في اليوم الثاني من أكتوبر سنة 1955، انطلقت عمليات جيش التحرير المغربي في جبال الريف بعد إعداد ميداني سري وتعبئة شعبيةمحكمة. وكان وقع المفاجأة على القوات الفرنسية كبيرا لدرجة أن المسؤولين الفرنسيين والمراقبين الدوليين سارعوا إلى ربط ما يجري في اكزناية بما جرى للقوات الإسبانية والفرنسية أثناء حرب الريف تحت قيادة المجاهد عبد الكريم الخطابي في العشرينات. وإذا كان الجنود المجهولون أدوا واجبهم الوطني وعادوا إلى حقولهم دون أن تلتفت أليهم أنظار مغرب ما بعد الاستقلال، فإن بعض المدعين قد علا صراخهم وانتشر تشويشهم بين الناس وأينعت رؤوسهم دون حرج من محكمة التاريخ! ولعلنا في هذه القراءة المتواضعة نوفي ببعض الأمانة في حق كل من أدى واجبه في سبيل الدفاع عن وطنه وقضيته ومبادئه. البدايات تعود أسس تكوين جيش شعبي لتحرير أقطار المغرب الكبير، إلى ميثاق "لجنة تحرير المغرب العربي" التي أنشأها الأمير عبد الكريم الخطابي في القاهرة في يناير 1948، بمشاركة الأحزاب المغاربية. وقد نصت أهداف الميثاق السبعة على ضرورة الكفاح من أجل استقلال الأقطار المغاربية كافة (البند 3)، وحذرت من المفاوضات قبل الاستقلال (البندان 5 و 6)، كما أكدت في الأخير على أن حصول قطر من أقطار المغرب العربي على استقلاله التام، لا يسقط عن اللجنة واجبها في مواصلة الكفاح لتحرير البقية (البند 7). وتنفيذا لبنود هذا الميثاق، عمل الخطابي على إعداد آليات هذا الجيش لتفجير الصراع في الوقت المناسب. ولعله من المفيد الإشارة إلى أن نواة جيش التحرير تكونت من العناصر التالية: المتطوعون المغاربة في حرب فلسطين (1948)، المجندون في الجيش الفرنسي للقتال في الهند الصينية، الطلبة المغاربة في المدارس والمعاهد العليا في الشرق العربي والحجاج المغاربة. وكان الأمير الخطابي قد أقنع المسؤولين في كل من العراق وسوريا بقبول البعثات الطلابية المغاربية للدراسة في معاهدهما العسكرية، فيما خصصت السلطات المصرية معسكر "هاكستيب" في ضواحي القاهرة لتدريب العناصر التي ستتولى فيما بعد تهيئ جيش التحرير وقياداته المحلية في المغرب والجزائر وتونس. ويحدد تقرير يحمل تاريخ 5 مارس 1949 تحت عنوان "خطة حرب التحرير"، معالم الفكر العملي للأمير الخطابي القائم على ضرورة تحريك الشعب من الداخل وتعبئته حول هدف الاستقلال والجلاء. ينبغي ألا يُفهم من هذا الكلام أن شروط الاستعداد والإعداد للعمليات العسكرية، كانت تتم في انسجام تام مع زعماء الأحزاب السياسية المغاربية. فلقد كان الزعماء الحزبيون يعتبرون عبد الكريم جزءا من التاريخ، إن لم يكن قد تحول إلى تاريخ فعلي. وبالتالي فإن أسلوبه "العنيف" وتصوره الثوري لمواجهة الاستعمار، لا يتناسبان وعالم ما بعد الحرب العالمية الثانية! إن ازدراء الزعامات الحزبية للكفاح المسلح بتصنيفه في خانة العنف والإرهاب، يؤكد أن انطلاق عمليات جيش التحرير في شمال شرق المغرب في بداية أكتوبر 1955 لم تكن له صلة تنظيمية بالأحزاب السياسية، وإن حاولت بعد ذلك تبنيها وامتطاء "موجة" التحرير لتحقيق مآرب سياسية في إطار الصراع على السلطة. فقد ورد على لسان السيد محمد اليزيدي من حزب الاستقلال بعد أسبوع من انطلاق العمل المسلح أن حزبه "لا علاقة" له بحوادث الريف، مفندا ما ادعاه زعيمه الأستاذ علال الفاسي في تصريح كان قد أذاعه من القاهرة يوم 4 أكتوبر. وكان علال الفاسي يهدف بلا شك إلى زرع الاعتقاد بأن جيش تحرير المغرب يخضع لتوجيهات حزب الاستقلال؛ وهو الأمر الذي ينفيه بشدة قادة الميدان. وفي هذا السياق يورد عبد الله الصنهاجي شهادة بالغة الأهمية تعكس هذه الفكرة بوضوح؛ علما بأن الصنهاجي كان في السابق محسوبا على حزب الاستقلال. فيقول في معرض حديثه عن لقائه الأول بالزعيم علال الفاسي خلال زيارة هذا الأخير لتطوان: " حينما وصلتُ إلى تطوان وجدتُ الجماعة منهمكين في تهيئ سفر علال الفاسي إلى المنطقة الشمالية الغربية لزيارة العرائشوالقصر الكبير، وطلبوا مني مرافقته". وفي القصر الكبير "شاهدت يضيف الصنهاجي مجموعة من الوطنيين في هذه المدينة يقدمون إلى علال الفاسي شيكات بنكية بمبالغ مالية كنت أظنها مساعدة منهم للجهاد (...) وكنت أنتظر طيلة مرافقتي لعلال الفاسي في هذه الرحلة وأنا على أحر من الجمر أن يفاتحني عن أحوال جيش التحرير ومعاركه مع الجيش الفرنسي العتيد أو عن عدد الشهداء أو الجرحى أو عن الذين تركتهم ورائي في الناضور أو في ساحة الحرب، أو عن الحالة الاجتماعية لأحوال المجاهدين الصامدين على جبهات القتال (...) لكن حضرة الزعيم لم يسأل عن كل هذا وكأنه لا يهمه من قريب ولا من بعيد". (مذكرات الصنهاجي، ص. ص. 204-203). لم تكن لحزب الاستقلال علاقة بجيش التحرير لا من حيث التنظير ولا من حيث التحضير. وحينما حاول السيطرة عليه بتصفية زعمائه جسديا (حالة عباس المسعدي وحدو أقشيش على سبيل المثال. وكان هؤلاء على اتصال بعبد الكريم الخطابي) ومعنويا (اتهامه بالعنف والإرهاب)، انقلبت الأمور إلى تصفية جيش التحرير بكامله. وقد نجحت عملية القضاء على جيش التحرير في تحقيق الأهداف التالية: عدم جلاء القوات الأجنبية من المغرب رغم حصوله على الاستقلال السياسي عدم استكمال تحرير كل الأراضي المغربية استفحال الفوضى السياسية في المغرب، وانتشار الإرهاب السياسي كمطية للاستحواذ على السلطة محاصرة الثورة الجزائرية واستفراد الجيش الفرنسي بها من أجل سحقها في المهد. جيش التحرير المغربي وكُتّاب المذكرات ظهرت على مدى العقود الماضية كتابات تتناول فترة تأسيس جيش التحرير المغربي وانطلاق عملياته في المثلث المشهور تيزي وسلي وأكنول وبورد، وكذا عن مركزي القيادة في الناظوروتطوان. والمتصفح لبعض الكتابات المتحزبة يستنتج بسرعة أن غايتها استفزاز ذاكرة التاريخ. إنها تصنع "أبطالا" على الورق وتغتال أبطال الميدان الحقيقيين بجرة قلم. فبالأمس كانت عمليات جيش التحرير تعد إرهابا في عيون السياسيين، واليوم أضحت "شرفا" يتسارع كثيرون للنهل من نبعه. تلك الأقلام التي بخست حق الفلاح الريفي في الدفاع عن أرضه، فصورته عبدا ينفذ أوامر الأسياد القابعين في قيادتي الناظوروتطوان. أقلام بلغ فيها الإغراق في الذاتية والأنانية حد عزل الريف عن إرثه الجهادي في العشرينات. كل هذا من أجل تحقيق مآرب سياسية آنية، أو مكاسب مادية شخصية أو شراء مصداقية مزورة وإضفائها على بعض الطارئين على المنطقة التي شهدت الميلاد الحقيقي لجيش التحرير في نسخته المغربية. غير أن السنوات الأخيرة بدأت تُنتج نوعا آخر من الكتابات التي تحاول ترميم الحقيقة وإرجاع الصورة إلى أصلها دون إضافات تجميلية، معتمدة على شهادات ميدانية لرجال صمدوا ثم صمتوا طويلا. فعلى سبيل المثال أصدر الضابط محمد حمادي العزيز الريفي مذكراته تحت عنوان: "جيوش تحرير المغرب العربي: هكذا كانت القصة في البداية" (2004)، وفيه تفاصيل مثيرة حول ملابسات التحضير لقيام جيش التحرير في شمال إفريقيا، ودور الأمير عبد الكريم الخطابي البارز. هذا الكتاب الذي نشرته المندوبية السامية للمقاومة وجيش التحرير تم توزيعه على نطاق محدود للغاية لأسباب غير واضحة. إن ما يميز مذكرات حمادي العزيز هو تركيزها على البدايات الأولى لتكوين جيش التحرير المغاربي من حيث إعداد الأطر العسكرية في المعاهد العراقية والسورية، والمهمات السرية التي كلفه بها الأمير الخطابي في بلدان شمال إفريقيا محددة في الاتصال بزعماء الأحزاب السياسية لاستكشاف النوايا، والعمل على خلق خلايا "نائمة" يمكن الاعتماد عليها حينما تحين ساعة الصفر. كما أن دور الأمير الخطابي في الإعداد لجيش شعبي مغاربي أكده ويعيد تأكيده في كل مناسبة الضابط المتقاعد الهاشمي الطود، أحد الضباط الكبار الذين أسهموا في تدريب القيادات الميدانية وبخاصة في الجزائر وتونس بتوجيه مباشر من الأمير عبد الكريم الخطابي. وإذا كانت الكتابات المتحزبة تتعمد القفز على هذه الحقيقة، فإن الهاشمي الطود ومحمد حمادي العزيز وقادة ميدانيين في اكزناية لا "يخجلون" من إعلان ارتباطهم بالأمير و اتصالهم به للاستشارة والتوجيه. ولعل هذا ما يجعل هؤلاء يعيشون الآن غرباء في وطنهم الذي أعطوه كل شيء، في الوقت الذي أخذ منه الطارئون كل شيء. ومؤخرا صدر عن دار أبي رقراق كتاب قيم للأستاذ محمد لخواجة تحت عنوان "جيش التحرير المغربي 1951-1956 ... ومذكرات للتاريخ أم للتمويه" (2007). يضم الكتاب ثلاثة فصول وتقديم للدكتور زكي مبارك المتخصص في تاريخ جيش التحرير المغربي، فضلا عن خرائط توضيحية وتواريخ دالة تبدأ من عام القضاء على بوحمارة في الريف سنة 1908 حتى شهر يوليوز من سنة 1956 حينما تم إدماج عناصر جيش التحرير في وحدات الجيش الملكي وفي بعض الدوائر والمؤسسات الحكومية الأخرى. وينهي كتابه بملاحق على سبيل التوثيق. إن العنوان الفرعي لكتاب الأستاذ لخواجة "مذكرات للتاريخ أم للتمويه" له أكثر من دلالة. فهو يريد تنبيه القارئ إلى أن المذكرات المنسوبة لبعض قادة جيش التحرير، لم تكن لها وظيفة تأريخية وتوثيقية، بقدر ما عمدت إلى زرع بذور التمويه والتشويش والتضليل. ولذلك جاء مجمل الكتاب في صورة ردود تبدو مرصوصة وموثقة على مزاعم أولئك الكتاب، وبخاصة مذكرات الدكتور الخطيب (مسار حياة، 1997) وبنعبد الله الوكوتي (ذكريات مقاوم، 1996) والغالي العراقي (ذاكرة نضال وجهاد، 2002)، ودراسة للسيد عبد الرحيم الورديغي نشرها في مجلة "ملفات من تاريخ المغرب" (1997) ثم مذكرات السيد نذير بوزار الصادرة باللغة الفرنسية (2002). يلاحظ الأستاذ لخواجة أن زوايا كثيرة من تاريخ جيش التحرير المغربي في حاجة إلى إضاءة، مبتدئا حديثه بطرح مجموعة من الأسئلة من قبيل تجاهل الكتاب لأسر المقاومين التي التحقت بالمنطقة الخليفية، وغياب الإشارة إلى الشأن اليومي للمقاتلين على طول الجبهات، والتغاضي عن دور الجنود الفارين من ثكنات العدو للالتحاق بصفوف المقاتلين. ثم تساءل عن أسباب محاولة قيادة الناظور و مجموعة تطوان فرض قيادات من خارج اكزناية لتسيير العمليات الميدانية، ولماذا كان عباس المسعدي حذرا من بعض القادة الميدانيين، ولماذا حاولت جهات - لم يسمها – "الركوب على فترة الكفاح" وخلط الأوراق لترفع في الأخير من شأن الوضيع وتنزل إلى الحضيض من كان في الطليعة (ص. 23). وغيرها من الأسئلة التي ستظل معلقة على مدى صفحات الكتاب. ومما لا شك فيه أن القيمة المضافة لهذا الكتاب تكمن في محاولة إعادة الاعتبار إلى المقاومين المنسيين أبناء المنطقة، وإبراز مدى انتماء جيش التحرير المغربي فكرا وفلسفة وتطبيقا إلى الخط التحرري الذي رسمه الريفيون تحت قيادة زعيمهم الأمير عبد الكريم الخطابي. فيؤكد أن "رواد جيش التحرير بالريف كانوا في غالبيتهم جنودا أو قادة قد حاربوا تحت إمرة محمد بن عبد الكريم الخطابي، وظلوا يستلهمون ثورتهم تلك في مجالات التنظيم" (ص.150). ومن بين هؤلاء، السادة: عبد القادر اشطاطو الذي قُتل والده في العشرينات لارتباطه بالخطابي، والسيد الحسن الزكريتي، أحد "أعمدة" جيش التحرير، وقد كان قائد المائة في عهد الخطابي. ثم محمد عمر أختو ابن "امغار" القبيلة الذي جرح خلال حرب الريف، والسيد عمر الريفي الذي كان يردد: لقد فاتتني الشهادة مع ابن عبد الكريم، وسوف ألتمسها عندما نشعلها ثورة ضد المستعمر. ثم السيد عبد العزيز أقضاض قائد الهجوم على مركز بورد يوم 2 أكتوبر 1955، وكان أبوه قد حارب في صفوف حرب الريف، وآخرون كثيرون. أضف إلى ذلك أن اتصالات مباشرة كانت قد جرت بين بعض المؤسسين الأوائل في اكزناية وبين الأمير الخطابي في القاهرة ، في غضون سنة 1952. ويخلص الكاتب إلى أن "فهم جيش التحرير وصيرورته لا بد من ربطه بحرب الريف التحريرية بالدرجة الأولى، ويأتي بعد ذلك التنسيق مع الجهات الأخرى" (ص. 149). لما خلق الله كلمة حرب العصابات قال لجبال الريف كوني فكانت والواقع أن الضباب الكثيف الذي ينبعث من عوادم "مذكرات التمويه" تصيب القارئ بالدوخة والدوران، لدرجة أن أصواتا منتقدة بدأت تشكك في حكاية جيش التحرير برمتها، لاسيما أن آلاف المقاتلين الذين أصبحوا بعد الاستقلال يُحسبون على جيش التحرير، كان بمقدورهم أن يحرروا الشمال الإفريقي كله وليس المغرب الأقصى فقط. لقد أصبح الحصول على بطاقة "مقاوم" ضمان لدخل محترم يقي من عاديات الزمن المغربي. فكثر سماسرة المقاومة، وانتشر شهود الزور في كل أركان المغرب للمتاجرة. ولم تطرح المندوبية السامية للمقاومة وجيش التحرير سؤالا جديا واحدا: ما سر تناسل المقاومين بكثرة بعد الاستقلال؟ في معرض ردوده على المغالطات والتشويشات المنشورة، يستعين لخواجة على مذكرات قادة ميدانيين؛ منها مذكرات السيد عبد العزيز أقضاض الدوائري غير المنشورة، وفيها على ما يبدو كثيرا من الحقائق الغائبة أو المغيبة، وتفاصيل عن العمليات الميدانية المنسوبة إلى أصحابها الحقيقيين، وليس إلى أعمال "جيش الرهوني" المؤسس في تطوان لمزاحمة الجيش الحقيقي. فإذا كان الدكتور الخطيب والسيد بوزار وغيرهما يرفعان من راية هذا الجيش، فإن الكاتب يتحداهما أن يذكرا معارك هذا الجيش في الميدان. ومما لا شك فيه أن التحدي الأكبر للمقاتلين الريفيين كان يتمثل في نقص الأسلحة. ويذكر الأستاذ لخواجة نقلا عن مذكرات السيد عبد العزيز أقضاض، أنه في اجتماع عُقد في مركز "إيار إمجلا" حضره كل من عباس المسعدي والخطيب وغيرهما من قادة الميدان الكزنائيين، تم التطرق إلى مشكل إيجاد السلاح. "فرد على طلبنا هذا الأخ الدكتور عبد الكريم الخطيب واعدا إيانا بقوله: إن السلاح موجود، وسيكون! وكونوا رجالا!! إلا أن وعده هذا لم يتحقق أبدا، وما مكننا من مواصلة الثورة (...) إلا السلاح الذي غنمناه من سلاح العدو". (ص. 120-121). اعتمد المقاتلون في محاربة الفرنسيين على إمكانياتهم الذاتية، ونهجوا أسلوب الكر والفر؛ أي أسلوب حرب العصابات التي سبق وأن سببت الكارثة للجيشين الإسباني والفرنسي في العشرينات. وبما أن الشعب كان يحضنهم ويحتضنهم، فقد كان من السهولة بمكان أن "يذوبوا" بين الفلاحين ليعاودوا ترتيب الخطط واختيار الأهداف. وأدت "الجغرافيا" دورها في إنجاح حرب العصابات وتوجيه ضربات موجعة للمستعمرين، حتى إن أحد الجنود الفرنسيين وصف المشهد قائلا: "لما خلق الله كلمة حرب العصابات قال لجبال الريف كوني فكانت"! تعبيرا عن صعوبة التصدي للمقاتلين الريفيين في تلك الظروف. اغتيال عباس المسعدي .. اللغز المحير أثارت قضية اغتيال عباس المسعدي كثيرا من التساؤلات أغلبها موحية وتضمينية غير مسنودة على أدلة ملموسة. ومن جهته حاول الأستاذ لخواجة إزالة "الغموض" عن القضية معتمدا ، كغيره، على قراءات إيحائية لما هو منشور. وكنا نتوقع منه القول الفصل بحكم تلقيه مادة أبحاثه عن مصادرها الأصلية مباشرة. يؤكد الأستاذ لخواجة أن عباس المسعدي "حل بمدينة الناظور بعد أن وُضعت جميع الأسس لبناء حركة مسلحة في الريف، أي بعد أن مر على ميلادها حوالي أربع سنوات" (ص. 160). وقد وجد في الريف منفذا "لإبراز طموحاته العسكرية التي لم تتبلور في الدارالبيضاء وغيرها" (ص. 160). ومباشرة بدأ الاتصالات والتنقلات في الريف بسرعة مع حرصه الشديد "على عدم تسرب أي منافس له إلى هذه الجهة. كما حرص على إبعاد كل من يحاول التشويش على هذه الحركة الفتية والواعدة" (صص. 160-161). وكان المرحوم عباس المسعدي لا يخفي انزعاجه من بعض القادة الميدانيين أمثال عبد العزيز أقضاض والحسن الزكريتي، لخشيته "أن هؤلاء قد يذهبون بعيدا في كفاحهم" (ص. 161). ومع أن القائد عباس المسعدي "لم يثبت وصوله إلى المواقع الأمامية الساخنة، كما لم تثبت مشاركته في أية معركة"، إلا أنه كان يحظى بتقدير عميق من طرف القادة الميدانيين، بحيث إن دوره في تنسيق عمليات جيش التحرير ووضعها في سياق تحرري أشمل كان كبيرا. كما أنه عمل كل ما في وسعه على تحصين جيش التحرير المغربي من الوقوع تحت نفوذ الأحزاب السياسية وبخاصة حزب الاستقلال، أكبر الأحزاب آنذاك. ولعل هذا ما جر عليه "غضب" الزعامات السياسية المغربية، لاسيما بعدما اشتد عوده وأصبح "زعيما بلا منازع، يأتمر كل القادة بأوامره ويفاوض باسمهم كل الجهات" (ص. 162). ولم يتسن له ذلك إلا بعد أن عاد من القاهرة (أواخر فبراير 1956) "حيث كانت له لقاءات مع محمد بن عبد الكريم الخطابي الذي كان جيش التحرير يكن له التقدير ويستنير به في كل تحركاته" (ص. 162). ومعلوم أن الأمير عبد الكريم كان يعارض بشدة مسألة خضوع جيش التحرير المغربي لتوجهات الأحزاب السياسية، ويدعو إلى استمرار الكفاح المسلح حتى يتحقق الجلاء التام. وهنا يطرح الكاتب تساؤلات عدة عمن كانت له المصلحة في اغتيال عباس المسعدي والقضاء على جيش التحرير المغربي؟ وعلى سبيل الافتراض يأتي على ذكر جهات عدة منها: حزب الاستقلال والقصر الملكي والمخابرات المصرية وغيرها من الجهات التي كانت تتوجس خيفة من تصاعد نجم عباس المسعدي وجيشه المنظم. ويورد الكاتب رسالة بعثها السيد عبد الله الصنهاجي إلى السيد عبد العزيز أقضاض يحذره من "جاسوس" يتجول في المنطقة! ولم يكن ذلك الجاسوس إلا مبعوثا أرسله الأمير عبد الكريم الخطابي ليتفقد "أحوال المجاهدين وسير حرب التحرير في مثلث الموت" (ص. 164) بحسب شهادة عبد العزيز أقضاض الذي أضاف: وقد "استقبلته من جهتي في المركز بكل ترحاب، وتذاكرت معه وعرفت حقيقة مهمته وقدره وعلمه وأدبه ونبله، ولم يكن – في نظري – جاسوسا من جواسيس العدو كما زعم الأخ المذكور [يقصد الصنهاجي] في رسالته" (ص. 164). وتتميما لهذه الفكرة أورد الكاتب رواية شاعت إبانها مفادها أن القائد عباس المسعدي تأثر كثيرا بأحاديثه مع الأمير الخطابي الأمر الذي يفسر السماح لمبعوث الخطابي للقيام بجولة تفقدية في مثلث الموت. وربما وقع أيضا تحت تأثير الضباط الأحرار في مصر، ففكر في "تكوين نواة ضباط أحرار وسط الجيش المغربي عند وضع هياكله وسيتم الاعتماد بدون شك على أفراد من جيش التحرير الذين سينظمون إليه" (ص. 167). وقد يفسر هذا سبب تصفية عباس قبل أن تنتقل فكرته إلى حيز التطبيق! أما ضلوع المرحوم المهدي بن بركة في قضية الاغتيال، فيستبعدها الأستاذ لخواجة كليا لسبب بسيط هو أن المهدي والمسعدي كان عليهما أن يلتقيا. ولنتصور أن الرجلين التقيا فعلا على مشروع واحد، فكيف ستكون الصورة؟ ولذلك تربص المتربصون ليفشلوا مشروع الالتقاء بين الزعيمين! ويرى أن اغتيال عباس بأمر من المهدي "رواية سريالية". ويخلص إلى أن الجهات التي "تسترت جيدا " على الحدث، "كانت لها المصلحة الكبرى في موت جيش التحرير، ومحو اتصاله بابن عبد الكريم وغيره، ولا شك أن إيقاف كل متابعة، وتكريم المتهم الرئيسي طيلة حياته يؤكد ما نذهب إليه"، يضيف الأستاذ لخواجة (ص. 168). ولكن، ما هي تلك الجهة يا تُرى؟! لا جواب! خلاصة القول، فتح الأستاذ لخواجة بابا جديرا بالولوج لمن يريد تلمس معالم تأسيس جيش التحرير المغربي، والتعرف على قادته الحقيقيين، والأعمال البطولية التي قاموا بها في ظروف قاسية من أجل أن يستقل المغرب، ويعيش المغاربة أسيادا فوق أرضهم .. أو كذلك شُبه لهم! mamezian.jeeran.com [email protected] ""