يذكر بنعبد الله الوكوتي، في كتابه «ذكريات مقاوم»، أن الصراع على السلطة في المغرب، في مرحلة ما بعد زوال الاستعمار الفرنسي، خلف جوا من الفوضى العامة والشطط في ممارسة السلطة، خاصة من قبل حزب الاستقلال الذي وضع أعضاءه والموالين له على رأس جميع العمالات والأقاليم، بحيث أصبحت لهؤلاء الحرية المطلقة في القيام بكل شيء دون حسيب أو رقيب، بتعاون مع بعض المنتمين إلى جيش التحرير، سواء لتصفية معارضي الحزب، من الشوريين أو المنتمين إلى الحركة الشعبية، أو لجمع الأموال من خلال ابتزاز المواطنين. كانت أولى المشكلات التي واجهت هيئة الإنصاف والمصالحة، حسبما ورد في التقرير الختامي، هي غياب التوثيق والدراسات التي تناولت المرحلة التي شملتها منهجية العمل التي تبنتها للكشف عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان خلال 43 سنة من تاريخ المغرب المعاصر، أي منذ نهاية الخمسينيات من القرن الماضي إلى حين وفاة الملك الراحل الحسن الثاني عام 1999. هذا الجانب التوثيقي أثر على طريقة عمل الهيئة التي وجدت نفسها مضطرة إلى اللجوء إلى طرق مختلفة من أجل إقرار الحقيقة والكشف عن خروقات الماضي، لكن الجانب السياسي، حسب المراقبين الذين تابعوا الملف قبل ثماني سنوات، أثر على عمل الهيئة هو الآخر، إذ وجدت هذه الأخيرة نفسها مضطرة إلى الوقوف عند الخروقات التي حصلت منذ بداية الستينيات، وتجاوز مرحلة التصفيات التي تمت مباشرة بعد نيل المغرب لاستقلاله، بسبب التداخلات السياسية فيه وتخوف بعض الجهات من عودة أشباح الماضي بشكل يقلب العديد من الأفكار الجاهزة ويأتي على التحالفات السياسية الحاصلة. لكن التعرض لهذه المرحلة يعوقه غياب الجانب التوثيقي، فالعديد من المقاومين لم تسنح لهم الفرصة لتسجيل مذكراتهم، ومن كتب منهم عما حصل خلال سنوات الخمسينيات من تصفيات جسدية وانتقادات بالجملة تعرض لذلك باحتشام، ومن حاول كشف حقائق تلك المرحلة تعرض للتعتيم. ويتفق جميع من كتبوا عن تلك المرحلة، ممن سنحت لهم الفرصة لفعل ذلك، على أن المغرب كان قاب قوسين أو أدنى من الحرب الأهلية، بسبب الصراعات الدموية التي حصلت بين حزب الاستقلال لعلال الفاسي وحزب الشورى والاستقلال لمحمد بن الحسن الوزاني، وصلت إلى حد ارتكاب مجازر مثل مجزرة مدينة سوق أربعاء الغرب التي سماها البعض بصبرا وشاتيلا المغرب؛ فحزب الاستقلال كان يتصرف وكأنه الحزب الوحيد في المغرب والحاكم الفعلي للبلاد بعد خروج الفرنسيين، ولا يقبل أي منافس له، وكان يعتبر نفسه أقوى من المؤسسة الملكية نفسها، خصوصا بعدما أشرف مسؤولو الحزب على الجانب الأمني بعد عودة الملك محمد الخامس من مدغشقر، حيث تكلف بحراسة الموكب الملكي من المطار إلى القصر الملكي، قبل أن تؤسس القوات المسلحة الملكية. ويروي أحد من عايشوا تلك المرحلة، في لقاء مع «المساء»، وهو الكولونيل عبد الله المنصوري الذي كان ضابطا عسكريا في تلك الفترة، أنه خلال الاستعراض العسكري الثاني بعد الاستقلال، الذي نظم بفاس بحضور الملك محمد الخامس وولي العهد وقتها الأمير مولاي الحسن، حضر علال الفاسي إلى الحفل وهو يلبس زيا عسكريا برتبة جنرال، مما أثار غضب الملك وولي العهد الذي رده من موقع الحفل وأمره بتغيير لباسه، وهو الحدث الذي يقول البعض إنه جعل القصر يتعامل دائما بحذر مع الزعيم الاستقلالي، وأحيانا يسعى إلى إذلاله بطرق غير مباشرة، مثل تجريده من صلاحياته عندما كان وزيرا للأوقاف أو عدم تعيينه في الحكومة الأولى. ويذكر بنعبد الله الوكوتي، في كتابه «ذكريات مقاوم»، أن الصراع على السلطة في المغرب، في مرحلة ما بعد زوال الاستعمار الفرنسي، خلف جوا من الفوضى العامة والشطط في ممارسة السلطة، خاصة من قبل حزب الاستقلال الذي وضع أعضاءه والموالين له على رأس جميع العمالات والأقاليم، بحيث أصبحت لهؤلاء الحرية المطلقة في القيام بكل شيء دون حسيب أو رقيب، بتعاون مع بعض المنتمين إلى جيش التحرير، سواء لتصفية معارضي الحزب، من الشوريين أو المنتمين إلى الحركة الشعبية، أو لجمع الأموال من خلال ابتزاز المواطنين. ويذكر الوكوتي قصة بعض اليهود في مدينة وجدة الذين كان يتم ابتزازهم كل مرة بدعوى طلب الدعم منهم، وكيف أن جماعة مسلحة هاجمتهم لسرقة أموالهم، مما جعلهم يفكرون في الهجرة. ويذكر الوكوتي أن حالة التسيب والفوضى تزايدت مع حكومة أحمد بلافريج، لأنها كانت حكومة استقلالية بالكامل، وأطلقت أيدي الاستقلاليين لفعل ما يريدونه في المواطنين دون حسيب أو رقيب. وبعد إشراك حزب الشورى والاستقلال في الحكومة التالية، حصلت مذبحة سوق أربعاء الغرب الشهيرة ضد الشوريين، ويقول عبد الهادي بوطالب، الذي كان واحدا من الشوريين في ذلك الوقت قبل الانتقال إلى الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، عن تلك المجزرة: «وكان أغرب من ذلك كله أن يقع هذا وعلى رأس إدارة الأمن الوطني مكافح وطني من حزب الاستقلال هو المرحوم محمد الغزاوي» (نصف قرن في السياسة). وبالنظر إلى الفوضى التي طبعت تلك الفترة ووجود تيارين متصارعين داخل حزب الاستقلال: تيار يقوده الزعيم علال الفاسي وتيار يقوده المهدي بنبركة، فإن منفذي تلك الجرائم والمجازر كانوا يفعلون ذلك باسم حزب الاستقلال نفسه. ويقول بعض من أرخوا لتلك المرحلة إن الذين كانوا يقفون وراء تلك الأحداث نجحوا في التخلص منها بعد خروجهم من الحزب وتأسيس الاتحاد الوطني، بحيث بقيت تلك الأحداث ملتصقة بحزب علال الفاسي. ويروي عبد الله الرداد، الذي عاش التعذيب إلى جانب الشوريين في معتقل الساتيام السري بالدار البيضاء، في كتابه «من مظاهر التعذيب الحزبي أو دار بريشة الثانية»، أن العديد من أوامر القتل والاغتيال خرجت من بيت الفقيه البصري، وأن التيار اليساري داخل حزب الاستقلال كان المسؤول الأول عن تدبير تلك الاغتيالات والتصفيات، مثل اغتيال عبد العزيز بن ادريس، الذي كان يتمتع بشعبية واسعة داخل الحزب وكان يعارض الجناح الانفصالي الذي تزعمه المهدي بنبركة وعبد الله إبراهيم وعبد الرحيم بوعبيد وعبد الرحمن اليوسفي والفقيه البصري.