تحدث موفق صادق العطار في مقدمة كتابه «المحافظون الجدد والحكم الإمبراطوري» الصادر عن دار الأوائل في سوريا سنة 2007، عن انبثاق فئة من الوسط المسيحي في الولاياتالمتحدةالأمريكية تنادي بضرورة اعتبار (إسرائيل) حليفا استراتيجيا وحيدا للولايات المتحدة، يجب الاعتماد عليه، والارتباط برباط وثيق وعلاقات وشيجه معه؛ وتنطلق أفكار هذا الفريق المسيحي المتصهين من الاعتقاد بأن هناك ترابطا عقائديا وأدبيات دينية تجمع الديانتين اليهودية والمسيحية في تراث ديني واحد. وهذا الاعتقاد هو الذي ساعد على بروز ظاهرة المسيحية الصهيونية، التي انطلقت عقيدتها الفكرية من تفسيرات معينة لكتابات العهد القديم، والنبوءات الواردة في أسفاره، واعتبار هذه المقولات أمرا إلهيا يجب العمل على تطبيقه. لقد تغلغلت هذه الأفكار في عقول العديد من المسيحيين البروتستانت الأوائل، الذين اعتقدوا، وربطوا نزوحهم الى أرض العالم الجديد (أمريكا) بنزوح اليهود الى الأرض المقدسة (فلسطين)، وعدوا بسبب إيمانهم الشديد بكتابات العهد القديم بأن هجرتهم الى أمريكا تشبه هجرة أجدادهم العبرانيين القدماء. ولاشك أن تأثر العقيدة البروتسانتية باليهودية، واعتمادها التراث التوراتي، وإيمانها بما جاءت به أسفار العهد القديم بكل اختلاقاتها وشطحاتها، وإعطاء هذه الأسفار أهمية أكبر من أسفار الإنجيل، قد عزز مع مرور الزمن مكانة اليهودية في الفكر المسيحي، وساعد إلى حد على تغيير صورة اليهود في أذهان المسيحيين الجدد. يعتمد المسيحيون الصهيونيون والذين تشكل البروتستانت غالبيتهم العظمى في موقفهم المنادي بضرورة دعم (إسرائيل) والدفاع عن الشعب اليهودي، ومعارضة كل من ينتقد أو يعادي الدولة العبرية على إيمان البروتستانت بأن اليهود آيلون الى هلاك محتوم قبل يوم القيامة، إذا لم يتحولوا الى المسيحية بعد عودة المسيح الثانية. لقد تأثر هؤلاء البروتستانت باليهودية تأثرا كبيرا، وأصبحت اليهودية بالنسبة لهم عقيدة لصيقة بعقيدتهم المسيحية، وأصبح إيمان هؤلاء المسيحيين الصهيونيين بضرورة «عودة الشعب اليهودي الى الأرض الموعودة (إسرائيل)!» وإقامة كيان يهودي فيها إيمانا مترسخا، سبق بمراحل بعيدة بروز الحركة الصهيونية، التي تدعو الى إنشاء الوطن القومي اليهودي في الأرض المقدسة فلسطين. ولعل بروز التيار اليميني المحافظ المدعوم من الأصولية المسيحية والمتحالف مع التيارات الدينية المتطرفة على الساحة الأمريكية منذ بداية النصف الثاني من القرن الماضي، ألقى أضواء ساطعة على نشاط حركة المسيحيين الصهيونيين، فأبرز هذه الحركة، التي لم يكن يشار إليها بهذا الاسم (المسيحيون الصهيونيون) قبل بداية السبعينيات من القرن الماضي، وأصبح كل مسيحي يؤمن بدعم (إسرائيل) والدفاع عنها يدخل تحت اسم حركة المسيحيين الصهيونيين. ***************** عوائق الطموحات الإمبراطورية ذكر المؤلف عوائق أمام الطموحات الإمبراطورية الأمريكية التي تدعو إليها حركة المحافظين الجدد، واليمين المسيحي الأصولي. ومن هذه العوائق ماهو خارجي كالتكتل المحتمل بروزه في دول أوروبا الغربية، التي استقطبت عددا من دول أوروبا الشرقية، واحتمال تحرك هذه الدول في اتجاه لا يتفق مع مصالح الولاياتالمتحدة وكذلك إمكانية استعادة روسيا لدورها المناهض للسياسة الأمريكية. وأيضا في آسيا، فلا تزال احتمالات إنشاء محور صيني هندي معارض للولايات المتحدة قائما، مما يجعل تحقيق الحلم الإمبراطوري أمام تلك العوامل أمرا غير يسير. أما العائق الداخلي الذي يسعى الائتلاف اليميني الأصولي الى تجاوزه وإفشال معارضته لمشروعه؛ فيتمثل في التيار الليبرالي الذي يعارض بشدة وبحزم مخطط هذا الائتلاف الذي يقوده المحافظون الجدد، والمسيحيون الأصوليون، والذي يتبنى سياسات يمينية محافظة موغلة في الدخول في أنظمة اجتماعية مجحفة بحق الطبقات الكادحة. ويطرح المؤلف سؤالا: هل ستحول هذه العوائق دون استمرار الائتلاف اليميني المحافظ في تنفيذ مخططاته، والإصرار على تحقيق برنامجه السياسي؟ وفي الواقع... فإن التحالف اليميني الأصولي اختار عددا من العناوين السياسية الجذابة لفرض رؤياه ومذهبه السياسي الداعي الى الهيمنة الإمبريالية، وتحقيق الحلم الإمبراطوري الأمريكي. فمن هذه العناوين المفروضة على الشعب الأمريكي: محاربة الإرهاب التصدي لدول محور الشر طرح مبدأ الحروب الوقائية الإيهام بضرورة سيادة أمريكا للعالم، والتمتع بالقوى العظمى، التي لا تقبل أي منافس لها، مع تبني سياسة استراتيجية (استراتيجية الدفاع الوقائي). (ص 129). وبالطبع فتلطعات هذه السياسات تعني عدم الاهتمام بالشرعية الدولية وميثاق الأممالمتحدة. يقول المؤلف: «إلا أننا نعتقد أن كل هذه المظاهر للقوة الإمبريالية الأمريكية الطامعة الى تحقيق حلمها الإمبراطوري، وذلك من خلال: 1 احتكار التفوق العسكري، والقوة العسكرية المطلقة. 2 امتلاك النفوذ والهيمنة السياسية على حلفائها المشتركين معها في حلف الأطلسي. 3 التمتع باحتكار القرار الاقتصادي العالمي، من خلال السيطرة على المؤسسات المالية العالمية كصندوق النقد الدولي، وبنك الإنشاء والتعمير. 4 السيطرة شبه الكاملة على أجهزة الإعلام، ووسائل الاتصالات، ووكالات الأنباء العالمية. 5 احتلال أكبر جزء من الدعاية الإعلامية من خلال القنوات التلفزيونية المسيطرة على ما يفوق من 90% من الإعلام المبثوث. لا تزال تجابه عائقا يصعب التغلب عليه بسهولة، ويتمثل هذا العائق في نضال الشعب الأمريكي المكافح لإفشال هذه الطموحات الإمبريالية، التي ترى أكثرية المثقفين الليبراليين أنها تمثل تهديدا للسلام العالمي، وتقويضا لقيام نظام عالمي يعتمد على المشاركة والتعاون، ولا يقبل بالهيمنة، أو سيطرة القطب الواحد». (ص 130) وخصص المؤلف الفصل الرابع من كتابه للحديث عن «المحافظين الجدد وأجهزة إعلامهم»، ويورد قول مارك دين في كتابه «محافظون بلاضمير»: «إنّ المحافظين الجدد يُحاولون تغيير كل شيء في الولاياتالمتحدة، ويجهدون - من خلال الآلية الضخمة من أجهزة إعلامهم المتمثّلة بعدد كبير من مراكز الأبحاث والدراسات التي أسسوها، أو التي سيطروا عليها، إلى إقناع المجتمع الأمريكي بقبول مشاريعهم، ونظرياتهم، وبرامجهم الفكرية. ان اعتماد حركة المحافظين الجدد على نفوذ تلك المراكز ومؤسسات الأبحاث Think Tanks التي استقطبت عدداًكبيراً من رجال الفكر والسياسة الأمريكيين اليمينيين، الذين ارتبطوا - عضوياً، وفكرياً. بالحركة يستند على ما لهذه المراكز من النفوذ والتأثير لدى الإدارات الأمريكية المسؤولة. وفي الواقع؛ فإنّ مراكز الأبحاث تلك - نظراً لاستقطابها عدداً كبيراً من الوجوه البارزة في المجتمع الأمريكي - فإن أبحاثها ودراساتها تلعب دوراً مهما في مسيرة القرار السياسي للإدارات الأمريكية، وخاصة عندما تتفق تلك الأبحاث المُقدمة منها، والدراسات المقترح إنتهاجها مع توجُّهات الإدارة المتربعة على كرسي السلطة في البيت الأبيض. وهذا ما بدا واضحاً في السلوك الذي انتهجه الرئيس جورج بوش الابن عندما تبنى معظم الأفكار المتطرّفة، والمقترحات المتميّزة بالتّشدُّد والتطرف، التي دعت إليها معظم تلك المراكز، التي تدين بالولاء لحركة المُحافظين الجدُد» (ص 133). وأشار المؤلف إلى أنّ المنظّمات اليهودية، التي تمتلك عدداً كبيراً من أجهزة الإعلام - لديْها إمكانيات كبيرة لتشويه الحقائق المتعلّقة بالشرق الأوسط. وتقدّم هذه المنظمات حقائق مشوهة ومُحرّفة عن العرب والمسلمين. وتعتبر منظمة إيباك AIPAC - لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية - أولى هذه المنظمات اليهودية من حيث نشر أساطير حول العرب والمسلمين في الولاياتالمتحدة. وأبرز مراكز الأبحاث الداعمة للمحافظين الجدد: معهد أمريكان أنتربرايز لأبحاث السياسات العامة، ومؤسسة التراث، ومعهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، ومعهد هدسون الطليعي، ومركز السياسة الأمنية، ومشروع القرن الأمريكي الجديد، والمعهد اليهودي لشؤون الأمن القومي . ثم أفرد المؤلف الفصل الخامس لذكر أبرز أركان حركة المحافظين الجدد. مبيّنا السمة اليهودية الطاغية عليهم. وقال في هذا الصدد: «لم تكن أحلام المُحافظين الجُدُد في رؤية إمبراطورية أمريكية تحكم العالم، وتتحكم بمصير دولة تختلف عمّا كان يسعى إليه اليمين الأمريكي بمختلف أطيافه. إلا أن الفرق الوحيد الذي تميزّت به حركة المحافظين الجدد عن قريبها اليمين الأمريكي الأصولي، وفروعه، هو الانحياز الصارخ ل (إسرائيل)، والتأييد الأعمى لليمين الحاكم فيها. ورغم توجيه أصابع الاتهام الصريح لعدد من زعماء هذه الحركة بتسريب معلومات سرية أمنية إلى (إسرائيل)، إلا أنّ جميع أبرز وجوه هذه الحركة الذين لا يخفون انتماءهم إلى الديانة اليهودية يُصرّون بوقاحة بالغة على دعمهم القوي ل (إسرائيل)» (ص 149) هذا الكيان الذي يدينون بديانته. هل هي بداية نهاية حركة المحافظين الجدد؟ وجواباً على سؤال طرحه المؤلف: هل هي بداية نهاية حركة المحافظين الجدد؟ نبه إلى أن هناك آراء يمينية يدعمها عدد من المؤسسات الإعلامية ومراكز الأبحاث، تساند بقوّة حركة المحافظين الجدد، وهي: مؤسسة التراث، والتحالف المسيحي، ومنظمة نساء أمريكا، ومعهد كاتو، ومركز البحث الإعلامي، بالإضافة إلى الاتحاد الوطني للأعمال المستقلة، والرابطة الوطنية للتنقيب؛ وغرفة التجارة الأمريكية، ويعلق على ذلك بقوله: «مما سبقت الإشارة إليه؛ يتضح لنا أن الفكر المحافظ الذي يمثل أبرز أطيافه حركة المحافظين الجدد لايزال يلعب دوراًَ مؤثرا في الحياة الأمريكية. وإذا علمنا من طرف آخر أنّ حركة المحافظين الجدد تأتي في مقدمة الجهات النافذة التي تلعب دوراً هامّا في القرار السياسي الأمريكي بجانب كلّ من: 1 الجماعات الأصولية بشقّيْها الأصولي والصهيوني. 2 محافظي الحزب الجمهوري. 3 اللوبي اليهودي المؤيد ل (إسرائيل). 4 اللوبي المؤيّد لحركة المحافظين الجدد. 5 الشركات الأمريكية العاملة في حقل النفط. 6 الشركات المنتجة للسلاح. 7 حلفاء أمريكا في منطقة الخليج أدركنا أن صانعي القرار في البيت الأبيض لابد أن يعطوا هذه الحركة الأهمية اللازمة، وخاصة تلك القرارات المتعلقة بمنطقة الشرق الأوسط، والعلاقة مع العالمين العربي والإسلامي» (ص 160 161). ويرى المؤلف أن حركة المحافظين الجدد لن تسترجع مكانتها في الوسط الأمريكي، ويستدل على ذلك بعدة مؤشرات. يقول: «ويرى بعضُ المتابعين لسلوك المُحافظين الجُدد أنّ إمكانية استغلال الحركة للصراع الذي تقوده الأصولية المسيحية المدعومة بتأييد اليمين المسيحي الصهيوني مع العالم الإسلامي وحركاته الراديكالية لترتيب صفوفها والاستفادة من تأجج هذا الصراع أمراً ممكناً، وقابلاً للحدوث. فالنظرة السريعة لهذا الصراع الذي يقوده اليمين المتطرف، الذي أطلق عنان الحرب العقائدية تحت عنوان الصراع مع الحضارة الإسلامية، التي يصفها أحيانا بحضارة الإرهاب، وأحيانا بالحضارة الفاشية، والذي يضع كل تيارات وأطياف الحركات الإسلامية في سلّة واحدة، ويطلق عليها اسم الإسلام تشير إلى أنّ تأجيج هذا الصدام لابد وأن يفيد حركة المحافظين الجُدد التي تلتقي أفكارها ومناهجها مع أفكار هذا اليمين، الذي يتزعم هذه الحملة على الإسلام، ويحلم بالانتصار عليه بالضربة القاضية لإقامة إمبراطوريته التي يحلم بها». ويضيف المؤلف: «ولربما كان الفشل الذي واكب هذا اليمين في غزوه لأفغانستان وما تلاه من إحباط في تجميل الكوارث التي أنتجها غزوه الفاشل للعراق، وافتضاح دعواته الكاذبة التي أطلقها لتبرير هذا الغزو بحجة نشر الديمقراطية وإنقاذ العالم من أسلحة الدمار الشامل التي يمتلكها صدام حسين ونظامه الديكتاتوري، ثم تخبّط مسيرة هذا اليمين في إدارة الشؤون العراقية، وعجزه الفاضح لمنع الفوضى والاقتتال الطائفي بين سُكان هذا البلد المنكوب بالاحتلال إضافة إلى مواقفه المخزية وغير الشريفة في دعمه ل (إسرائيل) في عدوانها الغاشم على لبنان، ورفضه الموافقة على إيقاف مذابح الجيش الإسرائيلي للمدنيين اللبنانيين، وتدميره الوحشي واللاإنساني للبنية التحتية لهذا البلد الصغير، ثم التغافل عن جرائم هذا الجيش لممارسته أقصى أنواع القتل والتدمير في الأراضي الفلسطينية، واستباحته دماء المدنيين الفلسطينيين الأبرياء، وأخيراً، فشله في إقامة تحالف وتكتّل إقليمي عربي لمحاربة إيران؛ البلد الذي يسعى إلى ممارسة سيادته لتنمية موارده، وخاصة فيما يتعلق باستخدام الطاقة النووية للأغراض السلمية. إن كل تلك المؤشّرات لابد وأن تُشكل عاملاً هاماً يحول دون إمكانية استرجاع حركة المُحافظين الجُدد المكانة التي كانت تتمتّع بها في الوسط الأمريكي، بل ربما أشارت تلك العوامل أيضا إلى أنّ العالم قد يكون على وشك الدخول في مقدّمة فوضى جديدة، تأمل حركة المُحافظين الجُدد أن تستغلها، لتلعب دوراً هاما على مسرحها» (ص 163 165). لكن هل يمكن للعرب أن يستفيدوا من هذا التراجع للمحافظين الجُدد؟ أم أنهم يبنون قصور أوهام فقط؟! يقول المؤلف: «إننا نعتقد أنه من الأفضل لأصحاب القرار في المنطقة العربية أن يُبقوا هاجساً ماثلاً أمام أعينهم، مفاده أن غرور القوّة ، والاعتداد بالنفس، والمغالاة بتوفّر إمكانيات النّصر قد يدفع حركة المحافظين الجُدد إلى ارتكاب تهوُّر ما، أو حماقة ما، في ممارسة النفوذ لاستعادة مراكز قوتها، وأن لا يذهبوا بعيداً في الظن بأنّ المعركة مع هذا التيار اليميني المحافظ قد انتهت لصالح القضية العربية، أو لصالح النظام العربي بشكل عام. لقد كان هذا التيار الذي تزعمته حركة المحافظين الجُدد من أشدِّ الدّاعين إلى الدخول في مجابهة مع العالميْن العربي والإسلامي، بل ذهب غلاته الى الدعوة الى تدمير العالم العربي، وتفتيت أوطانه، وكانت آخر صيحات غلاة هذا التيار بأن تسعى الولاياتالمتحدة الى تقسيم المملكة العربية السعودية ذاتها، وهي الحليف الأكبر للولايات المتحدة، إن ما تسرب من أخبار عن مشروع جيمس بيكر وزير الخارجية الأمريكية السابق والمناط به دراسة إنقاذ الإدارة الأمريكية من ورطتها في العراق، هو الدعوة الى تقسيم العراق الى ثلاث مناطق: كردية في الشمال، وسنية في الوسط، وشيعية في الجنوب. وبالمقابل؛ من الأفضل ألا ننسى أيضا التأييد التام الذي تحظى به (إسرائيل) من الديمقراطيين، فالحزب الديمقراطي قد يكون أكثر تفهما للقضايا العربية، وأكثر تفهما لوجهة النظر العربية بالنسبة للصراع العربي الإسرائيلي، إلا أن الحزب يبقى أيضا ملتزما التزاما قويا بأمن (إسرائيل)، ومستقبلها في المنطقة، ولا يقل تحالفه الاستراتيجي معها عن تحالف الحزب الجمهوري» (ص 167 168). وإذا كانت الرأسمالية العالمية تسعى الآن الى كسب معركتها التي صممت على دخولها ضد العالم الإسلامي، فإن وسيلتها الى ذلك كما قال المؤلف هي إثارة النعرة الطائفية وإدخال العالم الاسلامي في أتون الصراع الديني الطائفي وذلك من خلال التشجيع على قيام الحركات الطائفية المغرقة في تعصبها، وتذويب كل شعور المواطنية في بوتقة الطائفية البغيضة. فالصراع الطائفي هو الذي يضمن تحقيق ماعجز الاستعمار والاحتلال بكل أنواعه عن الوصول إليه. إن الفكر الإمبريالي الخالي من أي شعور إنساني، وغير الملتزم بأي مبدأ أخلاقي ليس مضطرا الى تبني شعارات صارخة تحمل عناوين طنانة، كصراع الحضارات، أو نشر العولمة، أو رفع شعار مكافحة ما يسمونه بالخطر الإسلامي، أو حتى الإعلان عن بداية الحروب الصليبية، التي تحمل شعار الإنجيل، والصليب، أو حتى إطلاق شعار الحرب على الإرهاب ، ذلك الإرهاب الذي تمارسه في الحقيقة مجموعات من مختلف الديانات، لايهمها الالتزام بقواعد عقائدية معينة، بل همها الوحيد القتل، والتدمير، وارتكاب كل انواع العنف... إن المهم لدى هذا الفكر الإمبريالي الآن هو تحقيق المطامع الاستعمارية التي تسعى الى الوصول لأهدافها ، دون النظر إلى مفهوم العدالة أو الإنسانية أو الحق، أو رفع المظالم التي تعانيها الشعوب، التي وقعت في قبضة التنين الرأسمالي البشع. الحرب الطائفية فالحرب الطائفية في أوجهها المختلفة هي التي اعتمدت عليها الرأسمالية العالمية بقيادة الولاياتالمتحدة لترويج بضاعتها الفتاكة، ومنتجاتها المدمرة، فهذه الحرب هي الكفيلة بتصدير كافة أنواع الأسلحة، وأدوات التدمير، التي تنقذ أوضاع اقتصاديات العالم الرأسمالي المعرضة دوما للهزات. ولهذا فالمؤلف يعتقد أن إيصال دول منطقة الشرق الأوسط الى حافة الصراع الطائفي والاقتتال الديني هو أقصى ما يحلم به الغرب بصورة عامة، والإدارة الأمريكية ومحافظوها الجدد بصورة خاصة ومكروا ومكر الله والله خيرُ الماكرين} [آل عمران: 54] ترهات الفرقان الأمريكي وضعت جهات مسيحية أمريكية ماكرة كتاب «الفرقان الحقّ» كبديل أمريكي للقرآن الكريم! من أجل التضليل والتدجيل. «مفاهيم خاطئة، ومعتقدات باطلة، وذهنية منفلتة من أي انضباط عقائدي صحيح وإيمان صادق عميق، وخشية من عذاب أليم في يوم لا ينفع فيه مال، ولا بنون، ولا جاه، ولا سلطة، ولا ينفع فيه الندم على افتراءات واختلاقات وتشويهات للحقيقة الإلهية والرسالة السماوية، كلُّ ذلك كان وراء تلك الادّعاءات الباطلة التي سيطرت على عقول أولئك الذين كانوا وراء ذلك الهراء الذي أطلقوا عليه باطلا وزوراً وبهتاناً اسم «الفرقان الحق» ذلك الكتاب الذي يحلمون أن يكون البديل الحديث لكتاب الله - عز وجل - القرآن الكريم، إنهم أولئك الذين يمكن أن نطلق عليهم الفئة الأكثر غباء، والأعمق جهالة، والأغنى تفاهة من أولئك الذين أرادوا أن يصبغوا المسيحية بالصبغة التي تتناسب مع ميولهم، وعواطفهم، وطموحاتهم السياسية، أكثر ما تتناسب مع إيمانهم وسلامة عقيدتهم (...). إن الهدف الحقيقي الذي يكمن وراء هذه المحاولة الجديدة لتفريغ الإسلام من قِيَمِه السماوية السَّامية هو تغيير صورة الإسلام، وإلغاء التراث الديني بكامله، وصياغة كتاب جديد يخلو من كل صور العداء، وكل أنواع الحثِّ على الدفاع عن العقيدة، وممارسة حق الدفاع عن الدين، والمجاهدة في سبيل الله، لرفع شأن دينه. وباختصار شديد؛ هو الرغبة في إقامة دين جديد يخلو من النصوص العقائدية، التي تدعو إلى إعلاء كلمة الحق، وتربية النفس على المجاهدة، والتضحية بالغالي والثمين لنصرة دين الله، والامتثال لأوامر رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم. إنها محاولة صليبية جديدة تستهدف نسف العقيدة الدينية من جذورها، وتَأمل - في مراحلها الأولى - إقناع المسلمين بأن القرآن الكريم لم يكن - في يوم من الأيام - كتاباً سماوياً..» (ص 195 - 196). وتتجلى الخطوط العامة للفرقان الأمريكي في عدة ملامح منها الاستعانة بالخبرة اليهودية المتعصبة، والأجهزة الناشطة في حقل محاربة الإسلام، وإيهام مسلمي العالم بأن الهدف من الكتاب هو مدّ يد المسيحيين إليهم، وإنهاء اللغة العربية، واستبدال أحرفها بالأحرف اللاتينية وإلغاء كل المقولات التي وردت في القرآن الكريم حول اليهود، والسعي الحثيث للظفر بتأييد المدرسة الحاخامية اليهودية لهذا المشروع ذي الصبغة المسيحية الأصولية، والهادف إلى تنصير مليار و300 مليون مسلم. صدى الهراء الأمريكي ويدحض المؤلف مطامع أصحاب هذا المشروع ويخيّب آمالهم بتذكيرهم بأنّ نزع العقيدة الإيمانية من مليار و 300 مليون مسلم، ودحر تراثهم الديني، الذي بدأونما، وأينع، عبر 1427 عاماً، ليس كما يتصوّر منتج هذا الفيلم الهوليودي بأن هذا العمل يتماثل تماماً مع ما تمّ في أميركا الشمالية مع الهنود الحمر، أو ما تمّ في أميركا الجنوبية مع شعوب الآزتك والآنكا، وبأنّ إلغاء اللغة اللاتينية، قد يكون أبشع فكرة تراود أسخف عقل، وأتفه فكر، فاللغة العربية بإقرار منظمة اليونيسكو من أغنى اللغات، وأجملها، وصحيح أن الناطقين بها لايتجاوز عددهم 300 مليون إنسان في العالم، إلا أن كل مسلم عندما يقرأ القرآن يقرؤه بهذه اللغة أثناء صلاته، وبأنّ القرآن الكريم كتاب سماوي، شاء المنكرون أن يعترفوا بهذه الحقيقة أم أبوا، ومعظم المنكرين لهذه الحقيقة الناصعة يدركون في قرارة أنفسهم أن عدم تغيير أو تبديل النصّ القرآني خلال 1427 سنة دليل ناصع على هذه الحقيقة. اندحار الحلم «ألم يكن من الأكثر نجاعة أمام هؤلاء المنتجين لهذا المشروع التدميري وغير الإنساني البعيد جدا عن أيّ شعور بالمسؤولية تجاه الإنسانية، التي تتوق إلى التآخي والتحابب بدلاً من الصدام والتطاحن، أن يقدّموا مشروعاً أكثر نفعاً للبشرية جمعاء، ينقذها من حالة الاحتراب والتصادم؟! وألم يكن أجدر بهؤلاء الناس الدعوة إلى إقرار العدالة ورفع الظلم عن الشعوب المضطهدة، التي تمارس عليها كل أنواع الاضطهاد والقتل والتدمير؟!» (ص 202). ثم أبرز المؤلف مرامي الهجوم البابوي على الإسلام، ودواعي استنكار الخطاب البابوي، كما قدّم نظرة على مقرّرات مجمعي «نيقيّة» و«القسطنطينية»، داخصاً القول بألوهية المسيح ومريم العذراء والتناقضات وصور التفحّش في عدد من أسفار الكتاب المقدس. ليخلص بعد ذلك إلى مقارنة مع النصّ القرآني والكشف عن أبرز أوجه الخلاف بين المسيحية والإسلام، وهي ألوهية المسيح، وعقيدة التثليث، وصلب المسيح. ويخصّص المؤلف صفحات للحديث عن أسطورة الحوار بين الأديان، وأخطاء الأصولية المسيحية. ويختم كتابه بالتركيز على الحرب الكارثية لحركة المحافظين الجُدد، ففي «نظر أكثر المحلّلين الاستراتيجيين، كزبيغنيو بريجينسكي مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس جيمي كارتر أن الحرب في العراق التي قامت بها أميركا، اعتماداً على افتراضات زائفة، كادعاء وجود أسلحة الدمار الشامل، ووجود علاقة بين النظام العراقي بزعامة صدام حسين ومنظمة القاعدة بزعامة أسامة بن لادن هي حرب كارثية أودت بسمعة أميركا، وأفقدت مصداقيتها الأخلاقية، وأضفت على سلوكها صفة الغطرسة الإمبريالية. ومع التسليم بالنتائج الكارثية لتلك الحرب، فإن هؤلاء المحللين يعتقدون بأن المصالح القومية للولايات المتحدة باتت معرّضة للإخفاق في تحقيق أيّ تقدّم لها» (ص 273 274). ويدعو المؤلف الولاياتالمتحدة إلى إلغاء الحلم الإمبراطوري المترسّخ في عقول حركة المحافظين الجُدد، وأن تقتنع هذه الحركة بأن فرض هيمنة استعمارية جديدة على دول المنطقة، ودول العالم، بات أمراً يستحيل تحقيقه، أو على الأقل، بات حُلما تكاليفه الباهظة تدفع جهات عديدة داخل المجتمع الأميركي نفسه إلى عدم قبوله، بل ومحاربته بأقصى ما يمكن من قوة.