حقائق تاريخية حول مسؤولية زعيم حزب الاستقلال في تصفية أعضاء جيش التحرير المغربي "" تصفية عباس لمساعدي: الأسباب ، المسؤوليات ، والتداعيات: جيش التحرير وحزب الاستقلال صراع مصالح أم صراع شرعية؟: بعد عودة محمد الخامس من المنفى سنة 1955 ، كانت المعارك ما تزال مستمرة في شمال المغرب ، وكان هناك إلى جانب اختيار التفاوض مع فرنسا من أجل الانسحاب السلمي من المغرب ، اختيار أخر تلهمه من بعيد لجنة تحرير شمال إفريقيا بزعامة محمد بن عبد الكريم الخطابي ، اختيار إجبار فرنسا على الرحيل من شمال إفريقيا كله. الإجبار هنا بمعناه العسكري، والخطة التي كانت مرسومة آنذاك هي العمل على تجنب الحلول الانفرادية. غير أن التونسيين كانوا هم السباقين لخرق الاتفاق، تبعهم المغاربة آنذاك. بالنسبة لزعماء جيش التحرير في المغرب فقد كانوا مشبعين بروح الكفاح المسلح من اجل تحرير البلاد. ولهذا لما عاد محمد الخامس من المنفى كان المغرب يفتقد إلى تمثيلية رمزية قوية مع أن حزب الاستقلال كان في إمكانه أن يصبح كذلك ، ولم يكن هناك من في وسعه أن يحظى بثقة الشعب رغم أن علال الفاسي كان قد ظهر كزعيم مغربي ذيع صيته على المستوى الدولي ، لم يستطع حزب الاستقلال أن يلعب هذا الدور التمثيلي خصوصا وأنه كان قد بدأ يضعف منذ أن نفي محمد الخامس سنة 1953 ، لذلك وببروز المقاومة المسلحة تحت قيادة جيش التحرير والذي يتكون معظم أعضائه وقادته من سكان البوادي المغربية قام بسد هذا الفراغ التمثيلي، أصبح حزب الاستقلال مهدد في شرعيته النضالية والتي بدأت تتراجع أمام تفوق الجيش في مواجهاته ضد العدو الاستعماري ، فكان المطلب الرئيسي للحزب أنداك هو عودة الملك إلى عرشه ، وبذلك استفادوا من التأييد الشعبي لأنهم ظهروا كوطنيين يدافعون عن سلطان قاوم رغبة الفرنسيين و أصبح كل من يدافع عنه يحظى بالتأييد والثقة الشعبية. من هذا المنطلق عمل حزب الاستقلال على عرقلة المقاومة وجيش التحرير أثناء بدأ العمليات العسكرية ضد المراكز الاستعمارية الفرنسية، وفي ذلك يقول عبد الله الصنهاجي في مذكراته:" لم تمض بضعة أسابيع من بداية معركة جيش التحرير حتى نزل علال الفاسي في مطار تطوان قادما إليها من القاهرة وبهذه المناسبة عدت إلى الالتحاق بتطوان وكلي أمل في أن الاجتماع الذي سيحضره علال الفاسي وخاصة في الظروف الدقيقة من سير المعركة التحريرية سيسفر عن نتائج جديدة وايجابية بالنسبة لخطتنا التحريرية(...) وأن يأتي هذا الاجتماع بسياسة وطنية مدروسة من شانها أن توصلنا إلى غاية التحرير(...) ، ولكن ياللأسف (...) فبعد يومين من التجوال وحضور الموائد الفاخرة مع الزعيم أيئست ورجعت إلى عملي بالناظور." لكنه في نفس الوقت استعمل المعارك التحريرية التي كانت قد انطلقت من البوادي والمدن للضغط على فرنسا من اجل قبول بعض الشروط التي كان يدافع عنها للجلوس على طاولة المفاوضات ، ولضخ المزيد من الأموال في بنياته التنظيمية الموزعة على معظم المدن المغربية عن طريق الاكتتابات المالية التي كانت تجمع من الشعب المغربي، ويتذكر الأستاذ الصنهاجي ويقول :" شاهدت مجموعة من الوطنيين (...) يقدمون إلى علال الفاسي شيكات بنكية بمبالغ مالية كنت أظنها أنها مساعدة منهم للجهاد"1، وعمم ذلك على الأحزاب السياسية بالشمال:" ففي هذا الوقت بالذات افتتحت الأحزاب السياسية بالشمال اكتتابات جمعت بواسطتها من المواطنين أموالا عظيمة باسم الجهاد ، وكان كل حزب من هذه الأحزاب ينشر في جريدته المبالغ المالية التي يتم جمعها في كل يوم ، فمن هم الذين توصلوا بذلك المال الكثير ؟ ومن هم الذين استفادوا منه ؟." في الواقع وفي إطار مقتضيات الأدبيات السياسية لحزب الاستقلال لم يكن زعماؤه معنيين مباشرة بعمليات جيش التحرير، بل إن عمل المقاومة وجيش التحرير لم يبدأ إلا حينما اتضح عدم جدوى الأسلوب السياسي المتبع من طرف حزب الاستقلال على وجه الخصوص. يلاحظ "دوغلاس اشفورد" ويقول في هذا الشأن :" هذه الفترة من تاريخ الحركة الوطنية هامة جدا ، إذ تأسست فيها منظمتان قامتا كشخصيتين منفصلتين عن حزب الاستقلال وهما حركة المقاومة والنقابات العمالية (...) ولم يأت خريف 1955 حتى كان جيش التحرير قد تطور إلى حد يجعله يشن هجومات على جيوش الاحتلال الفرنسي."،وفي الأمر الواقع يمكن أن نفهم بسهولة أن " هاتين الحركتين اللتين اختارتا المواجهة بدل المهادنة ظهرتا كرد فعل على عقلية حزب الاستقلال ، عقلية التملق السياسي." إن ما يثير الباحث في علاقة حزب الاستقلال بالكفاح المسلح وجيش التحرير هو ذلك التذبذب بين دفاعه عن فكرة التفاوض مع الاستعمار الفرنسي ونسج علاقات صداقة مع ممثلي السلطات الاستعمارية في عز الحرب التي يشنها جيش التحرير على هذه القوى،وتبنيه في نفس الوقت العمليات العسكرية للمقاومة المسلحة . و في ذلك تظهر إستراتيجية الحزب في الاستفادة من تبعات هذه الحرب المعلنة ضد الاستعمار وقطف ثمارها دون المشاركة فيها عن طريق ملاحظتها من بعيد ومحاولة التأثير فيها وتوجيهها في صالح تكتيكات الحزب التي كانت تنتظر فتح المفاوضات مع فرنسا. ففي اجتماع دار بمركز جيش التحرير بتطوان شاركت فيه القيادة الميدانية بالناظور بحضور بعض نخب و متعاطفي حزب الاستقلال حاول هؤلاء تمرير وثيقة للتفاوض مع فرنسا حول استقلال المغرب ، و يقول الأستاذ الصنهاجي في ذلك أن عبد الكبير الفاسي" أبلغني بأن الجماعة تنتظرني لتطلعني على تقرير مفصل عن خطتها ، وبدأ في تلاوة التقرير المذكور وبعد اختتامه استنتجت منه أنه وقع اتفاق بين المتحزبين مع الفرنسيين على الاستقلال الداخلي للمغرب دون رجوع محمد الخامس ، على غرار ما وقع في تونس ، وأنه لا داعي لعمل جيش التحرير." ، لقد كان موقف قيادة جيش التحرير بالناظور واضحا في ذلك حيث التزمت باستمرار الكفاح المسلح إلى غاية تحرير المغرب والجزائر، واستبعدت الدخول في مفاوضات مع الاستعمار الفرنسي" ، كان جوابي على هذا التقرير هو كما يلي:" إن جنود جيش التحرير المنظمين في الجبال ينتظرون منا إصدار الأوامر لبدء المعركة التحريرية،وإخواننا المقاومين الذين حكمت عليهم فرنسا بالإعدام هم الآخرون ينتظرون منا أن نفتح عليهم أبواب السجن." لا ننسى أن حزب الاستقلال كان مشكلا من الحضر ، من بورجوازية المدن ، المقربين من القصر ومن البورجوازية الصغرى الناشئة ، وهذا كان كافيا ليتصور نفسه " زعيما لكل كبيرة وصغيرة في البلد. ومن عساهم يكونون زعماء جيش التحرير هؤلاء حتى لا يخضعوا لإرادة ورغبة الحزب ؟." - حزب الاستقلال ومحاولات احتواء جيش التحرير: من هذا المنطلق سعى حزب الاستقلال دائما إلى احتواء عمل جيش التحرير. ويقول "سيدون دافدسون" في هذا الموضوع:" واضح أن حزب الاستقلال كان لديه طموح القيام بدور تنسيق العمليات الأولى لجيش التحرير المغربي التي بدأت في الشمال مع التصدي الجزائري في وهران من أجل إشراك المغرب في حرب تحرير الجزائر والعكس أيضا"2،لذا قام باستغلال الإعلام كأداة للدعاية للحزب ولزعيمه "علال الفاسي" بإظهاره كقائد لجيش التحرير ومدافع عن أسلوب الكفاح المسلح لتحرير المغرب ، وكان أول بلاغ قد أصدر من طرف علال الفاسي بعد بدأ العمليات العسكرية ضد الاستعمار الفرنسي ينهي فيه قيام جيش التحرير المغربي بعمليات ضد الجيش الفرنسي ، ويقول الأستاذ غلاب في ذلك أن " البلاغ الأول الذي أذاعه علال الفاسي من القاهرة يوم 13 أكتوبر بعد ابتداء العمل بثمان وأربعين ساعة (...). يبتدئ البلاغ هكذا: (...) بتوفيق من الله افتتح جيش التحرير المكون من مجموع الحركات الفدائية في جميع أقطار الشمال الإفريقي باكورة كفاحه بالعمليات المشتركة." وربط بين الحركة الوطنية وجيش التحرير واعتبرها جزء من حركة الكفاح المسلح " والقيادة المشتركة لجيش التحرير التي هي من صفوف المكافحين والمجاهدين والممثلين الحقيقيين لأفراد الحركات الوطنية الفدائية داخل البلاد." لم يكن جيش التحرير تحت سيطرة حزب الاستقلال كما لم تكن حركة المقاومة تحت المراقبة الفعلية للحزب رغم أن علال الفاسي أراد "إيهام" الرأي العام كزعيم وطني أن له سيطرة على هذا الجيش وبإمكانه أن يأمر بوقف الكفاح أو مواصلته في القاهرة عندما صرح بما يلي:" سيوقف جيش التحرير الجزائري والمغربي القتال حينما تتحول مسؤولية حماية أمن الدولة إلى حكومة مغربية". يتكلم الفاسي في هذا النص على مسؤولية الدولة وليس على تحرير البلاد ، لذلك بقي تصريحه بدون أي جدوى لآن زعماء جيش التحرير لم يأخذوا به بحكم أنه موقف لا يتحدث عن التحرير الكامل لبلدان الشمال الإفريقي. أضحى جيش التحرير لدى حزب الاستقلال أداة لتنفيذ أجندته السياسية اتجاه الاستعمار الفرنسي ، باستغلال العمليات التي يقودها ضد الاستعمار في تأكيد أن الحزب ليس له أي موقف سلبي من الكفاح المسلح إذا كان سيحقق ما يسميه ب "مطالب الشعب المغربي"،فإلى جانب الكفاح السياسي في المدن هناك قادة عسكريين في الجبال قادرين على الضغط على فرنسا لتحقيق الاستقلال ، ويقول الأستاذ غلاب أن الهدف من عمليات جيش التحرير هو:"الضغط في الميدان السياسي فمن شأن تضافر عمل جيش التحرير في الجبال مع عمل المقاومة في المدن والسهول أن يفتح عيون الفرنسيين على الحقيقة، وهي أن المغرب خرج من أيديهم. ولذلك فيجب أن يخضعوا لمطالب الشعب المغربي وتتلخص في الاعتراف بالاستقلال وعودة محمد الخامس." ساهمت المصداقية النضالية التي كان يتمتع بها جيش التحرير لدى الشعب المغربي وشرعيته الكفاحية في تمثيل الحركة المسلحة المغربية ، وفي "إثارة" التنافس السياسي بينه وبين حزب الاستقلال الذي وعى أن فرنسا لا بد لها أن تبحث عن محاور رئيسي أثناء المفاوضات وأن جيش التحرير سينزل بكل ثقله لتغيير مسارات فرنسا اتجاه القضية المغربية ، لكن فرنسا أدركت أن " سم علال الفاسي ورفاقه غير قاتل" فجذبتهم إلى مائدة المفاوضات حتى لا تستفحل الأمور إلى عكس ما تريده فرنسا . وقبل ذلك كان المهدي بن بركة أثناء غياب "عباس المساعدي" عن منطقة "اكزناية" التي يترأس فرق جيش التحرير بها قد حاول السيطرة على قادة الجيش للالتحاق بحزب الاستقلال ، ويحكي الدكتور الخطيب في مذكراته أن المهدي بن بركة زار " رفقة مسؤولين في الحزب منطقة اكزناية بكيفية سرية ، وحاولوا حسب ما قيل لي إقناع جيش التحرير بالانفصال عن قيادتهم والالتحاق بصفوف حزب الاستقلال." كان حزب الاستقلال ينوي من وراء محاولاته احتواء جيش التحرير التحكم في اللعبة السياسية لمغرب ما بعد الاستقلال حتى لا تبرز قوة سياسية مناقضة لتوجهاته المبنية على مهادنة الاستعمار الفرنسي وعدم مقاومته بالسلاح ، فحاول السيطرة على الجيش وعلى البوادي المغربية التي كانت تشكل خزانا وقاعدة شعبية للكفاح المسلح بالمغرب. فالحزب كان يسيطر فقط على العالم الحضري كله تقريبا غير أنه لم يصل إلى العالم القروي وبقيت البوادي المغربية خارجة عن سيطرته، والدارس لتاريخ المغرب يعرف أن البوادي والقرى كانت هي التي تملك قدرة الفعل ، سواء في مواجهة الاعتداءات الخارجية أو في مواجهة " الظلم الداخلي". لهذا فحزب الاستقلال لم يكن له أتباع في البوادي ما دام لم يفكر أبدا في استعمال أسلوب العنف ضد الاستعمار. ويقول "دايفيد سيدون":" لم يكن قادرا (أي الحزب) على ممارسة تأثيره على البوادي حيث ظلت أغلبية الجماهير غير مسيسة وتساند بل تساهم في المقاومة بالبوادي." - اغتيال عباس لمساعدي تمهيد لتصفية جيش التحرير المغربي: - جيش تحرير بدون حزب الاستقلال، أو لماذا اغتيل لمساعدي؟: حل عباس المساعدي بمدينة الناظور بعد أن وضعت جميع الأسس لبناء حركة مسلحة بالريف ، أي بعد أن مر على ميلادها حوالي أربع سنوات في شهر يوليوز 1955،واستطاع الاتصال بجهات متعددة ، يبحث عن منفذ لإبراز طموحاته العسكرية التي لم تتبلور في الدارالبيضاء . وفعلا وجد بقبائل الريف الجنوبية الخاضعة للسيطرة الفرنسية ضالته المنشودة، وجد أمامه قبائل تمتد على طول الشريط الحدودي الممتد لمسافة تربو على 100 كلم، بالإضافة إلى قبائل الأطلس المتوسط الشمالية، مستعدة كامل الاستعداد لمحاربة المستعمر. كانت سرعة تنقلاته وسط قبائل الريف ، والاتصالات المختلفة بالشخصيات النافذة فيها ، إلى جانب استقدامه لبعض زعماء التنظيمات الموجودة بالأطلس المتوسط إلى الناظور خير معين له على إبراز مواهبه القيادية . قام بتكوين مركز للقيادة العامة لجيش التحري بأكنول في ربيع 1956 ، وأصبح زعيما لها يأتمر كل القادة بأوامره ويفاوض باسمهم كل الجهات ، واشتدت رمزيته بعد عودته من القاهرة في أواخر فبراير 1956 ، حيث كانت له لقاءات مع محمد بن عبد الكريم الخطابي الذي كان جيش التحرير يكن له التقدير والاحترام ، كما كانت له لقاءات مع القيادة المصرية التي كانت تجتهد لترسيخ أقدامها في كل صغيرة وكبيرة وسط البلدان المكافحة من أجل الاستقلال ، وعلى رأسها المغرب. كانت عداوته كبيرة للأحزاب المغربية وخاصة حزب الاستقلال ، فطيلة أيام الحرب التحريرية حاول المساعدي منع تسرب مبعوثي كل الأحزاب المغربية للاتصال بالثوار في الجبال . ويروي المقاوم عبد الله الوكوتي أن:" الشغل الشاغل لعباس هو تحطيم حزب الاستقلال الذي كان ناقما عليه" ، هذا التحطيم الذي تحدث عنه الوكوتي كان المساعدي يفهمه انطلاقا من اعتباره حزب الاستقلال حزبا مهادنا للسلطات الاستعمارية وكل ما يهدف إليه هو التحكم في مغرب ما بعد الاستقلال ، في حين أن الوكوتي كان يرى فيه البديل الحقيقي للخروج من أزمة التمثيلية السياسية و إجابة عن سؤال من سيمثل الشعب المغربي إذا نجحت المفاوضات مع الاستعمار الفرنسي وحقق المغرب استقلاله :" أتساءل ما هو البديل لهذا الحزب إذا أذعن غدا الاستعمار لكفاح الشعب المغربي ؟ (...) و أتساءل وأقول من وجهة نظر عباس: أين هي الأطر التي تقبض على زمام الأمور غدا إذا أذعن الاستعمار ولبى مطالب الشعب في نيل الاستقلال ؟." ، فكانت إجابة المساعدي أنه: "يمكن للأطر الشابة أن تنسحب من الحزب وتلتحق بالثورة". إن الظرفية التي كان يمر منها المغرب أواسط الخمسينات بعد عودة محمد الخامس من المنفى وبداية ظهور البوادر الأولى لمفاوضات مع الاستعمار الفرنسي ، كانت تحتم على الحركة الوطنية وحزب الاستقلال خاصة استبعاد جيش التحرير من معادلة الاستقلال والمشاركة في اقتسام السلطة بعد خروج الاستعمار من المغرب ، لإزالة الشرعية والتمثيلية عنه والحيلولة دون بروز قوة عسكرية معارضة لتوجهاته ، كل هذه الأمور كان يعيها عباس المساعدي ويعرف انه يواجه حزبا " توتاليتاريا لكونه يقطع مع المؤسسات الدينية والاجتماعية التي كانت آنذاك ويفرض رؤاه فرضا قسريا" ، هذه السلطوية كانت وراء تشكيل مليشيات تقوم بعمليات تصفية المعارضين لتوجهات الحزب سواء من داخل المقاومة المسلحة أو من داخل الأحزاب السياسية الأخرى . وفي ذلك السياق يقول الدكتور الخطيب:" بعد رجوعي ومروري على مدريد ، لمح لي صديقي وأخي عبد الكبير الفاسي أنه وقع في المغرب حادث مؤلم ، وقال لي:" يا عبد الكريم ، تجمعنا صداقة وكفاح مشترك ، فأرجوا أن تترك عنك انتقاد حزب الاستقلال حتى لا يصيبك ما أصاب عباس." لقد تواجدت شخصيات تنتمي إلى حزب الاستقلال في الجهاز التسييري لجيش التحرير بالقيادة المركزية بتطوان التي حاولت أن تكون لها سلطة سياسية على بقية المراكز الأخرى رغم أنها لم تشارك في العمليات العسكرية بشكل مباشر ، بل إنها حسب شهادات مجموعة من المقاومين لم تلعب الدور المنوط بها على أحسن وجه من خلال عملها على كسر نضالات جيش التحرير أثناء الهجمات التي استهدفت المراكز الاستعمارية3 ، وقد توجس المساعدي من تواجد هذه القيادات في تنظيمات جيش التحرير، " والمثير للانتباه أن عباس لم يكن يخفي عداءه لحزب الاستقلال ، وهو وسط الجماعة التي كانت تهيمن على الهيئة المسيرة للحركة بتطوان ، والتي انتدبته مع عبد الله الصنهاجي ليشرفا على تنظيم جيش التحرير بالناحية الشرقية وهي المتشبثة بولائها لحزب الاستقلال(...) والظاهرة فسرت بتأثير النزعة العرقية أو الجهوية فالجماعة جل أفرادها من الناحية الجنوبية الغربية، وعباس وعبد الله من نفس الجهة." إن الظاهرة لا يمكن تفسيرها بهذه البساطة ، فعبد الله الوكوتي كانت له نزاعات مع لمساعدي بسبب تعاطفه مع حزب الاستقلال:" عباس كان ينازعني خوفا مني على مزاحمته في طموحاته وبسبب ولائي للحزب الذي كان يناوئه" . لقد تشبثت القيادات الميدانية لجيش التحرير باستقلاليتها التامة عن جميع الأحزاب المغربية التي كانت إستراتيجيتها السياسية تختلف عن إستراتيجية جيش التحرير، فاستغلت فرنسا هذه المعطيات للتعجيل بالتسوية مع المطالبين بالاستقلال من المغاربة حتى لا يتم التنسيق المنظم والمحكم بين المغاربة والجزائريين خصوصا وأن جيش التحرير المغربي كان متمركزا على الحدود المتاخمة للجزائر ، وأدركت فرنسا انه من الصعب فتح جبهتين للحرب ( المغرب والجزائر) واختارت التركيز فقط على الجزائر التي كانت تعتبرها إقليما فرنسيا. في هذه الظروف سيلعب حزب الاستقلال دورا كبيرا في إيقاف جيش التحرير عن القيام بمهامه التي سطرها لتحرير جميع الأقطار المغاربية ، من أجل السيطرة على التمثيلية السياسية التي ستخول له الدخول في المفاوضات مع فرنسا كممثل للشعب المغربي ، وهذا ما كان يخشاه عباس المساعدي في معارضته لتوجهات حزب الاستقلال. - شهادات ومسارات تاريخية حول اغتيال عباس لمساعدي: لم تكن للملكية المغربية وحزب الاستقلال رغبة في وجود جيش التحرير على الساحة المغربية بعد عودة محمد الخامس يوم 16 نونبر 1955 من المنفى ، على أساس أن هذا التواجد قد يغير من ميزان القوى لصالح الكفاح المسلح ضدا على الجانب الذي يدفع في اتجاه فتح المفاوضات مع فرنسا والذي يعتبر أن النضال المسلح قد استنفذ أغراضه بعودة الملك المغربي. و قد سجل "دال" في كتابه " الملوك الثلاثة" أن: " ما أزال شوكة مزعجة من قدم الملكية هو الرحيل السريع لجيش التحرير، وتذويب فرقه، وإدماجه في جيش التحرير." وإذا رجعنا إلى شهادات ومذكرات بعض المقاومين وأعضاء جيش التحرير الذين شاهدوا وعاينوا تلك الفترة العصيبة التي مر منها جيش التحرير المغربي أثناء محاولات بعض الأطراف تصفيته ودمجه في الجيش الملكي ، نجد تضاربا في الروايات التي قاربت موضوع اغتيال لمساعدي بين من يحمل المسؤولية لحزب الاستقلال، وبين من ينفي عنه تدبير عملية الاغتيال، وبين من يجعل من عباس لمساعدي مسؤول عن بعض التجاوزات التي عرفها الجيش أثناء الصراع الذي دار بين "فصائله". لقد سبق أن لمحنا في فقرات سابقة إلى أن لمساعدي كان يعارض تواجد حزب الاستقلال في هياكل وتنظيمات جيش التحرير لأسباب متعددة، على الرغم من بروز بعض القيادات الاستقلالية في جهة تطوان كقيادة سياسية للجيش، إلا أن لمساعدي لم يكن يخفي امتعاضه من ذلك ، ويعد عبد الله الوكوتي خير مثال على ذلك إذ يؤكد أنه:" واصلت العمل مع عباس لأنه كان مرغما على مسايرتي، إلى أن يأخذ مني ما أراده..."، هذا يؤكد- حسب الوكوتي- أن الصراع بين الطرفين هو صراع حول الزعامة:" كنت أحس ونحن نبتعد بعضنا عن بعض في أفكارنا ببرودته ، وكأنه يئس من ميلي إلى أفكاره، ومن خلال هذا الاحتكاك المتواصل أدركت مدى تعطشه إلى الزعامة ، وأن طموحه كان أكبر منه بكثير" . البحث عن الزعامة كانت له مبررات لدى لمساعدي الذي – ربما- كانت له نظرة أخرى إلى الأمور انطلاقا من ماضي علاقاته مع بعض الشخصيات الاستقلالية كالمهدي بن بركة الذي طلب منه لمساعدي تمويل ودعم جيش التحرير فكان جوابه:" أنهم( أي حزب الاستقلال) سياسيون لا ثوريون". كانت للمهدي بن بركة رؤية مغايرة لتوجهات لمساعدي وجزء من قيادات جيش التحرير،فحاول استغلال ظرفية المفاوضات في ايكس ليبان لفرض الأمر الواقع على جيش التحرير وجره إلى إعطاء موقف مساند لهذه المحادثات ، فقام بزيارة للقيادة المركزية للجيش بتطوان من أجل ثنيها عن مواقفها الداعمة للكفاح المسلح والمعارضة للمفاوضات. ويروي الأستاذ الغالي العراقي في مذكراته أن المهدي بن بركة كانت له رغبة ملحة " في عقد اجتماع مع القيادة المركزية لجيش التحرير لمناقشة تطورات الأوضاع والمستجدات التي طفحت على الساحة ، وذلك في سياق التحضيرات الجارية للمرحلة المقبلة ، وهو في طريقه إلى ايكس ليبان (...) فانه يرغب الاتصال بكم- يضيف الدكتور بن جلون- (...) و قد انطلق الاجتماع (...) [و] تقدم الأستاذ المهدي بن بركة بعرض شامل عن الأوضاع وتطوراتها داخل المنطقة الخليفية..." ، وكانت خلاصته أن فرنسا لديها نية واضحة وحقيقية للدخول في مفاوضات جدية مع المغرب وخلص إلى القول:" ...كلانا يعمل من أجل الاستقلال...لكن تبقى هناك الترتيبات ، وهذه تحتاج إلى مفاوضات...وتتطلب الوقت" ، وطلب من قيادة جيش التحرير وقف العمليات العسكرية إلى حين إنهاء المفاوضات مع الاستعمار الفرنسي بقوله:" أثناء هذا الوقت نتمنى – ونحن على طاولة المفاوضات- أن نشعر بمساندتكم وتأييدكم لمجهوداتنا...". و حاول طمأنة قيادة جيش التحرير أن هذه المفاوضات لن تهدف إلا الاستقلال التام للشعب المغرب: " أما النتيجة التي نسعى إليها، فكونوا على يقين أننا لن نحيد عن الاستقلال التام ورجوع الشرعية في شخص محمد الخامس." لقد حاول الأستاذ " محمد الخواجة" في كتابه السالف الذكر نفي مسؤولية المهدي بن بركة عن اغتيال عباس لمساعدي من خلال إيراده مجموعة من الأفكار التي لا تصمد أمام منطق بعض الروايات التاريخية ، فمثلا اعتبر أن" التفاهم بين لمساعدي و بنبركة لن يفيد أية جهة وطئت أقدامها الأرضية المتصارع عليها " لآن مشروع كل واحد منهما يكمل الأخر من خلال العمل الذي قام به المهدي لإيجاد أرضية مشتركة للعمل سويا في المستقبل ، واستدل على تواجد مجموعة من قيادات جيش التحرير في مواقع متقدمة داخل حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية كالأستاذ عبد الله الصنهاجي وهذا يؤكد أن " بن بركة كان يسعى للتحالف مع جيش التحرير وبالتالي مع عباس المسعدي ولم يكن يسعى لقتله." وفي مكان أخر يتساءل الأستاذ " الخواجة" في معرض دفاعه عن المهدي بن بركة وجدوى اغتياله للمساعدي ويقول:" لماذا تعرض هذا الجيش لأبشع تشتيت واهانة عندما كان المهدي في المنفى وبعد تصفيته جسديا ؟ لماذا أقبرت مصالح أعضاء جيش التحرير بعد أن كان المهدي في المنفى وبعد تصفيته ؟ لماذا انصرف الجميع عن الاهتمام بتاريخ جيش التحرير والمقاومة إلى حد ما بعد ذهاب المهدي؟". إن الحقائق التاريخية سرعان ما تظهر الأسس الغير المنطقية التي تستند عليها هذه الأسئلة التي طرحها الأستاذ " الخواجة" ، فكل باحث في تاريخ المقاومة وجيش التحرير يعرف أن هذا الأخير كان يحمل في أحشائه بذور الأزمة إذا أخذنا بعين الاعتبار تولي بعض القيادات الاستقلالية زمام الأمور في الهياكل التنظيمية والسياسية لجيش التحرير ، هذا الأخير – كما سبق الذكر- قام بلعب دور المعرقل للكفاح المسلح لتناقضه مع مبدأ المفاوضات ومهادنة الاستعمار اللذين أسست عليهما الحركة الوطنية المغربية بصفة عامة وحزب الاستقلال بصفة خاصة . إن ما يذهب إليه الأستاذ " الخواجة" في نفي التهمة عن المهدي بن بركة وبالتالي عن حزب الاستقلال يتناقض مع ما يلي: * الرواية التي تم إيرادها مسبقا حول محاولات المهدي بن بركة الحيلولة دون استمرار عمليات جيش التحرير المغربي أثناء بداية المفاوضات مع الاستعمار الفرنسي. * المهدي بن بركة كان يعد من القيادات التاريخية لحزب الاستقلال والذي كانت له مواقف معادية لجيش التحرير المغربي. * الصراع في تلك الفترة كان حول من يمتلك الشرعية السياسية لتمثيل حركة الكفاح ضد الاستعمار الفرنسي، هذا الصراع كان بين طرفين أساسيين هما: جيش التحرير وحزب الاستقلال. * تأسيس الاتحاد الوطني للقوات الشعبية سنة 1959 جاء كنتيجة لتصفية جيش التحرير وعقد صفقة الاستقلال المنقوص مع الاستعمار الفرنسي من طرف نفس القيادات التي حضرت المفاوضات كالمهدي بن بركة ، وقام الحزب الجديد باستقطاب قيادات جيش التحرير بعد الانتهاء من إدماجه في الجيش الملكي. وفي سياق أخر يروي المقاوم عبد الله الصنهاجي أن جماعة تطوان قامت بإرسال رسالة إلى قيادة الناظور تطالب بالتحاق لمساعدي بصفة عاجلة " ومن مضمون تلك الرسالة تحققت بأن هناك مؤامرة تحاك ضد خطة جيش التحرير المتكون من أبناء البادية ، فأرسلت على الفور إليهم رفيقي عباس على متن الطائرة ، وبمجرد وصوله أبلغوه بأنه معزول من المسؤولية التي كان مكلفا بها ووضعوه تحت الإقامة الإجبارية". وكان الهدف من ذلك هو عزل لمساعدي عن قيادة جيش التحرير " أبلغوني على لسان الخطيب هذه المرة بحضور الجميع بأنهم تراجعوا عن خطتهم على أساس أن أتحمل مسؤولية جيش التحرير وحدي دون عباس ، فأبلغتهم بدوري بأن المصلحة الوطنية تقتضي منا أن نستمر في عملنا حتى نحقق الغاية التي هي الاستقلال التام." لكن قيادة تطوان المركزية لم تذكر حدث الاعتقال واعتبرت استدعاء لمساعدي كان من أجل " إرجاع عباس إلى وعيه والى مسؤوليته الأصلية خصوصا وأننا مقبلون على انطلاقة جيش التحرير وأن الأعداء يتربصون بنا...". هذا ما جعل لمساعدي يشن حربا على كل القيادات الحزبية متهما البعض منها بالخيانة وإفشاء أسرار جيش التحرير بإجراء الاتصالات مع السلطات الاستعمارية ، ويقول على لسان الوكوتي:" وإذا حلفت لكم على هذا المصحف الشريف ، وقلت لكم ، إن بنعبد الله الوكوتي ضبطناه يتصل برئيس دائرة أبركان-دالي- على الحدود ، ويفشي له أسرارنا ، وقدمت لكم الحجج." إن استمرارية عمليات جيش التحرير حتى بعد عودة محمد الخامس من المنفى وتوقيع وثيقة الاستقلال كانت تثير خلافات بين الأطراف السياسية المغربية آنذاك ، فقد أصدر جيش التحرير يوم 14 مارس 1956 بلاغا في الناظور يقول فيه:" قررت القيادة العامة لجيش التحرير باتفاق مع المقاومة إيقاف العمليات الحربية مؤقتا ، مع احتفاظ جيش التحرير بمراكزه حتى تستخلص السيادة المغربية عن أخرها دون قيد أو شرط ، هذا ما دامت القوات الفرنسية لم تهاجم جيشنا المرابط المنتظر." بعد هذا البلاغ سيحضر رؤساء الجيش يوم 30 مارس 1956 الاستقبال الذي خصهم به الملك4، وقد روى عبد العزيز أقضاض الدوائري عن هذا الاستقبال وهو يشير إلى حادثة ستنضاف إلى العديد من الإشارات حول مقتل عباس لمساعدي:" ذهبنا جميعا رؤساء جيش التحرير(...) إلى القصر الملكي (...) مرتدين جلابيبنا الريفية مسلحين تحتها بمسدساتنا الشخصية (...) وبينما نحن واقفون (...) إذ شاهدنا المرحوم عبد الخالق الطريس زعيم حزب الإصلاح الوطني آنذاك في تطوان يتقدم نحونا بخطواته قصد السلام علينا فاعترض طريقه الأخ عباس المساعدي فقال له:" ماذا قدمت لرجال هذه الأسرة من عمل حتى تسلم عليهم أو تحييهم؟". من يقرا هذه النصوص المختلفة ويستعرض بعض الأحداث ويتتبع ما يجري، سيلاحظ بدون شك أن هناك أيادي عديدة تحاول جر البساط تحت أقدام لمساعدي الذي كان بدوره يشعر باشتداد الخناق حوله. يسجل عبد العزيز اقضاض في مذكراته فحوى الرسالة التي أرسلت إلى جيش التحرير في مركز "أكنول" بتاريخ 4/6/1956 مخبرة أعضاء الجيش بقدوم بعض قياديي المقاومة لزيارة المركز من أجل " أن تعتنوا بهم وتبسطوا لهم مشاكلهم بكل وضوح وصراحة"5، هاته الزيارة لم ترق عباس لمساعدي واعتبرها تدخلا في شؤون جيش التحرير الداخلية، وبينما " كان الإخوان المشار إليهم في الرسالة مجتمعين مع قادة جيش التحرير ، دخل عباس ووقف بالباب في حالة غليان فوجه كلامه للحاضرين ( محمد البصري ، المهدي بن بركة ، اسعيد بونعيلات) قائلا: " ماذا تعملون هنا أيها الزنادقة ؟ اذهبوا إلى الدارالبيضاء إن كان لكم بها عمل أما الريف فليس لكم فيه عمل وغادر الثلاثة الموقع في الحين." إن عمق المشكلة لم تكن تتمركز حول من له الأحقية أو الشرعية في ترأس وتزعم جيش التحرير كما يظهر من خلال بعض الشهادات التاريخية المدرجة في هذا الفصل ، على اعتبار أن قضية الزعامة قليلا ما كانت تثير خلافات ونزاعات بين أعضاء الجيش إذا علمنا أن قيادة الجيش هي قيادة جماعية ، بل إن الإشكال الذي طرح لدى بعض القيادات الميدانية كعباس لمساعدي هو: كيف يمكن قيادة النضال المسلح ضد الاستعمار الفرنسي بجيش تحرير تم اختراق بعض هياكله من طرف النخب الحزبية التي لم تكن تؤمن بالعمل المسلح لدحر الاستعمار ؟، هذا الاختراق كان يعبر عن: * استغلال جيش التحرير المغربي وعملياته العسكرية من طرف النخب الحزبية لكسب نقط أثناء المفاوضات مع الاستعمار الفرنسي والضغط عليه انطلاقا من أجندة سياسية خاصة.