رغم مرور 47 سنة على وفاة المجاهد الزعيم محمد بنعبد الكريم الخطابي، مازالت شخصية هذا البطل تشغل الناس وتملأ الدنيا وتوحي للمؤرخين بالكثير من التحاليل، لدرجة أن الأساطير التي حيكت حول الحرب الريفية وبطلها، تظل رمزا من رموز التحرير أخذت منها شخصيا ثورة عالمية العبر والدروس، ومازلنا نستلهم منها الحكم والمواعظ. ففي 6 فبراير 1963 توفي البطل محمد بنعبد الكريم الخطابي في القاهرة، وأشرف على جنازته الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، وفي ذلك اعتراف بمكانته وجهاده كأحد رواد حركات التحرير. لقد واجه الرجل دولتين مسلحتين بأحدث العتاد مدعمتين بالتواطؤ الغربي والذي كان يرى في حركة الريف خطرا داهما يهدد توجهاته الاستعمارية.. إلا أن المؤمنين، الصادقين الملتفين حول هذا البطل تمكنوا من تحقيق أعظم الانتصارات التي شدت العالم أجمع، والتي مازالت إلى الآن تعتبر نموذجا لفنون الحرب يستلهم منها كبار القادة خططهم واستراتيجياتهم. اعترف كبار المسؤولين الغربيين من فطاحل الاستعمار بخبرة هذا البطل، وقال أحدهم إنه سبق عالمه بقرن، وقال آخرون إنه شخصية خارجة عن نطاق الترتيب، وأن مكانته ستظل تتعاظم في الكتابات وفي ضمير الشعوب، وقد تعرضت مجلة لاروس الفرنسية في عددها الصادر في ديسمبر 1927 لشخصية هذا الرجل، وقالت إنه لم يسبق لأي ثائر كان «مهيبا بالقدر الذي كان عليه البطل محمد بنعبد الكريم الخطابي فقد كانت له قدرة ومؤهلات للتنظيم والتناور لن يكون لها، لا محالة، مثيل لدى أي واحد من خصومنا المحتملين. وبالإيمان العميق بعدالة القضية انبثق فكر خلاق، ابتكر فنونا عسكرية قلبت الموازين، وجعلت 140 بندقية تغلب جيشا كثيفا قوامه 25 ألفا، بل واندحر هذا الجيش. وقد ركز الزعيم الخطابي في عملية التثقيف الثوري التي قام بها لتعبئة المجاهدين وتوحيد الصفوف على التعاليم الإسلامية، والسيرة النبوية، وبذلك أمكنه التغلب على الفرقة وعلى شحذ العزائم وشحن المجاهدين بالطاقة اللازمة التي حققت الانتصارات. وساهم التكوين العلمي المتنوع للزعيم محمد بن عبد الكريم الخطابي 1880 / 1963 حيث أرسله أبوه إلى جامعة القرويين بمدينة فاس لدراسة العلوم الشرعية واللغوية، وبعد تخرجه في الجامعة، اشتغل بالقضاء الشرعي، وفي الوقت نفسه عمل في تحرير جريدة «تلغراف الريف» وقد ساعد كل ذلك على تكوين شخصيته لمواجهة الاستعمار الإسباني والفرنسي. وفي سن التاسعة والثلاثين حين قاد الزعيم الخطابي الجهاد في منطقة الريف، أهلته التجارب لمواصلة الجهاد، وإخراج الإسبان من البلاد، وفي تلك الأثناء كان الجنرال «سلفستر» قائد مليلية المحتلة، شرع في الزحف نحو منطقة الريف؛ ليحكم السيطرة عليها، وتمكن في بادئ الأمر من الاستيلاء على بعض المناطق إذ جهز أربعة وعشرين ألف جندي بالأسلحة والمدفعية، ولم تصادف هذه القوات في زحفها في بلاد الريف أي مقاومة، واعتقد الجنرال أن الأمر سهل واستمرت القوات الإسبانية في التقدم وتحقيق انتصارات صغيرة إلى أن احتلت مركز أنوال في 7 من رمضان 1339 ه / 15 مايو 1921 م. بعد ذلك بدأ رجال عبد الكريم الخطابي هجومهم وحاصروها، وأصبحت القوات الرئيسية، التي جمعها الإسبان في «أنوال» مهددة بعد أن طوقها رجال الريف، وحين حاولوا الانسحاب اصطدموا بقوات الخطابي في 16 من ذي القعدة 1339 ه / 22 يوليوز 1921 م في معركة حاسمة عرفت بمعركة (أنوال)، وكانت الهزيمة الساحقة للقوات الإسبانية، حيث أيد معظم الجيل المحتل، وأقر الإسبان بأنهم خسروا في تلك المعركة 16 ألف جندي، ووقع في الأسر 570 أسير، غير الغنائم من الأسلحة التي وقعت في أيدي المجاهدين. وفوجئ الفرنسيون خلالها بانتصار الخطابي على الإسبان وكانت فرنسا تخشى من أن يكون نجاح الخطابي في ثورته عاملا مشجعا للثورات في شمال إفريقيا ضدها. وفي أعقاب الهجومات المتكررة بالأسلحة الفتاكة على نساء وأطفال وشيوخ الريف، اضطر محمد بن عبد الكريم الخطابي إلى الاستسلام للقوات الاستعمارية التي عملت على نفيه في سنة 1926 إلى جزيرة لاريننيون. وفي سنة 1947 م قررت السلطات الاستعمارية نقله إلى فرنسا، وخلال عبور السفينة التي كانت تقله قناة السويس تمكن بعض شباب المغرب المقيمين في مصر من زيارته على متن السفينة، ورجوه أن يتقدم باللجوء إلى مصر ليواصل مسيرة الجهاد من أجل تحرير المغرب، فوافق على هذا الرأي شريطة أن توافق الحكومة المصرية على طلبه، وتمت حينها الموافقة على طلبه على الرغم من احتجاج السفير الفرنسي في مصر، وبدأ الخطابي عهدا جديدا من النضال الوطني من أجل تحرير بلاده، وأسس مع أبناء المغرب العربي لجنة أطلقوا عليها «لجنة تحرير المغرب العربي»، تولى هو رئاستها في 25 من محرم 1367 ه / 9 من ديسمبر 1947 م. ظل الزعيم عبد الكريم الخطابي مقيما في القاهرة، يتابع نشاط المجاهدين من أبناء المغرب العربي المقيمين في القاهرة، ويمدهم بنصائحه وإرشاداته، حتى لقي ربه في 1 من رمضان 1382 ه / 6 من فبراير 1963 م والتاريخ يسجل أنه سيظل رمزا من رموز النضال العالمي.