أعرف الحاج سعيد بلال منذ سنوات طويلة، فهو من مؤسسي الحركة الإسلامية في الأراضي المحتلة، وفي مدينة نابلس البطلة على وجه التحديد. وعندما وقع التحول في بنيان الحركة نحو منعطف جديد نهاية العام 1987 بتأسيس حركة المقاومة الإسلامية حماس كانت للرجل تحفظاته، لكنه بقي الأب المحبوب الذي يراقب حركة الجيل الشاب في المدينة بقيادة الشهيد جمال منصور. مضت السنوات، ولم يسلم خلالها (أبو بكر) من تداعيات التحول الجديد، أليس المتمردون هم أبناؤه؟ لم يسلم من عسف الاحتلال فدخل السجن وتعرض لسيل من المضايقات، لكن اللافت في حكايته هو ما جرى لأبنائه الخمسة الذين يقبعون الآن جميعاً في زنازين الاحتلال. منذ أكثر من أسبوعين يداوم الحاج سعيد بلال يومياً هو وزوجته (أم الرجال) في خيمة الاعتصام بوسط مدينة نابلس، لكن وضعه الصحي لا يسعفه كثيراً، ليس لتجاوزه السبعين فحسب، وإنما لمرض السرطان الذي يعبث بجسده، والذي لا ينافسه سوى سرطان الاحتلال الذي سرق أبناءه الخمسة وتركه وحيداً مع زوجته العجوز وثلة من الأحفاد وأمهاتهم الصابرات، من دون حتى أن يسمح لهما بزيارتهم، لسبب بسيط يلخصه جلادو محاكم الاحتلال الذين يسمون زوراً قضاة بقولهم للأم الثكلى إنها أم لا تستحق الحياة وهي التي أنجبت خمسة إرهابيين". لكنها أنجبت خمسة أبطال أيها القتلة. نعم ، خمسة أبطال خرجوا من عائلة واحدة لم يتخلف واحد منهم. خرجوا جميعاً لمواجهتكم واقتلاعكم من هذه الأرض المقدسة. خمسة أبطال عرفت (أم بكر) كيف تربيهم على حب فلسطين والانتماء لطهر أرضها وروعة الإيمان الذي يتدفق من أقصاها وما حوله. من المساجد تخرج الرجال، وفي حماس تعلموا كيف تزهو فلسطين بالشهداء، وفي كتائب القسام عملوا كي يثخنوا في جسد العدو. خرجوا طلباً للشهادة لكنها أخطأتهم وتركتهم رايات في السجون يعلمون الدنيا كيف تقدم الأسر الفلسطينية فلذات أكبادها جميعاً لمسيرة الجهاد والمقاومة من دون تردد. بكر، عمر، معاذ، عثمان، وعبادة.. جميعهم الآن في السجون، يوزعهم القتلة على أكثر من سجن، فيما يقبع ثلاثة منهم في العزل القاتل، سيما أخطرهم حسب تصنيف الاحتلال، وهو معاذ الذي حكم عليه الجلادون ب 26 مؤبداً إضافة إلى 27 سنة أخرى. عثمان أيضاً محكوم بالمؤبد، أما الأغرب في الأخوة فهو عبادة، ذلك الشاب الكفيف الذي لم يحل العمى بينه وبين مطاردة الاحتلال، فقد عمل أيضاً في تصنيع المتفجرات ونقلها من أجل الاستشهاديين، وهو الآن ينتظر حكماً بعدد كبير من المؤبدات. هذه هي فلسطين وهؤلاء هم رجالها، وتلك هي حكاية سعيد بلال وأبنائه الخمسة الذين يطمح في أن يضعهم القتلة في سجن واحد، وأن يسمحوا له ولأمهم بزيارتهم التي منعوا منها منذ سبع سنوات، فيما يجلس العجوزان يراقبان نشأة الأحفاد أبناء بكر وعثمان وعمر وعبادة بعيداً عن حضن آبائهم. الحاج سعيد بلال وزوجته في خيمة الاعتصام الآن يناشدان الأمة أن تتذكر أبناءهما الأسرى، وكل الأسرى لهما أبناء. لكنهما صابران لأنهما يؤمنان بأن فلسطين تستحق ذلك وأن البيع مع رب العزة رابح لا محالة، وهو الذي اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة. طمعاً في جنة عرضها السماوات والأرض، وكرمى لعيون فلسطين خرج الرجال، وفي سبيل الله ورفعة راية الإيمان قدمت (أم بكر) أبناءها الخمسة، ولذلك كله فهي صابرة محتسبة، حتى وهي تعلم أنها قد لا تحتضنهما مرة أخرى، وإن بقي لها أمل بأن يفضي الإضراب إلى السماح لها ولأبيهم المريض وزوجاتهم وأبنائهم بزيارتهم والنظر إليهم ولو من خلف الألواح الزجاجية السميكة. أول أمس استشهدت الحاجة عائشة محمد الزبن إثر إصابتها بنوبة قلبية حادة في ظل إضرابها عن الطعام، فكانت أولى شهيدات معركة الأمعاء الخاوية. والحاجة عائشة هي صديقة (أم بكر) ووالدة الشهيد بشار الذي استشهد عام 1994، وهي والدة البطل عمار الزبن، زميل معاذ في كتائب القسام، والذي حكم عليه بذات القضية ونفس الحكم (26 مؤبداً)، وكانت له مواقفه البطولية أثناء المحاكمة. رحمة الله وبركاته عليكم آل بلال، وآل الزبن ورحمة تعالى وبركاته على تلك الأرض الطاهرة التي آوتكم .. إنه ربي سميع قريب.