من تاريخ المجاهد الخطابي الذي يجهله أبناؤنا في يوم 12 يوليوز، تحل ذكرى معركة أنوال الخالدة بقيادة أمير المجاهدين في المغرب الإسلامي محمد بن عبد الكريم الخطابي رحمه (وقعت في 12 يوليوز من سنة 1291). ورغم مرور هذه السنوات، مازالت حركة المقاومة الريفية محط اهتمام المؤرخين والباحثين في العالم أجمع، تدل على ذلك الدراسات والبحوث الأكاديمية واللقاءات العلمية، وكذا الأعمال الفنية التي تنجز حولها وحول قائدها. إضافة إلى تأسيس جمعيات ومراكز للبحوث في تراث منطقة الريف ونضالاتها. فلم تعرف أي حركة من حركات التحرر في العالم ما عرفته حرب الريف التحريرية من اهتمام ومتابعة من لدن الدارسين والباحثين. محمد بن عبد الكريم الخطابي: الإنسان والقضية ينحدر أسد الريف من قبيلة بني ورياغل التي كانت تتميز بكثرة عددها وشجاعة أهلها، مقارنة بسائرالقبائل الريفية الأخرى. وحسب ما يقولون هم أنفسهم، فإن بني ورياغل هي: >الطبل الذي يرقص حوله كل الريف<، أو كما قال الأنثروبولوجي الأمريكي دافيد هارت: >ولما كان بنو ورياغل يشكلون القبيلة الأشد بأسا، فقد كانوا يوجهون سياسة الريف<. ومازال الباحثون في حركة المقاومة الريفية منبهرين أمام عبقرية ابن عبد الكريم العسكرية وقوة شخصيته التي صقلتها جبال الريف الوعرة، ومشدودين أمام انتصاراته الباهرة، ليس فقط في معركة أنوال التي نخلد ذكراها بل في معارك أخرى كظهر أُبرّان وإغريبين وغيرها. إن أمير المجاهدين محمد بن عبد الكريم الخطابي نجح في تأسيس مدرسة نموذجية في الجهاد والكفاح، ليس فقط على المستوى العسكري، بل على مستويات أخرى شملت الدين والقضاء والصحافة والفكر والإدارة والديبلوماسية والسياسة... حتى أنه كان محط اهتمام الصحافيين الأجانب الذين كانوا يتكبدون عناء ووعورة الطريق للظفر بلقاء صحفي معه، إنه باختصار كان صاحب مشروع حضاري متميز. اعترفت له أشهر الأكاديمات العسكرية في العالم بأنه رائد حرب العصابات أو ما يصطلح عليه اليوم بالكوماندوز، بحيث أضحت نموذجا يحتدى به من طرف ثورات وحركات التحرر في العالم. ولا أدل على ذلك من الحديث الذي أدلى به الزعيم الصيني ماوتسي تونغ لوفد حركة فتح التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية عام 1791م قائلا لهم: >رفقائي الأعزاء، أتيتم تزورونني لكي أحدثكم عن حرب التحرير الشعبية، في حين أن في تاريخكم العصري يوجد ابن عبد الكريم الخطابي الذي هو من المصادر الرئيسية الذي تعلمت عنها حرب التحرير الشعبية<. معركة أنوال: مدرسة لكل الأجيال إن الانتصار الباهر الذي حققه الخطابي على الإسبان في معركة أنوال ليس أمرا مستحيلا إذا ما علمنا أن حركة التحرر الريفية تمثل امتدادا للحركات الجهادية التي عرفها العالم الإسلامي أيام عزه، منذ معركة حطين إلى معركة وادي المخازن، مرورا بمعركة الزلاقة وغيرها من الأحداث الخالدة. جرت أطوار معركة أنوال في موقع يعرف بأنوال، ومن هنا أخذت اسم معركة أنوال. وكان المجاهدون تحت قيادة أسد الريف بضع مئات منتشرة في كل موقع ولا يتعدى عددهم الإجمالي ثلاثة آلاف، في حين عد الجيش الإسباني المحتل بستين ألف جندي مدجج بأسلحة متطورة وفتاكة. ومع ذلك نجح المجاهدون الريفيون في دحرهم وسحقهم لما كانوا يتمتعون به من ثقة عالية في النفس ومن عدالة قضيتهم، وكذا من خبرة زعيمهم العسكرية. وفقد الإسبان حوالي 20 ألف بندقية وأربعمائة رشاش ومائة وثلاثين مدفع ميدان وذخائر أخرى مادية من آليات ومؤن وغيرها ونحو ألف أسير من مختلف الرتب العسكرية. كما فقد المحتل 15 ألف جندي ما بين قتيل وجريح. وتركت هذه المعركة آثارا سيئة على الإسبان ولم يستسيغوها، بل اعتبروها عارا لصق بشرفهم العسكري، مما حذا بهم إلى التحالف مع فرنسا واستعمال وسائل حربية دنيئة وغير متحضرة للانتقام ورد الاعتبار. وتجرع الإسبان مرارة الهزيمة النكراء إلى أن دخلت فرنسا في الحرب في أبريل ,1925 حيث شكل دخولها منعطفا حاسما في سيرورة الحرب لما كانت تتوفر عليه من إمكانيات عسكرية ضخمة وتجربة حربية طويلة، واستطاعت تجنيد وتعبئة أعداد كبيرة من الجنود أغلبهم جلب من المستعمرات وصل عددهم 200 ألف مجهزين بأحدث الأسلحة وأفتكها. وكان جليا أن الحلف العسكري لدولتين استعماريتين إضافة إلى دعم بعض الدول الأوروبية بات هدفه الأساس هو القضاء على المقاومة الريفية التي استعصت عليهم، بل والتي كادت أن تحرر المغرب كله من الاحتلال. وجاء في مذكرات الجنرال ألفريدو كابانياس (مدريد 1922) ما يلي: >لم تعرف قط أرض المغرب ثورة شعبية تشبه ثورة الريف التي تزعمها ضدنا الزعيم عبد الكريم، حيث كان من المحال القضاء عليها لو لم يتم التفاهم بيننا وبين الفرنسيين وتتمكن الدولتان من تجهيز جيشين لم يكن يقل عدد جنودهما عن أربعمائة ألف جندي، في حين أن عبد الكريم لم يكن يتوفر على أكثر من أربعين ألف مقاتل<. وتحينت إسبانيا فرصة الانتقام خاصة مع التحاق حليفتها فرنسا بها وقادتا معا أشرس حرب وأكثرها قذارة في التاريخ المعاصر. المقاومة في مواجهة حرب الغازات السامة إن لجوء إسبانيا إلى استعمال الغازات السامة، يوضح بجلاء طبيعة الحرب الاستعمارية القذرة التي شنت على أهل الريف كله، حيث استعملت مختلف الوسائل الدنيئة، مثل إحراق منتوجات القبائل وإلقاء القنابل على المقاومين، بل لم تفرق بينهم وبين الشيوخ من الرجال والنساء ولم يسلم منهم حتى الأطفال، كما لجأ الجيش الإسباني إلى تبني خطة الحصار الاقتصادي، خاصة في فترات الجفاف. بالضبط كما يفعل اليهود الصهاينة مع أهل فلسطين وما فعلته أمريكا مع ليبيا والعراق قبل فترة الاحتلال. ولم يكتف الإسبان بكل هذا، بل لجأوا إلى الاستعمال المكثف للغازات السامة التي مازالت آثارها بادية على منطقة الريف إلى يومنا هذا. وقد أكدت هذا الأمر تقارير فرنسية صاغها المقيم العام الفرنسي ليوطي الذي يقول: >... لقد أشرت سابقا إلى الاستعمال المكثف الذي قامت به القيادة الإسبانية للطيران والتدمير الحاصل في المداشر والدواوير بأنجرة (منطقة في شمال المغرب) والناتج عن القنابل الجوية التي كانت في أغلب الأحيان محمولة بالغاز الخانق والغازات المسيلة للدموعولم يكن بالطبع هذا الأمر مجهولا لدى الأمير الخطابي، بل سارع إلى توجيه نداء إلى الرأي العام الإسباني والأوروبي: >أيها الأحرار، في مقدرتكم أن تؤنبوا الحكومة الإسبانية التي استعملت الغاز الخانق، سيما على النساء والصبيان والبهائم. أعجزت إسبانيا عن المقاومة بغير الغاز الخانق؟. إن هذا يمس بكرامتها وكرامة الأممالمتحدة.. لهذا وإنني بصفتي قائدا عاما للجيوش العاملة في هاته الناحية، أحتج بكل قوة أمام الحق وأمام الدول الإسلامية والأوروبية<. كان الرأي العام الإسلامي آنذاك يكتفي بالتعبير عن استنكاره لما كان يقع في جبهة القتال للمقاومين، بحيث كان مغلوبا على أمره، لا سيما وأن البلاد الإسلامية في معظمها كانت ترزح إما تحت نير الاحتلال الأجنبي أو تحت الانحطاط والتخلف. أما الرأي العام الأوروبي، فقد كان لليسار الأوروبي عكس اليمين مواقف اتسمت بنوع من المساندة التي تمثلت في الدعاية لصالح المقاومة، كما كان هناك موقف متميز ظهر في دول أمريكا اللاتينية، حيث كان الأمير الخطابي يقارن ب سيمون بوليفار، أحد رواد حركة التحرير هناك. إن استعمال الغازات السامة ضد المقاومة الريفية أصبح اليوم حقيقة تاريخية تؤكدها وثائق وأرشيفات الدول الاستعمارية بالرغم من أن أغلبها مازال طي الكتمان والتعتيم، إضافة إلى بعض الكتابات المنصفة التي ظهرت مؤخرا تفضح بالأدلة الدامغة لجوء إسبانيا إلى أسلحة محظورة دوليا وتبرز التواطؤ الدولي على ذلك. ويعتبر كتاب: حرب الغازات السامة بالمغرب: عبد الكريم الخطابي في مواجهة السلاح الكيماوي للصحفيين الألمانيين رودبيرت كونز ورولف ديترمولر أول كتاب في هذا الموضوع، رغم الملاحظات التي أبداها حوله المؤرخ البريطاني سبستيان بلفور لكونه اقتصر على الأرشيف العسكري الألماني، إضافة إلى أنه تضمن العديد من المغالطات التاريخية. أما الكتاب الثاني الذي ظهر منذ سنة فهو بعنوان: العناق المميت لصاحبه سبستيان بلفور المؤرخ البريطاني وأستاذ الاقتصاد بمعهد لندن. يؤكد فيه استعمال إسبانيا للغازات السامة ضد المقاومين، وهي المرة الثالثة، حسب رأيه، التي يتم فيها اللجوء إلى هذا النوع من الأسلحة المحظورة بموجب اتفاقيات دولية بعد الحرب العالمية الأولى وحرب بريطانيا على العراق سنة 1919م. وكشف الباحث عن وثائق مهمة في هذا الصدد ممن بينها برقية مؤرخة في 23 غشت 1921م بعثها الجنرال ديما يوبير نغير المفوض الإسباني بمدينة تطوان (شمال المغرب) جاء فيها: >كنت دائما ضد استعمال الغازات السامة ضد هؤلاء الأهالي (يقصد أهل الريف) غير أنه بعدما حدث في معركة أنوال، أصبحت مع استعمالها بكل سعادة.ويشير بلفور إلى أن أحد المواقع عرف سقوط مائة قنبلة في ساعة واحدة. حيث كان وزن القنابل يتراوح ما بين 2 و100 كيلوغرام يصل طولها إلى خمسة أمتار. واعتبرت قنابل غاز (الإيبرت) من أخطر الغازات التي استعملت آنذاك، حيث كانت معدة للانفجار قبل سقوطها حتى تصيب مساحة شاسعة. إضافة إلى استعمال غاز اللوست والموستازا والقنابل الحارقة والغازات المسيلة للدموع. حرب الإبادة التي شنتها إسبانيا بالتحالف مع فرنسا حولت منطقة الريف إلى مقبرة جماعية وانتهت به إلى مآسي إنسانية فظيعة. كما قضت على اقتصاده فجعلته عاقرا، ولعل ما كتبه أحد الصحفيين الفرنسيين يلخص هذه الفظاعة: >إذا كان الأوروبيون يعتبرون كرنيكا التي قصفها الطيران الفرنكاوي (نسبة إلى الجنرال الإسباني فرانكو) حتى الإبادة مثالا لويلات الحرب ووحشيتها، فإن الريف قد كان يوميا مسرحا ب كرنيكاهاته المآسي التي خلفتها الحرب، مازال بعض الأحياء ممن شهدوا ذلك، يحكون بمرارة عن الفظاعات التي ارتكبت أمام صمت مطبق للقانون الدولي آنذاك. اليوم، وقد تأكد للجميع حقيقة ما حدث، تجند عدد من أبناء ضحايا تلك الغازات السامة مع آخرين لفضح تلك الخروقات والعمل على إعادة الاعتبار للمنطقة وأهلها، فتم تأسيس جمعية الدفاع عن ضحايا حرب الغازات السامة. وقد صرح رئيسها لإحدى الصحف المغربية أن للجمعية >أدلة قوية لإدانة إسبانيا وحلفائها في استعمال أسلحة محظورة بمقتضى اتفاقية جنيف لسنة 1925م، إضافة إلى وجود شهادات حية لمواطنين مازالوا على قيد الحياة، عدا الدراسات والأبحاث وحتى صور الطائرات، وهي تلقي بغازاتها فوق مناطق آهلة بالسكان<. وتدعو الجمعية المجتمع الأهلي المغربي إلى فضح هذه الممارسات بالتعاون مع محامين وأطباء ومختصين في القانون الدولي الإنساني للضغط على الحكومة المغربية لمطالبة إسبانيا بتقديم اعتذار رسمي لضحايا الغازات السامة. فبالرغم من تأرجح العلاقات المغربية الإسبانية بين المد والجزر، فإن اعتراف إسبانيا بجرائم تلك الفترة، لن يزيدها إلا احتراما وتقديرا من طرف المغاربة، وسيدفع بالعلاقات بين البلدين إلى الأمام وسيرفع من درجات الثقة المتبادلة. وهذا ما يؤكده المؤرخ سبستيان بلفور في حوار له مع إحدى الأسبوعيات المغربية حينما قال: >أعتقد أن مثل هذه الكتابات والأبحاث بإمكانها أن تطور العلاقات المغربية الإسبانية كما حصل في مناطق أخرى من العالم. يتعين على إسبانيا بالخصوص أن تواجه تاريخها بشجاعة وأن تتقدم باعتذار رسمي للمغرب<. أكيد أن إسبانياوفرنسا لن تستطيعا نسيان ما لقنه لهما أمير المجاهدين محمد بن عبد الكريم الخطابي من دروس بليغة في البطولة والديبلوماسية والأخلاق العالية. كما أن إصرار مسؤولينا على تناسي هذه الملحمة وعدم إعطائها المكانة اللائقة بها وتسابق وزارة الثقافة إلى تنظيم المهرجانات الفلكلورية والغنائية وإحياء المواسم في معظم ربوع البلاد، أضعف روح الانتماء الحضاري للأمة المغربية. فغياب سيرة الخطابي في مناهجنا التربوية والتعليمية ووسائل إعلامنا، وفي إنتاجاتنا الأدبية خير دليل على ذلك. الأمر الذي جعل الإسبان وإلى يومنا هذا القرن 21 يحتلون أراضينا (سبتة ومليلية والجزر الجعفرية وجزيرتا النكور وبادس). على العموم، فإن التجربة الجهادية لحركة الخطابي تزخر بالعديد من الدلالات والعبر يتعين علينا نحن العرب والمسلمين استيعاب واستخلاص دروسها وخاصة في ظل الظروف العصيبة التي يمر منها العالم العربي والإسلامي وعلى رأسه فلسطين والعراق المحتلين. فهل نستوعب الدرس؟ وهل نعي أمنية المجاهد الخطابي الخالدة: (آمل أن تستفيد أمتي من تجربتي). المراجع المعتمدة مذكرات من التراث المغربي، الجزء 5 مجموعة من الأساتذة . الوثائق الوطنية العددان 5 ,6 مارس. العددان 5و6 مارس يونيو 1990 ص .68 الصحيفة الأسبوعية (تحقيق جريدة الباييس الإسبانية حول حرب الغازات السامة). العدد 45 22 82 فبراير .2002 الاتحاد الصباح. العدد 62 ,906 مارس .2002 الاتحاد الأسبوعي. العدد 21 03 يونيو 6 يوليوز .2002 مصطفى زيان باحث في تاريخ المقاومة الريفية