رضع الثورة مع القطرات الأولى لحليب أمه، فآمن أن الهزيمة ليست قدرا، نهض إلى تحرير المغرب من الاستعمار الفرنسي والإسباني، وسخر لذلك كل ما يملك، ماله ونفسه، وحتى مهنته، فهو أول جراح في المغرب، استخدم مبضعه في تغيير وجوه المقاومين حتى لا يسقطوا في أيدي المستعمر، ثم قاد جيش التحرير حتى حصل المغرب على استقلاله، ثم ناضل من أجل استقراره وديمقراطيته حتى الرمق الأخير من حياته، ذلك هو الدكتور عبد الكريم الخطيب الذي انتقل إلى رحمة الله ليلة السابع والعشرين من رمضان 1429 الموافق لـ 27 شتنبر 2008 بمنزله بالرباط ووري الثرى بعد عصر يوم الأحد 28 شتنبر .2008 ولادة بالجديدة أطلق عبد الكريم الخطيب صرخته الأولى بمدينة الجديدة سنة ,1921 كان المغرب قد مرّ على استعماره من قبل فرنسا 11 سنة، وفي ظل ذلك الوضع المحتقن تحت الظلم الاستعماري، بدأ الخطيب حياته العلمية والعملية، اختار دراسة الطب، وأمضى من أجل ذلك أربع سنوات في الجزائر، كان يدرس ليلا ويقاوم ويقود المظاهرات نهارا، حيث التحم الدم المغربي الدم الجزائري في مسيرة التحرير والوحدة غير المتوجة. وفي جامعة السوربون بفرنسا التي أتم بها دراسته الطبية، اقتنع الخطيب الذي ظل حياته كلها مناضلا ومقاوما، أن الجراحة أو أية مهنة أخرى، يجب أن تماما كالبندقيته والقلم، أسلحة حادة يجب أن تستخدم ضد المستعمر أينما كان، في المغرب وفي كل دول افريقيا، من أجل الحرية وكرامة الإنسان. نيابة رئيس جمعية الطلبة المسلمين وهكذا، وجد الخطيب نفسه في فرنسا يتقلد أول نائب لرئيس للطلبة المسلمين من شمال افريقيا، بينما كان الرئيس مواطنا جزائريا، وبين الاثنين نشأت ألفة نفس ووحدة رؤية، فآمنوا جميعا بحلم توحيد شمال افريقيا بعد تحرير بلدانها، أمنية توطدت وترسخت في نفوس كل المقاومين، حتى إنه من أجلها امتزج طيلة سنوات الكفاح المسلح الدم المغربي والجزائري، غير أن الأمل سرعان ما تبخر على أيدي أكف زعماء من ورق، استولوا على الحكم وإن لم يستحقوه، يقول الخطيب عن سبب فشل حلم الوحدة لأن الذين استولوا على الحكم في دول شمال افريقيا ناس لم يشاركوا في التحرير الحقيقي، وجاء أناس آخرون عندهم أفكار أخرى. الاستثناء الوحيد في ذلك هي الجزائر التي ترأسها أحمد بن بلة، أما في المغرب فإن السياسيين الذين استولوا على الحكم لم تكن لهم علاقة بالمقاومة والكفاح المسلح، بل أساؤوا إلى حلم وحدة شمال افريقيا. عندما أنهى الخطيب دراسته، عاد كأول جراح في المغرب، وأسس عيادة للجراحة في سنة ,1951 وهي السنة التي قال بنفسه إنها شهدت أول تفجير لقنابل ضد المستعمر الفرنسي بالدار البيضاء، وكان ذلك بمثابة الشرارة الأولى للمقاومة المسلحة التي كان وراءها الشهيد محمد الزرقطوني ورفاقه. طبيب المقاومة وفي عيادته تلك، قام الخطيب بعمليات جراحية للمقاومين لتغيير شكلهم حتى لا يقعوا في يد المستعمر، يحكي عن الفترة فيقول كان الأخ الدحوس من أشهر المقاومين حينها، فلما انفضح أمره، وكانت له في وجهه جرح معروف به، أتى به الإخوان ليلا إلى عيادتي، وطوقوا العيادة بحراسة خارجية، وهو بغرفة العمليات، كان يقول لي لا أمان ممكن يدخلوا علينا، كان يحمل مسدسين في جيبه، أجريت له عملية جراحية، تغيرت على إثرها ملامح وجهه، ثم عاد إلى المقاومة من جديد. لم يكتفي الخطيب بالجراحة في عيادته، بل إنه لم يتردد في استخدام المساجد كغرفة للجراحة، فيما كان المستعمر يبحث عن المقاومين في المدن وفي أعالي الجبال. بسبب ذلك، انتخب الخطيب في سنة 1956 مسؤولا أعلى للمقاومة المسلحة، ومن موقعه ذاك، ساند كل حركات التحرير في العالم، يحكي نيلسون مانديلا رئيس جنوب افريقيا والمناضل التاريخي المعروف، أنه في شهر أبريل من العام 1962 زرت الخطيب في بلده، وقلت له أريد أن ألتقي بجلالة الملك فأجابني لماذا؟ فقلت له لقد أنشأنا جيشا ونريد تدريبه كما أننا في حاجة إلى السلاح والمال، فأجابني بأنه يفهم الظروف التي تمر بها بلادنا لأنه هو نفسه مر في نفس المرحلة التي نحن بصدد خوض غمارها، وأضاف أحضر جنودك إلى دار السلام وسأبعث بطائرة لتحضرهم إلى بلادي وسنقوم بتدريبهم. غير أن الخطيب لم يكن رجل مقاومة وسلاح فقط، بل رجل سياسة ودولة أيضا، ففي 1960 عين وزيرا للشؤون الاجتماعية، كما عين سنة بعد ذلك وزيرا مكلفا بالشؤون الافريقية، كما انتخب أول رئيس للبرلمان المغربي في سنة 1963 حتى ,1965 سنة الإعلان عن حالة الاستثناء من قبل الملك الحسن الثاني، الذي شكل حكومة ترأسها بنفسه، واعتذر الخطيب عن المشاركة فيها بحجة المرض.يشهد للخطيب عندما كان عضوا في اللجنة التي عينت لوضع أول دستور سنة ,1962 أنه أول من حرص على تضمين إمارة المؤمنين في بنود الدستور المغربي، والتنصيص على إسلامية الدولة، لما قدموا لنا أول دستور، وأنا عضو في اللجنة، كان دستورا علمانيا لا إشارة فيه إلى الإسلام ولا الإمارة، فطلبت من الملك آنذاك الحسن الثاني أن ينتبه، فالمغرب بلد مسلم، والعلاقة التي تربط بين العرش والشعب ملخصة في عقد البيعة، والبيعة هي لأمير المؤمنين، وذلك منذ العصر الموحدي يقول الخطيب. الوقوف ضد نظام الحزب الوحيد ثلاث سنوات بعد ذلك، شهد المغرب خلالها أحداثا تلو أخرى، هزت الاستقرار في المغرب، وبدا الصراع على السلطة قويا بين الحكم ومسانيده من جهة، واليسار المغربي يقوده حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، ظن حينها الجميع أن العرش في خطر، ولذك فإن الحاجة إلى حالة استثناء وتفعيل الفصل 35 من الدستور مسألة حيوية من أجل التحكم أكثر في عوامل اللاستقرار، لكن الخطيب رأى عكس ذلك تماما، وأعلن موقفه الرافض لحالة الاستثناء يقول الخطيب كنت أعتبر إعلان حالة الاستثناء بمثابة انقلاب أبيض، وكنت أخشى أن يؤدي ذلك إلى انقلابات أخرى حقيقية، ومع الأسف ذلك ما وقع. كان أحرضان رئيس الحركة الشعبية وزيرا للدفاع حينها، بينما كان الخطيب الرجل الثاني في الحزب، وبسبب موقفه الرافض لحالة الاستثناء، انقسم الرجلان، وطرد أحرضان أعضاء كثر من اللجنة المركزية للحزب، كان ذلك المقدمة ليؤسس الخطيب برفقة بعبد الله الوكوتي، رفيقه في درب النضال، حزبا جديدا، أطلقوا عليه اسم الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية في سنة .1967 وفي ,1970 سنة إنهاء حالة الاستثناء، أسس الخطيب نقابة حزبه التي أطلق عليها اسم الاتحاد الوطني للشغل بالمغرب. بعد حادثتي الانقلاب في 1971 و,1972 وجه الخطيب رسالة إلى الملك الحسن الثاني، حول الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي في المغرب، واعتبر من جهته أن المخرج الوحيد من هذا المأزق الكبير هو العودة إلى الإسلام وتطبيق الشريعة الإسلامية. كان الوضع السياسي في البلد حينها قد استشرى فيه الفساد وانتشر، وكان ذلك هو السبب وراء انسحاب الخطيب من الحياة السياسية احتجاجا على وضع لا يزداد إلا سوءا وترديا. الانفتاح على حركة التوحيد والإصلاح بقي الخطيب كذلك حتى بداية التسعينات، حينما دق بابه قياديي حركة الإصلاح والتجديد، التي شكلت فيما بعد مع رابطة المستقبل الإسلامي حركة التوحيد والإصلاح، والذين اعتزموا الدخول إلى الميدان السياسي الحزبي عبر الاندماج في حزب قائم، وذلك بعدما رفضت السلطات الترخيص لهم بتأسيس حزب سياسي خاص بهم هو حزب التجديد الوطني وذلك في سنة ,1992 كانت شهور قليلة من التفاوض حول كيفية الالتحاق، كفيلة بعقد المؤتمر الاستثنائي للحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية، في يونيو 1996 بعد أربع سنوات من العمل على اساس الإسلام والملكية ونبذ العنف، والعودة إلى الحياة السياسية من جديد. قيادة سفينة العدلة والتنمية وتسليم المشعل ظل الخطيب أمينا عاما للحزب، وشارك في قيادة حملة الحزب في انتخابات نونبر 1997 ورعى مسار الحزب في الموقف من حكومة الاستاذ عبد الرحمن اليوسفي، ثم دعم مشروع تغيير اسم الحزب في سنة 1998 إلى إسم العدالة والتنمية وذلك انسجاما مع مقتضيات المرحلة السياسية بالبلاد، وانتخب في 1999 أمينا عاما للحزب بدعم كافة المؤتمرين، وحقق مع الحزب انتصار انتخابات شتنبر 2002 عندما احتل الحزب الموقع الثالث وضاعف وجوده البرلماني ثلاث مرات، وبقي إلى غاية 2004 قائدا للحزب في ظرفية صعبة بعد تفجيرات 16 من ماي وما تلاها من حملة استئصالية شرسة الذي تحمل مسؤولية أمانته العامة حتى ,2004 حيث أصبح الرئيس المؤسس للحزب في مؤتمر أبريل من نفس السنة، ورلاغم ذلك بقي متابعا لمسيرة الحزب وداعما لها منشغلا بقضاياها حتى وفاته ليلة السبت 27 شتنبر 2008 عن عمر يناهز 87 سنة، فعاش مناضلا ومقاوما ومجاهدا حتى الرمق الأخير من حياته. وفيما يلي تصريحات مجموعة من القيادات الوطنية : إدريس الكتاني:دافع عن قضايا الإسلام بإيمان وإخلاص الدكتورعبد الكريم الخطيب الذي فقده المغرب هو أحد الرجال المخلصين الدعاة الذين عرفهم جيل الكفاح والنضال في سبيل الاستقلال. وبعد الاستقلال عرف الدكتورالخطيب بالدفاع عن قضايا الإسلام بإيمان وإخلاص، وهو أحد رجالات المغرب منذ بداية الاستقلال وما قبل الاستقلال، والحديث عنه يطول جدا، وكل ما يمكن أن أقوله الآن في هذه الكلمة: عزاؤنا واحد في هذا الرجل الذي فقده المغرب، وهو من قلة من الرجال الذين عاصروا فترة الحماية وعهد الاستقلال، وتاريخه طويل في النضال الوطني. رحمه الله تعالى رحمة واسعة عبد الإله بنكيران (الأمين العام لحزب العدالة والتنمية): كان وطنيا بدون حدود عرفته بطلا من الأبطال، بل جبلا من الجبال، يتميز بقوة الإيمان وحق اليقين، ولا يعرف له فكر ولا إيديولوجية إلا الإسلام.. رجل كريم، وشهم وشجاع، ملكي حتى النخاع في غير ذلة، ومناضل لا يبالي بالسنين ولا بوهن الجسد، ورجل يهب لغوث إخوانه المسلمين أينما كانوا، وكل قضايا المسلمين عرفت بداية مناصرته في بيته، بداية بالقضية الفلسطينة إلى القضية الأفغانية إلى القضية الشيشانية إلى قضية البوسنة والهرسك إلى آخره.. وطني بدون حدود، إن أثر خبر وفاته لا يمكن أن يكون إلا كما يكون أثر خبر وفاة أعز الأعزاء.. ومع ذلك لا نقول إلا ما يرضي ربنا إنا لله وإنا إليه راجعون. سعد الدين العثماني : عاش الصمود أيام المحن الدكتور الخطيب سجل وطني وسياسي حافل لا تكفي الحديث عنه مجلدات، رجل شهم، عاش الصمود أيام المحن، قاوم في سبيل استقلال المغرب، وما توانى في مقاومة مختلف أشكال الاستبداد بعد الاستقلال، ودافع عن الحريات العامة بقوة، وعن مؤسسات البلاد، وقال لا حيث يجب أن يقولها، قال لا ضد الحزب الواحد، وقال لا ضد خنق الحريات، وقال لا ضد حالة الاستثناء، وقاوم الإفساد الانتخابي ووقف ضد صانعيه. وفي بيته تأسست الجمعية المغربية لمساندة الكفاح الفلسطيني، كما أسس بعدها الجمعيات المغربة المساندة لمقاومة المسلمين في أرجاء كثيرة من العالم ضد الاحتلال والاستبداد، مثل الجمعية المغربية لمساندة الجهاد الأفغاني، والجمعية المغربية لمساندة البوسنة والهرسك وغيرها، وفي بداية التسعينات كان له الفضل في فتح حزب الحركة الشعبية الدستورية الديموقراطية لأبناء الحركة الإسلامية، أبناء حركة الإصلاح والتجديد آنذاك، وقال لهم ادخلوا الحزب فإنه حزبكم، ذلك في وقت كان هناك انغلاق في الحياة السياسية، وكان مجمل التيار المسيطر في الدولة وفي النخب السياسية ضد مشاركة الحركة الإسلامية في الحياة السياسية. في كل اللحظات التي عشناها مع الدكتور، كان وفيا لمبادئه، قويا في مواقفه، متجردا عن الأهواء، كان وطنيا غيورا، ومؤمنا قويا، نسأل الله تعالى أن يرحمه ويغفر له ويسكنه فسيح جناته، وإنا لله، إنا إليه راجعون. إسماعيل العلوي (الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية ): كان علما من أعلام المغرب الخطيب كان علما من أعلام المغرب، وشخصية معلومة في التاريخ، وكان يضع مصلحة البلاد والوطن والإسلام فوق كل اعتبار. (لم يستطع إكمال شهادته في الرجل). الحمداوي (رئيس حركة التوحيد والإصلاح): وج أعماله بفتح الباب أمام الحركة الإسلامية نسأل الله أن يتغمد الدكتور الخطيب بواسع رحمته، وأن يتقبله عنده من الصالحين والنبيئين والشهداء، ونسأل الله له المغفرة، وقد اختاره الله تعالى إلى جواره في هذا الشهر المبارك وفي هذه الأيام الفاضلة، في العشر الأواخر، وليلة السابع والعشرين، وقد أكمل صيام يوم وفاته، وصلى صلاة المغرب والعشاء، وهذه علامات كلها بإذن الله تكون مبشرات، فنتمنى أن يجعل الله قبره روضة من رياض الجنة. الدكتور الخطيب الرجل المقاوم والمجاهد والمسلم، عرفته أجيال منذ أيام المقاومة والاستقلال، وفي تقديرنا فقد توج هذه الأعمال بفتح الباب أمام الحركة الإسلامية، لكي تسهم معه في تتويج هذا المسار النضالي والجهادي الذي خاضه هذا الرجل طيلة حياته. فمن خلال عدة مواقف، عرفناه رجلا شجاعا، قويا مساندا لأكثر من حركة وهيئة تحريرية وحركات إسلامية. ولا يكفينا أن ننقل لا أقول الشهادات، ولكن كل المؤتمرات التي نحضرها ولقاءات الحركات الإسلامية وقيادات ومشايخ وعلماء في كثير من البلدان ومن الدول الإفريقية، وكثير من رؤساء وعمداء ومؤسسي الجمعيات الثقافة الإسلامية، بمجرد ما يعلمون أننا من المغرب، ومن حركة التوحيد والإصلاح التي دخلت في شراكة مع حزب الخطيب، حتى يبادروا بالقول إن لهم سابق معرفتهم بهذا الرجل، ويعددون مواقفه المساندة والداعمة لقضاياهم، خذ على سبيل المثال، البوسنة والهرسك وأفغانستان ولبنان، وقيادات مؤسسة للإخوان المسلمين، وفي بعض البلدان ربما قد لايعرفونه، لكن بمجرد ما أن نتصل ونلتقي مع الجيل المؤسس للكثير من الحركات الإسلامية، حتى نجد أنهم يعرفون الرجل، وسبقت لهم علاقات، وسبق أن عرف بقضيتهم، ناهيك عن الخدمة النوعية التي قدمها للحركة الإسلامية، في الوقت الذي فتح بيته وقلبه بكل كرم وشجاعة لحركة التوحيد والإصلاح لكي تسهم في العمل السياسي، فنسأل الله أن يجعل كل ذلك في ميزان حسناته ويتقبله في الصالحين.