في الخامس والعشرين من شوال سنة 1339ه، قاد خريج جامعة القروين الإسلامية الزعيم المغربي محمد بن عبد الكريم الخظابي معركة قرب قرية أنوال (قبيلة تمسمنان) أنهت عهد الاستعمار الإسباني بالشمال المغربي، والتحمت مع مثيلاتها من ملاحم الجهاد المغربية في مواجهة القوى الاستعمارية فرنسية كانت أو أسبانية مثل: ملحمة الجنوب بقيادة أحمد الهيبة، وفي الأطلس بقيادة موحى وحمو الزياني، وبوعمامة البوشيخي بالشرق. وقد ذاع صيت زعيم مدرسة الجهاد المغربية في أدبيات التحرر العالمية من الصين إلى فيتنام إلى أوروبا وأمريكا الشمالية والجنوبية إلى بلاد إسلامية عديدة مثل الجزائر ومصر والجزيرة العربية، أكدت أن القلوب إذا باشرها الإيمان الصادق ضحت بكل ما تملك في سبيل دينها ووطنها. نشأة وجهاده ولد الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي، زعيم قبيلة بني ورياغل، أكبر قبائل البربر في بلاد الريف، سنة (1299ه = 1881م) في بلدة أغدير (قرب الحسيمة)، لأب يتولى زعامة قبيلته، فحفظ القرآن الكريم صغيرا، ثم أرسله أبوه إلى جامع القرويين بمدينة فاس لدراسة العلوم العربية الدينية، ثم التحق بجامعة سلمنكا بأسبانيا، فحصل منها على درجة الدكتوراه في الحقوق، وبذلك جمع بين الثقافة العربية الإسلامية الأصيلة وبعض النواحي من الثقافة الأوروبية، ثم عُين قاضيا بمدينة مليلة التي كانت خاضعة لإسبانيا، وأثر فيه عندما كان قاضيا مشهد ضابط إسباني يضرب عربيا بالسوط في شوارع مليلة، ويستغيث ولا يغاث، عندها رأى الوجه القبيح للاستعمار، وأدرك أن الكرامة والحرية أثمن من الحياة. وقد اشتهرت عائلته بالعلم ولعبت أدوارا اجتماعية وسياسية خطيرة، كما كان رحمه الله فقيها مجددا، تعلم على أبيه اللغة العربية وأصول الدين والتاريخ والأدب العربي. وأصيب في جهاده بعرج خفيف لازمه طوال حياته، ثم غادر مليلة ولحق بوالده في أغدير، وفي هذه الأثناء توفي والده سنة (1339ه = 1920م) فانتقلت الزعامة إلى الابن، فتولى الأمير الخطابي زعامة قبيلة بني ورياغل، وقيادة الثورة في بلاد الريف، وهو في التاسعة والثلاثين من عمره، وذاق مرارة النفي لمدة عشرين سنة، قضاها في الصلاة وقراءة القرآن الكريم، عانى فيها قلة المال، فآثر أن يعمل بيديه لتأمين معيشته هو وأسرته، فاشترى مزرعة، وجاهد فيها كسبا للعيش. أخلاقه الإسلامية امتازت شخصية عبد الكريم الخطابي بأبعاد إسلامية، مثلت نموذجا إسلاميا فريدا، وذلك بتخلصه من داء الكراهية والحقد والبغضاء وحب الانتقام من أي كان، كما أنه كا يؤمن بأن الفضيلة في الإسلام تقوم على التسامح والبناء الداخلي على أساس الصدق في القول والعمل. يقول الكاتب الفلسطيني، المقيم ببرلين، محمد شاويش في مقال بعنوانالنهضة والمقاومة لدى عبد الكريم الخطابي( العدد الأول من مجلة جسور القبرصية لسنة1424) أن القائد عبد الكريم نفذ المبدأ الذي قام على أساسه المجتمع الإسلامي الأول في المدينة وهو مبدأ المؤاخاة بتجاوزه على قاتل والده، ففي ظرف سبعة شهور استطاع الزعيم محمد بن عبد الكريم: في المجتمع الذي كان مشهورا بالنزاعات الدامية التي لا تنتهي بين أفراده والذي كان الشعور بانعدام الأمن يغزو كل فرد منه، وكان مبدأ الثأر الجاهلي يمزق فيه شبكة المجتمع...صرنا نرى مثلا في خندق واحد قائدين، كان في ما مضى يتحينان الفرص للفتك ببعضهما، اجتمعا في المعركة في خندق واحد أخوين يحمي كل منهما الآخر ويعمل لنجاته. وسبب هذا التحول، يشرح الكاتب، راجع إلى قدرة المقاوم وموهبته الاستراتيجيةعلى تغيير سلوك المجتمع بالاتجاه النهضوي المطلوب، لا عبر الإكراه، بل بالاقتداء بشخصية قوية مؤمنة واثقة بالله ثم بشعبها. وظهر برهان أخلاقه الإسلامية الرفيعة في عفوه عن قاتلي أبيه، فكرس الوحدة الاجتماعية بادئا بنفسه وفق سلوك تربوي ينأى عن النفعية الشخصية. فعاش زعيما حرا، بكل معنى الكلمة، مناضلا معتزا بنفسه غاية الاعتزاز شهما، ذا أنفة وإباء وعزة نفس، ووصف بسالة مقاومته أحد الضباط الفرنسيين الكبار بقوله: لم تستسلم أية قبيلة دون مقاومة؛ بل إن بعضها لم يُلقِ سلاحه حتى استنفد كل وسائل المقاومة، واتسمت كل مرحلة من مراحل تقدمنا بالقتال، وكلما توقفنا أنشأ المراكشيون جبهة جديدة أرغمت قواتنا سنوات طويلة على الوقوف موقف الحذر واليقظة في موقف عسكري مشين. وفي تشجيعه للنشاط الزراعي وكدلالة على حسه البيئي حث أفراد مجتمعه لقوله: الزراعة تغنيكم عن المواد الغذائية التي تستوردونها منهم(أي من المستعمر)، والشجرة المثمرة تغنيكم عن فاكهتهم وزيتهم، والمحافظة على الغابات تعيد إليكم المطر ليسقي الزرع والشجر، كل من يزرع شجرة ويعتني بها يعتبر مقاتلا شجاعا ووطنيا غيورا، وكل من قطع غابة يعتبر خائنا للوطن وعدوا لشعبه وأولاده(مجلة جسور العدد الأول ,1424 ص:97). معركة أنوال: استراتيجية محكمة تذكر المصادر التاريخية أن قوام الجيش الإسباني بقيادة سلفستر في معركة أنوال بلغ 24 ألف جندي استطاع أن يصل بهم إلى جبل وعران قرب أغدير مسقط رأس الأمير، وعندها قام الخطابي بهجوم معاكس في (25 شوال 1339ه = فاتح يوليوز 1921م) استطاع خلاله أن يخرج الأسبان من أنوال، وأن يطاردهم حتى لم يبق لهم سوى مدينة مليلية. وكانت خطة هجومه في أنوال أن يهاجم الريفيون الإسبان في وقت واحد في جميع المواقع؛ بحيث يصعب عليهم إغاثة بعضهم البعض، كما وزع عددا كبيرا من رجاله في أماكن يمكنهم من خلالها اصطياد الجنود الفارين، فأبيد معظم الجيش الأسباني بما فيهم سلفستر، واعترف الأسبان أنهم خسروا في تلك المعركة 15 ألف قتيل و570 أسيرا، واستولى المغاربة على 130 موقعا من المواقع التي احتلها الأسبان، وحوالي 30 ألف بندقية، و129 مدفعَ ميدان، و392 مدفعا رشاشا. ويعزو الإسبان وقوع هذه الهزيمة إلى طبيعة البلاد الصعبة، والفساد الذي كان منتشرا في صفوف جيشهم وإدارتهم، وفي إقامة مراكز عديدة دون الاهتمام بتحصينها تحصينا قويًّا، كما أن تعبيد الطرق التي تربط بين هذه المراكز كان خطأ كبيرًا من الناحية العسكرية، ويعترف التقرير بأنه لم يكن أمام المراكشيين إلا أن يلتقطوا الأسلحة التي تركها الجنود الفارون، وكشف التقرير حالات بيع بعض الضباط لأسلحة الجيش. وبعد الانتصار العظيم الذي حققه الخطابي في أنوال ذاعت شهرته في بلاد الريف، وأدرك الإسبان عجزهم الكامل عن مقاومة الريف الناشئة، وازداد قلق إسبانيا داخليا وخارجيا، فارتفعت القوات الإسبانية في شمال المغرب بعد شهور من هزيمة أنوال إلى 150 ألف مقاتل، وعرضت مدريد على الخطابي الاعتراف باستقلال الريف بشرط أن يكون استقلالا ذاتيا خاضعا للاتفاقات الدولية التي أخضعت المغرب للنظام الاستعماري، فرفض الأمير الاستقلال تحت السيادة الإسبانية. وقوبلت هذه النتيجة بدهشة كبيرة من الدوائر الاستعمارية التي لم تكن مطمئنة لحركة الخطابي، وعلى رأسها فرنسا التي كانت تتوقع أن يتمكن الإسبان يوما ما من القضاء على هذه الحركة. أما الخطابي فكان يحرض على تجنب الاصطدام بالفرنسيين حتى لا يفتح على نفسه جبهتين للقتال في وقت واحد، إلا أن الأوضاع بين الاثنين كانت تنذر بوقوع اشتباكات قريبة، خاصة مع عدم الاعتراف الخطابي بالحماية الفرنسية. وباتحاد الدولتين الاستعماريتين خسر الخطابي حوالي 20 ألف شهيد، وبقي بجانبه حوالي 60 ألف مقاتل، وفكر الرجل أن يخوض بنفسه معارك فدائية؛ دفاعا عن أرضه ودينه، إلا أن رفاقه منعوه ونصحوه بالتفاوض، فقرر أن يحصل لبلاده ونفسه على أفضل الشروط، وألا يكون استسلامه ركوعا أو ذلا. وظل يراقب جهاد المغاربة ضد الاحتلال القرنسي حتى تحقق الاستقلال، وتوفي رحمه الله بمصر ودفن في مقبرة الشهداء بالعباسية في القاهرة، (1382ه = 1963م)، وجزى الله ابن عبد الكريم خير الجزاء على ما قدم لوطنه. شهادات ومواقف بقيت صفحات من تاريخ المقاوم محمد بنعبد الكريم الخطابي منسية ومبعثرة في تصريحات لرجال عايشوه، وفي هذا الصدد نورد بعض الشهادات التي تنير جوانب من حياته رحمه الله بمناسبة الذكرى: حاولوا الايقاع بيني وبين السلطان يوسف والد السلطان - ذات يوم في القاهرة سأل سعيد والده محمد بن عبد الكريم الخطابي:ألا تحب المال والسلطة؟ وكان الجواب قاطعا: لا، ولم يقف عند هذا الحد بل راح يبين الأسباب، وقال موجهاً كلامه لابنه: إذا عرض عليك أحد مبلغاً كبيراً من المال مقابل أن يقطع أحد أصابعك فهل تقبل؟ فما بالك بمن يريد أن ينتزع كرامتك وحريتك وحقك في الحياة؟ إنك تستطيع أن تعيش بلا يد وتحيى حياة كريمة ولكنك لا تستطيع أن تحيى من دون حرية وكرامة.أما بخصوص حب السلطة فجاء جوابه مسنوداً، على أساس ديني؛ إذ استشهد بالآية الكريمة:( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً) وهي آية عندما سمعها الفاروق عمر بن الخطاب قال: أما الفساد فلا نبغيه، وأما العلو ففي النفس منه شيء. ويعقب عبد الكريم الخطابي على مقولة عمر بن الخطاب بقوله: إذا أحب الإنسان العلو دون الفساد فلا بأس. ويحسم الخطابي في حديث لمجلةآخر ساعة موقفه من السلطة بقوله:رفضت أن أكون ملكاً، وطلبت من الذين بايعوني أن يرجعوا في قرارهم، قلت لهم: لقد اتخذتم هذا القرار دون أن أعلم، ودون أن تسألوني رأيي: أنا أرفض، وأصروا على رأيهم، وتشبثت أنا بموقفي. لم أكن أريد هذا العرش، لكن الفرنسيين حاولوا الايقاع بيني وبين السلطان يوسف والد السلطان، أرادوا أن يدخلوا في روعه أنني بتزعمي حرب الريف أريد أن أغتصب عرشه. وكنت على يقين من أن أي خلاف بيني وبين السلطان لن يستفيد منه إلا الأجنبي الغاصب، فأرسلت إليه رسولاً خاصاً يؤكد له أن ثورتنا لا تهدف إلا لطرد هذا الأجنبي من بلادنا، كان الرسول هو نسيبي، واسمه بوجيبار، وبعثت مع الرسول هدية إلى السلطان يوسف هي عبارة عن فرس عربي أصيل وهدايا أخرى كثيرة، وذهب الرسول، لكن الفرنسيين تربصوا له حتى أمسكوا به قبل أن يصل إلى السلطان ثم أعادوه إلى خطوطنا ومعه الفرس والهدايا. من كتاب:عبد الكريم الخطابي، لمؤلفه: محمد أمزيان زعيم الثوار في العالم - يروي الأستاذ بنعبد الله الوكوتي في كتابهذكريات مقاوم الصفحة:,27 حكاية أفاده بها الدكتور عبد الكريم الخطيب حول شهادة موتسي تونغ الصيني لوفد جزائري زاره بالصين في حق الشهيد، وبعدما أثنوا على كفاحه في تحرير الصين، رد عليهم موتسي تونغ:إننا نعتبر أنفسنا تلاميذة لكم، فعنكم تعلمنا حرب العصابات، فزعيم الثوار في العالم هو الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي. غيرة مغاربية إسلامية - وبخصوص حضور بن عبد الكريم الخطابي في الذاكرة الجزائرية، أكد الفقيه البصري رحمه الله بأن الأمير الخطابي كان يحظى بالتقدير لدرجة التقديس من طرف الجزائريين، وذلك، يقول البصري، لأن البطل الخطابي كان مرتبطا في نضاله بروابط تضحيات الأمير عبد القادر الجزائري. وأضاف الفقيه البصري رحمه الله في الذكرى الأربعين لوفاة مقاوم الريف التي نظمتها جماعة العدل والإحسان، بأن من بين الأمور التي طرحت مع المجاهد بن عبد الكريم الخطابي مسألة التخلي عن الجزائر سيما وأن المخطط الاستعماري الفرنسي كان يهدف إلى جعل المنطقة الصحراوية، حيث يوجد البترول، إمارة خاصة. فكان رد الخطابي، يقول البصري، هو التأكيد على أن للأمر خلفية تاريخية، لأن الذي وحد الشعب وحرر الشواطئ هو الاستنجاد بالدولة الإسلامية العثمانية، التجربة التي لم يمر منها المغرب، هذا الاستنجاد الذي قال عنه الأمير الخطابي: إنه وحد الشعب قبل أن يوحد التراب. مؤمن قرآني - ويقول عنه الأستاذ عبد السلام ياسين: كان مومنا قرآنيا على شخصية بصمات تربية القرويين التي درس فيها أربع سنوات. لم تخضد شوكة غيرته على الإسلام رتابة القرويين، ونومة القرويين قبل أن يوقظها علال والفقيه غازي ومحمد المختار السوسي وعبد العزيز بن إدريس ومحمد إبراهيم الكتاني وسائر تلامذة الشيخين: أبي شعيب الدكالي ومحمد بن العربي العلوي رحمهم الله أجمعين. من كتاب حوار الماضي والمستقبل، الفصل الأول إعداد: عبدلاوي خلافة