تروي الحكاية الشعبية أن الأمير عبد الكريم الخطابي حينما ضاقت به دائرة القتال وتفرق عنه مقاتلوه إلا القليل منهم، جمع من بقي حوله ليقول لهم: "إذا تناهى إلى أسماعكم أن الاستعمار أسرني أو قتلني أو بعثر جسمي كما يُبَعثر ترابُ هذه الأرض، فاعلموا أنني حي وسأعود من جهة الشرق". تلك كانت آخر كلماته – تقول الحكاية - قبل أن يسلم نفسه للفرنسيين ويتوارى عن الأنظار. والواقع أن نهاية حرب الريف التحريرية بالصورة التي انتهت بها، كانت تعني أيضا نهاية مشروع سياسي مستقبلي، تمثل في تكوين نواة "نظام جمهوري" يستند على دستور وحكومة وعُملة وعَلم ومؤسسات. هذا المشروع كان يهدف، لا محالة، إلى إيجاد صيغة بديلة لممارسة الشأن العام، لا تستمد مشروعية وجودها من سلطة مركزية باهتة عطّلت الحماية كل صلاحياتها. ففي رسالة مفتوحة إلى البرلمان الفرنسي، شددت الحكومة الريفية على حق الشعب الريفي في أن يعيش حرا ومستقلا كباقي الشعوب الحرة. والحرية في نظر الخطابي ليس فيها حل وسط لأنها أساس الوجود. ومما لا شك فيه أن هذه التجربة الفريدة من نوعها هي التي كانت تخيف الاستعماريين، فتحالفوا للقضاء عليها بجيش فاق عددُ جنوده عددَ سكان الريف أجمعين. وتؤكد زكية داود في كتابها ملحمة الذهب والدم، أن الحملة الفرنسية الإسبانية المشتركة على الجمهورية الريفية، تُعد أكبر حملة عسكرية على المغرب منذ العهد القرطاجي. تصورا .. عدد الجنود الغازين يفوق عدد السكان الأصليين!! إن مقاومة الريفيين للمشروع الاستعماري كان بمثابة الدرس الذي تعلمت منه الشعوب كيف تدافع عن نفسها وتنتصر لحقها بشرف مهما كان ثمن الحرية غاليا. فالاستعمار واحد، والمعركة واحدة. يقول عبد الكريم: "إن انتصار الاستعمار ولو في أقصى الأرض هزيمة لنا، وانتصار الحرية في أي مكان هو انتصار لنا". إن التحرر من كل أنواع التبعية هي قضية الأمير عبد الكريم الخطابي الأولى، وبسببها حورب في الماضي، وبسببها يُحارَب اليوم. حينما انطلقت الحركة الوطنية في بعض المدن المغربية العتيقة مثل تطوان وفاس وسلا والرباط، عَمَد رجالُها إلى قطع الصلة بالتجربة الريفية، وتناسوا زعيمها كليا إلى أن ظهر "فجأة" في القاهرة سنة 1947 بعد أكثر من عشرين سنة قضاها منفيا في جزيرة لاريونيون. فعلى مدى عقدين من الزمن، لم يحاول أي زعيم سياسي ربط الاتصال به ولو من باب المجاملة، أو من باب إقامة الدليل على أن الحركة الوطنية حاولت وأخفقت. بل أكثر من هذا، فعندما تأسست "لجنة تحرير المغرب العربي" كإطار يهيئ آليات الشروع في تحرير شمال إفريقيا، تبين أن قصد السياسيين من وراء "العمل" إلى جانب عبد الكريم، هو "استغلال" سُمعته العالمية من أجل الرفع من شأن بعض الزعامات الحزبية التي كانت تتسابق لالتقاط الصور الفوتوغرافية بجانب الأمير كدليل على القرب والحظوة! ولما أحس هؤلاء أن عبد الكريم لم يكن ليرضى بدور "الكومبارس"، انفضوا من حوله وراح كل منهم يعمل لتحقيق مصالحه ضدا على ما نص عليه ميثاق لجنة التحرير. وكتعليل لهذا الخلاف الذي بلغ حد التصادم أحيانا، يرى بعض رجال الحركة الوطنية المغربية أن عبد الكريم لم "يستوعب" تطورات ما بعد الحرب العالمية الثانية، وأنه بقي متمسكا بأساليب العشرينات التي تجاوزها الزمن، في اعتقادهم! لم تنطل على الأمير عبد الكريم سياسة "المراوغات" التي كان ينتهجها الزعماء السياسيون، فباشر العمل مع أبناء الشعب ليهيئ رجال التحرير بعيدا عن الأحزاب السياسية التي كان لا يخفي مقته لها. فتمكن من تكوين ضباط عسكريين في المعاهد العسكرية في العراق وسوريا. كما خصصت مصر معسكرا لتدريب الطلبة المغاربة الذين كان يُشرف على تدريبهم ضباط مغاربة تخرجوا حديثا مثل الهاشمي الطود. ولقد أسهم عدد منهم إسهاما مباشرا في إعداد كوادر جيش التحرير في الجزائر والمغرب وتونس؛ من أبرزهم الضابط الهاشمي الطود والضابط حمادي العزيز والمرحوم حدو أقيشيش الذي تم اختطافه من بيت والده في تماسينت على يد عصابات كانت تعمل لجهات حزبية، ولم يظهر له أثر إلى اليوم، رغم أن هيئة الإنصاف والمصالحة قد تسلمت ملفا بشأنه. والعقيد الهاشمي الطود يروي في كل مناسبة مدى ارتباط قيام جيش التحرير في المغرب والجزائر بفكر وخطة عبد الكريم. كما أن قيادات جيش التحرير الميدانية في مثلث الموت في اكزناية تعترف بفضل عبد الكريم الخطابي في هذا الميدان، في الوقت الذي تنكرت فيه القيادات الحزبية لعمليات جيش التحرير معتبرة إياها أعمالا "تخريبية" و "إرهابية"، قبل أن تعود لتبنيها بعد أن تحقق الاستقلال بالطريقة المعروفة. إن دعوة الأمير عبد الكريم الخطابي إلى التحرر لم تنحصر في الريف أو المغرب أو شمال إفريقيا، بل تبنتها كل الشعوب التواقة إلى الحرية. وهكذا نادى بحق الشعب الفلسطيني في تحقيق مصيره وبناء دولته، داعيا الدول العربية والإسلامية إلى مؤازرة الفلسطينيين في كفاحهم. بل نظم كتائب من المقاتلين المغاربة شاركوا ميدانيا في معارك الدفاع عن فلسطين. وتُبين الوثائق المنشورة إلى حد الآن أن الخطابي وقف أيضا إلى جانب الشعب الفيتنامي في مقاومته للاستعمار الفرنسي. وكانت نداءاته للمجندين المغاربة في صفوف الجيش الفرنسي للقتال في الهند الصينية تلقى آذانا صاغية لدى كثير منهم، فكان منهم من يلتحق بصفوف المقاومة الفيتنامية، ومنهم من يفر من الجندية،ومنهم من يلتحق بمعسكرات تدريب كوادر جيش التحرير المغاربي. كان عبد الكريم الخطابي من أشد المدافعين عن قضايا التحرر العالمي. وكان بيته في حدائق القبة "قبلة" لكل المناضلين والسياسيين والزعماء والطلبة والحجاج والعامة من الناس. بل إن الوفود الرسمية التي تزور القاهرة، كان لابد لها أن تمر على بيت الأمير وكأنه ركن أساسي من أركان الزيارة الرسمية. لقد كان عبد الكريم الخطابي شخصية عالمية بكل المقاييس. لكنه في المغرب كالنبي المجهول، لا يذكره التاريخ الرسمي إلا في بعض المناسبات الخشبية. فقد ظل مُغيبا تماما إلى غاية الثمانينات من القرن الماضي حينما تجرأت بعض الجمعيات على ذكر اسمه وتنظيم لقاءات حول تاريخه وتاريخ المقاومة. أما الآن فعلى الرغم من الحصار الرسمي إعلاميا وثقافيا وفنيا وتعليميا، فإن الأجيال الصاعدة سواء في المهجر أو الريف، بل وفي كل أنحاء المغرب، بدأت تنقب وتبحث عن أمجاده وبطولاته، محققة نبوءة الخطابي بأنه سيبقى حيا .. في وجدان الناس. [email protected]