروب القبلية والصراعات العرقية سوف تحدث داخل الحضارات، إلا أن العنف بين الدول والجماعات المنتمية إلى حضارات مختلفة يحمل معه إمكانية التصعيد». هكذا يتضح حجم الأخطار التي تهدد الأمة العربية من الخليج العربي الى المحيط الأطلسي، انهم يبنون الطوق حول المنطقة ليرسموا فترة هيمنة استعمارية جديدة متعددة الأقطاب.