في إطار هذه المبادرة التي أطلقناها لنشر تراث والدنا رحمة الله عليه خصوصا منها الوثائق الخاصة العديدة المنبثة في ثنايا خزانته، والتي نود منها أن نبين جوانب عديدة في مسار حياته كانت غير واضحة، ومنها على الخصوص حياته الوزارية وأعماله التي كان يقوم بها على هامشها. وقد بينا بعضها مثلا في الرحلة الوزيرية، التي نشرناها منذ خمسة عشر يوما الماضية على صفحات هذه الجريدة الغراء. وفي هذا الأسبوع نقدم للقارئ العزيز هذه المحاضرة القيمة التي ألقاها في أحد المحافل، ولا علم لنا الآن عن مكان إلقائها، وإن كنا نجوز أنه ألقاها في معهد محمد الخامس بتارودانت في رمضان بداية الستينات من القرن الماضي على ما نجزم وهي محاضرة نستشف منها غيرته الدينية والوطنية، فقد بين فيها كيف أن انتصار المغاربة في معركتهم ضد الاستعمار تحت قيادة إمام الأمة الملك الفذ محمد الخامس رحمه الله نابع من انتصار المسلمين في معركتهم الأولى لنشر الإسلام تحت قيادة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن علينا أن نوحد القلوب كما نوحد الوطن، وعلينا أن نبقى كآبائنا مسلمين حتى تنتصر العقائد وتفوز المبادئ، وذكرعدة أمور سيلاحظها القارئ عند قراءتها. وفي ختام هذا التقديم الموجز، أوجه شكري إلى كل الذين يشجعوننا على نشر هذه الأعمال، ونقول لهم بأن ما نقوم به ما هو إلا من واجب المسؤولية الملقاة على عاتقنا، فسيحاسبنا الله ثم التاريخ إن لم نقم بما نقوم به، فكما أن للإنسان أبناء من صلبه يحتاجون للرعاية، خصوصا وإن تركوا أيتاما، فإن له أيضا أبناء من فكره يحتاجون هم أيضا للرعاية والعناية، خصوصا إن ذهب عنهم صاحبهم وتركهم أيتاما، لهذا فإننا نعتبر ما تركه والدنا من أبناء فكره محتاجا هو أيضا للرعاية والعناية به وتفريغه وإخراجه للوجود، فاللهم يسر ولا تعسر، وكن لنا على كل حال شاكرا قارئي العزيز. رضى الله عبد الوافي المختار السوسي المكلف بنشر تراث والده انتصار إمامنا بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه خير ما يفتتح به حمدا لله الذي ينصر الضعفاء والمظلومين، ويكلل بفضله عمل المجاهدين المستميتين، والصلاة والسلام على الذي كان رحمة للعالمين، وسراجا ساطعا للمستنيرين، وهاديا للمستهدين، وإماما للمصلين المحقين، الذي كان مبشرا للذين اتبعوا في حياتهم طرق السعادة التي رسمها لهم، واستعملوا عقولهم، وبذلوا جهودهم في ما ينفع الإنسانية جمعاء، وكان نذيرا للضالين الذين يعتسفون عن سواء السبيل، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. إخواني المستمعين: إننا اليوم في شهر عظيم يشارك في ما شرعه فيه كل الأقطار التي تدين بالإسلام، فمن هنا من أقصى المغرب على ضفة هذا البحر إلى جزر الفلبين من أقصى المشرق، يقوم اليوم أزيد من أربعمائة مليون، بعبادة أخلصت لها قلوبهم وانشرحت فيها صدورهم، وهذه وحدة قلبية تخفق لها عواطف المؤمنين، وتتفتح بها آذان المستمعين، ويخضع للمشروع فيه كل أعناق المسلمين،أفلا يجب علينا كمسلمين أن ننتهز هذه الفرصة ليقف كل واحد منا بعض أوقات يوم صيامه، فيفكر في هذه القوة التي هيأها الإسلام، فيوازن بين أمسه ويومه، ويقيس بين أمته وبين غيرها من الأمم، وخصوصا أبناء هذا القطر الذي كان ترابه في الأمس القريب أشلاء موزعة، ثم أصبح بفضل الله موحدا، ينضوي تحت حكومة جلالة ملك صالح قوي الإيمان بالله ميمون النقيبة، رحيم بشعبه، وكان بفضل الله به عظيما، أسعد الله به هذا القطر المجيد، وهذا الشعب الباسل، فتبدل في غمضة عين بسرعة مدهشة من أرض محتلة إلى مملكة مستقلة، ومن شعب مهضوم الحقوق إلى شعب رافع الرأس، مرفوف الراية في قمة يراها الكل. إننا الآن وأمورنا في أيدينا ومستقبلنا في الغد عملنا في اليوم على مفترق الطرق فإما أن نجتهد حتى نستقل في التفكير، ونضع مقاييسنا بأيدينا، وفق أذواقنا الخاصة ومثلنا العليا وتقاليدنا، فتتوحد قلوبنا كما توحد تراب وطننا، ونعمل عمل الكيس الحازم العازم الذي يهيء تصميما شاملا عاما فيحمد عقبى عمله عاجلا وآجلا، وإما نسير في خطوات غير متزنة، فنحاط في ناحية غاية الاحتياط، في حين أننا نعتسف في ناحية أخرى اعتساف العمي الذين لا ينظرون إلى الأمام، فإن تزاوجنا بين المادة والروح في نهضتنا، فإننا نسير متزنين، وإلا فنحن من المتعسفين المتخبطين. إن سكان المغرب كما يقول التاريخ في عهود القرطاجنيين والرومانيين والونداليين والبزنطيين، طالما حاولوا أن يكون لهم مكان بين الدول العظمى، ليأخذوا المكان اللائق لهم تحت الشمس، ولكن توالت عليهم قرون فقرون، ولم يتم لهم ما يحلمون به، حتى إذا أشرقت عليهم صحراء العرب بما أشرقت، فإذا بهم يظهرون بين الأمم كما يظهر العملاق بين الأقزام، أفلا يجب علينا اليوم، ونحن كما انبعثنا من جديد انبعاثا قويا نشيطا أن نزلن حاضرنا بماضينا حتى نقدم على علم إلى حل مشاكل متشابهة وغير متشابهة تعرضنا في ميدان نهضتنا الحاضرة، وغالبها إما من جهلنا العميق بما لا تقوم به حياة من الأمم، من رواسب الاستعمار الذي ما ترك شاذة ولا فاذة إلا نفث فيها سمومه، ونهج لنا فيها مناهج إن صلح له غالبها في بلاده، فليس بصالح لنا في بلادنا هذه، فلئن كنا نحمد العركات التي دهمنا بها المغتصبون حين كانت سبب استيقاظنا، ونحمد محاسن من نظم أبناء الحضارة الغربية وقوتهم المادية وعلومهم وبعض أفكارهم، فإن هذا الذي نحمده ونتلقاه بكلتا اليدين كالحكمة التي هي ضالة المؤمن يلتقطها أنى وجدها، عنهم في ذلك إزاء أخلاق فاسدة وأفكار هدامة. وتهتك ودعارة تخلفت عن العهد الماضي البائد في ما تخلف، فكان في جسم حياتنا كمكروب ينخر العظام ويفصم فقار الظهر وحيث إن شعبنا كله مسلم لا يقول إلا بمثل الإسلام العليا، وأن عنانه لفي يد ملك مسلم مفكر يجتهد أن تسير النهضة التي كان هو باعثها في شعبه بين محاسن الشرق والغرب، وجاعلا مبادئ الإسلام ومميزات الحضارة العصرية بين عينيه، فيأخذ من كل شيء أحسنه، يعلن ذلك بسيرته وبنصيحته وفي خطبه، وفي مسلكه بنفسه وبأهله وبحياته اليومية، وليس يصح في الأذهان شيء، فحين كان له أيده الله وهداه إلى كل خير، وحفظه من كل زلق، هو المثل الأعلى للأمة، وهو وحده المقتدى به اليوم، على كل أفراد الأمة أن يسيروا سيره، وأن يفهموا هذا العهد الدقيق الذي نجتازه فهما عميقا، كما فهمه جلالته حق الفهم، فإن أقل خطإ اليوم ستكون نتيجته غدا من أسوإ العواقب، وإن في بعض الأمم المستقلة قبلنا في الشرق لعبرا حين فرطت في فجر استقلالها في بعض نواح مهمة فأهملتها، حتى إذا سارت ما سارت، فإذا بها تحس من عند نفسها أن مشيتها عرجاء، وأن استقلالها غير تام، فلنفكر في اليوم قبل أن نندم غدا. فلا نغتر ببعض المظاهر البراقة، وننسى نواحي أخرى، لا حياة لنا كشعب مسلم إلا بها، إن أردنا أن نبقى بعد كآبائنا مسلمين حق الإسلام. من هو هذا الإمام الذي أسعدنا الله به فتزحزح عنا ببركة صموده وتضحيته ما تزحزح من أصفاد وأغلال ما كانت لتنفك حلقاتها عنا لولا قوة إيمانه بالله، أو ليس أن هذا الرجل العظيم تشبع بدين جده وأشرب مبادئه التي طلعت على العالم منذ أربعة عشر قرنا، فقلبت أوضاعه كلها، من باطل إلى حق، ومن نفوس منهارة إلى عزائم فولاذية، جاهدت في كل نواحي العالم حتى صارت كلمة الله هي العليا، فمن أراد أن يعلم كيف تفوز العقائد وتنتصر المبادئ، فليقرأ سيرة جده سيد المرسلين أمس. وما يزال اليوم من حفيده إمامنا هذا الذي جعل سيرة جده بين عينيه، وإذا ساءل فرد نفسه كيف يصرع الحق الأعزل الباطل السالم، أو كيف يدمغه، فلن يجد جوابا شافيا إلا في سيرة ابن عبد الله، أو في حياة كل من يقتدي به كزعيم نهضتنا حفظه الله وهداه دائما إلى سواء السبيل. أفلا يحق علينا أن ندرس من سيرة نبينا الكريم ما نخط به خطتنا الجديدة، في حياتنا التي نستقبلها الآن، حتى يكون كل واحد منا أحد دعائم نهضتنا. كما هو جلالة محمد الخامس ، في صموده وفي اتساع فكرته، في الحياة الواقعية التي نستقبلها اليوم، وهي حياة كلها مصاعب وجهود وتضحيات، لا يخوضها إلا من تسلح بالقوانين المادية والروحية. ها نحن أولاء نكون الجيش، وها نحن الآن نأخذ من محاسن الحضارة ومن المادة التي لا بد لنا منها كقوة تحفظ كياننا، ولكن أخوف ما يخاف أن نغفل عن تلك القوة المعنوية التي كان المسلمون الأولون خاضوا بها أحشاء آسيا وإفريقيا حتى أوصلوا إلينا هذه الأمانة التي بين أيدينا وما أوصلها إلينا أجدادنا إلا بعد أن جالوا ما جالوا في أمثال الزلاقة والأرك ووادي المخازن جولات خرجوا منها شامخي الأنوف، شم العرانين، وهل فاز اللمتونيون والموحدون والسعديون في تلك المعامع إلا بجيوش مسلحة بقوى مزدوجة بين المادية والروحية، وبشهامة مومنين مستميتين، تستوي عندهم الحياة والموت. إن الأخلاق الدينية التي حافظت على كيان الإسلام إلى الآن لمقاما عظيما في مجد المغرب الماضي. فإذا كانت أمتنا في العهود الأخيرة قد كبا بها الزمان، ففقدت من محرمها، وزال كثير من سلطانها، وتوزعتها أيدي الاستعمار، فمما لا ريب فيه أن ضعف الخلق والوازع الديني في نفوس أبنائها هو الذي مهد إلى عبوديتها، ولم تكن لتستخذي أمام الغاصبين لو كانت لا تزال تحتفظ بروحانية عمر وعلي وخالد بن الوليد والمقداد بن الأسود وعمرو بن العاص، وعقبة بن نافع والمولى إدريس وابن ياسين الذين كانت منتهى آمالهم أن تسيل نفوسهم على أسلات الضباب أو زجاح الرمال في سبيل إصلاح الإنسانية العامة. وبعد فها نحن أولاء نقول إننا استقللنا، ولكن لا استقلال حقا حتى لا نلبس ولا نفترش ولا نتسلح ولا نزاول الأكل إلا مما صنعناه بأيدينا، فإذ ذاك فقط نكون مستقلين استقلالا يرضاه لنا ديننا الذي نعرف من مبادئه أن كل الصنائع مما يجب علينا تعلمه، ثم لا يتم استقلالنا مع كل هذا إلا إذا نفذنا الآية التي هي صفات المؤمنين المستقلين إذ نقرأ في دستور ديننا الحنيف :(الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر). فمتى نفذنا بنود الاستقلال هذه جمعاء، نجد بيننا وحدة القلوب، كما وجدنا وحدة التراب، فإذ ذاك فقط نستحق أن نكون خير أمة أخرجت للناس، وما ذلك ببعيد إن تهيأنا منذ الآن للعمل، وسرنا خلف إمامنا الفذ الذي لا يوجد له الآن مثيل والحمد لله بين رؤساء الدول، خلد الله أعماله في الصالحات، وأقر عينه بولي عهده المحبوب وبكل آله الكرام، إنه سميع مجيب. في كل نفس من النفوس البشرية أغوار عميقة، للمعرفة الحق، ومنبع للإدراك الصحيح المستقيم، ولكن تلك الأغوار محاطة بغشاوات كثيفة، لا تصل إليها أشعة أنوار المعرفة الحق، والإدراك الصحيح المستقيم، إلا بهداية فطرية توجد في قليل من الناس أو بتنبيه صارخ من دعاة الخير، يمكن بها لكثافة تلك الغشاوات أن ترق أو تنزاح تماما عن تلك الأغوار في النفوس، فمتى انقشعت تلك السحب عن النفوس، وتهيأت للانطباعات تسنى لها أن تكمل إنسانيتها، وتدرك أسرار وجودها، وتسير في الصراط السوي نحو الغاية التي خلقت من أجلها. إن العقل وإن تسلح ما تسلح بعلم المنطق لا ينير وحده طريق الحياة من جميع نواحيها، فترى أعظم الناس عقلا إن أدرك ناحية تخفى عنه نواح شتى، وربما كان هذا العاقل أشقى الناس بعقله، لأن الإنسان وإن بلغ ما بلغ في التعقل لا يمكن أن ينفك عن عواطفه وميوله الخاصة التي نشأ في بيئتها، وعن الغرائز الحيوانية التي خلقت معه، زيادة عن الظروف والأحوال التي تتغير في كل يوم حواليه، ولها في تحويل مجاريه شيء عظيم. إن الإنسان كيفما كان وإن تثقف وجرب واتسعت دائرة عقله لا ينفك عن العاطفة والغريزة. وهما يسوقانه دائما سوقا عنيفا وإن قاوم ما قاوم بعقله إلى حضيض الحيوانية في غالب الأحيان، لا إلى الإنسانية العليا التي هي الحقيقة المنشودة في هذه الحياة، وهل الإنسانية العليا إلا أن يعيش الإنسان سعيدا سعادة يحس بها تنبع من قلبه، رغم كل ما يحيط بالحياة من فقر وضنك وإنكاد وحساد وأعداء وأمراض ومشاجرات وملابسات شتى مريرة، طبعت عليها هذه الحياة التي يعيشها ابن آدم على هذه الأرض. إن الله الرحيم خالق هذا الوجود، ورافع السماوات بغير عمد، والمفضل للبشر بالعقل والتفكير الواسع على كل ما خلقه في هذه البسيطة من الحيوانات، لم يكن ليذر الناس هملا، يتخبطون في الأنكاد بين هذه الحياة من غير أن ينير لهم السبيل الواضح اللاحب، حتى يستتموا النعمة التي أفردهم بها من بين مخلوقاته الحية، فكانت رحمته تهيء فينة بعد فينة من يلهمهم ما ينتفع به الناس أجمعون عن يده، فما المخترعات القديمة والحديثة إلا من بنات هذا الإلهام، وما الديانات كلها إلا من أثر هذه الرحمة الإلهية، ولكننا إن أمعنا النظر نجد أن ما أنعم الله به على أيدي الأنبياء أجل وأسمى وأعلى مما يأتي على أيدي المخترعين، فشتان ما بين مصابيح أديسون الكهربائية التي تضع في الليالي فتنير السبيل للمبصرين، وبين مصابيح القلوب التي تشع في الصدور فتنير سبيل السعادة والبهجة للمؤمنين، فالأنبياء رسل الإنسانية العليا بما انبث في الناس بسببهم من أخلاق وحرية وإخاء ومساواة ونظرات واسعة في معرفة الحياة هذه، وإدراك للحياة الأخرى التي يتصورها كشيء محقق ولا يدركها حق الإدراك، ولا يسعد بها منذ الآن إلا المؤمنون الموقنون، وما يعقلها إلا العالمون. كانت الأنبياء تترى منذ الإنسان الأول ومحور ما يدعون إليه كلهم أجمعون الاعتقاد بوجود الخالق، وأنه وحده الموجود الحق، وأن كل ما سواه لعبيد مربوبون، ( إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا لقد أحصاهم وعدهم عدا، وكلهم آتيه يوم القيامة فردا). ومتى كان الإنسان عبدا لربه وحده، فإنه يكون حرا أمام غيره من المخلوقات، الملوك فمن دونهم، لأنه يومن أن ناصيته ليس في يد أي مخلوق، ثم الاعتقاد بأن هناك حياة أخرى دائمة وراء هذه، يجب على الإنسان أن يجعلها نصب عينيه، وأن يوقن أن ما يراه فيها يكون نتيجة لعمله في هذه الحياة الأولى، وأنه إن أحسن في إنسانيته سينال هناك كل ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، (وأن الآخرة لهي الحياة لو كانوا يعلمون)، فتتابعت أدوار الفلك فتتابع الأنبياء المرسلون، يؤدي كل واحد منهم شريعة قانونية تلائم زمنه وعقلية أهله، حتى إذا بلغ الإنسان مبلغ النضج، وأمكن له أن يتزن تفكيره، ويثبت في مستوى يليق لكل زمان ومكان. جاء محمد بن عبد الله، الرسول العربي المبين، فداه أبي وأمي، بما جاء به من شريعة ثابتة مرنة تصلح لكل زمان ومكان، لا حرج فيها بل هي كلها يسر، فكانت بعثته فاتحة عالم جديد، وبعث تفكير جديد، فلم يكد يبلغ رسالته في صحراء العرب، ويلتحق بالرفيق الأعلى، حتى تمخض عن أيدي أصحابه وأتباعهم في أنحاء المعمورما تمخض مما كانت صحائف أربعة عشر قرنا، من صحائفه الأولى فقط من كتاب الإنسانية الذهبي. كم من عظيم في هذه القرون في الشرق والغرب دوت به أرجاء المعمور، كجنكزخان وتيمورلنك وبطرس وشرلمان وبونابارت ولويس الرابع عشر ووشنطون، وعشرات من أضرابهم من عظماء العروش، وكفلاسفة كثيرين وأساطين كل علم، فهل فيهم من له تأثير محمد بن عبد الله في منتديات البحوث والموازين للمبادئ، فعاش اسمه بين معتقديه ومنتقديه حيا لا يزداد جدة كل مطلع شمس، فبينما معتقدون البالغون أربعمائة مليون يتمنون أن يموتوا دودا عن عقيدة دينه، إذا بالذين ينتقونه ويحاولون أن يمحوا شمسه في رابعة نهارها في جهد جاهد، فيكيدون بكتاباتهم كل ما في مستطاعهم كيدا، وينفقون في محو ديانته من قلوب أبناء أتباعه إنفاقا، حتى إذا استيأس غليوم، عاهل الجرمانيين، أمس مما يحاوله أمثاله من المستعمرين في هذا السبيل، وقف بين خاصته وقد رفع بيده اليمنى ترجمة المصحف الكريم فقال: لا يطمعن طامع أن يضعف دين محمد، مادام هذا الكتاب حيا في الدنيا، وقد أحسن الرد على أمثال هؤلاء المكابرين للحق في الإسلام وفي نبي الإسلام كأرليل حين قال في كتابه بعدما ألم بما يتقوله الكائدون حول رسولنا الأعظم: فعلى من أراد أن يبلغ منزلة ما في علوم الكائنات أن لا يصدق شيئا البتة من أقوال أولئك السفهاء، فإنها نتيجة جيل كفر، وعصر جحود وإلحاد، وهي دليل على خبث القلوب وفساد الضمائر وموت الأرواح في حياة الأبدان، ولعل العالم لم ير قط رأيا أكفر من هذا. من هو محمد بن عبد الله هذا، الذي تكشفت عن ولادته المباركة سنة 570 الميلادي؟ إنه يتيم ما عرف الوجود إلا بعد أن فقد والده، ثم فقد والدته وشيكا، ثم لم يتلق عن أستاذ، ولا نظر في كتاب ولا عاشر علماء، ولا هاجر من صحرائه إلى حضر آخر ذلك العصر بفارس والروم، نشأ ولا مؤدب له إلا ربه فأحسن تأديبه، بين مراعي الغنم التي كان فيها ما شاء الله، ثم بين تجار قريش حين تحمل مسؤولية الأسرة، فكان في ريق شبابه هذا بعناية ربه مصونا من كل ما انغمس فيه قومه من السجود للأصنام ومعاقرة الخمور واتخاذ الإخوان وسوء الأخلاق، حتى اشتهر عند قومه بمحمد الأمين، ما جربوا عليه قط كذبا، ولم يصل الأربعين حتى كان من أخلاقه في المكانة التي قابلته بها ربة مثواه خديجة، يوم جاءها يرجف مما عراه يوم رأى في خلوته بحراء ما رأى، وقد خاف أن يلابسه ما يخاف منه على مستقبل حياته وما محمد إلا بشر يعتريه ما يعتري البشر قالت له: لا ما الله يخزيك أبدا، إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق. هذه حياة سيدنا محمد بن عبد الله في الأربعين الأولى من عمره، لا يعرف من الكتاب ولا من الإيمان إلا ما أدركه بفطرته السليمة، وتلك كلمة صغيرة من حياة محمد بن عبد الله قبل أن يعرف حراء، ألا تعجب مما يسطر في كلمات قليلة في الأربعين الأولى من عمره، ثم يدهم عليك في الثلاثة والعشرين الباقية منه ما لا يكفي في تسطيره ملايين من الكتب. يا غار حراء إن لك في قلب كل من يومن بنبيك العظيم لمنزلة عظيمة، ومقاما لا يعلوه مقام كلما ذكروا بسببك رجالا كالرجال، وبطلا كالأبطال، ومعلما لا كالمعلمين، ومصلحا له تفوق على كل المصلحين، من ذا الذي ينسى من كان يأوي إليك لهفان يلتمس بفطرته الإنسانية الهدى، ضيقا صدره لما يصيب العالم من الفساد والاستبداد والاستعباد والتدجيل والخروج عن الحق، وتنكيب الصدق، فبالله تلك النفس العظيمة التي لم يطب لها أن تعيش والإنسانية بالجهل والظلم مصفدة، وفي اللهو غائصة وفي الشهوات البهيمية منغمسة، وعن سبيل الفضيلة صادفة، وفي هوى النفوس سادرة... فما أعظمها نفسا لم يرقها ما تراه من وأد البنات، والجهر بالمنكرات، والحكم بشرائع الضلالات، دعتها فطرتها أن تنزوي عن مخازي العالم وأن تناجي رب العالم، وتستريح إلى الملإ الأعلى حين لم تجد بين أخلاق الملإ الأدنى على الأرض مستقرا. إن لك يا حراء في عنق كل من يدين بما أنرت به لنبيك الكريم سبيل السعادة الإنسانية جمعاء، لحقوق لا تزال تتزايد على كر الليالي والأيام. خرج سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إلى ميدان الدعوة فصدع بالحق، وأسمع كل ذي أذن، وحرص على أن يهتدي كل من يلاقيه ممن في مكة، ومن يردون إلى مكة من الحجاج، فبادر من كتبت له السعادة، وقد استنار لهم السبيل، وتوقف من اشتبه عليهم السبيل وحاص حيصة حمر الوحش أصحاب العنجهمي، والمترفون فصاروا يقفون في وجه الحق ليصدوا عن سواء السبيل، فلم يمض إلا قليل حتى اكفهر وجه مكة بإبعاد كل أتباع الدين الجديد، ثم مال كل متغطرس إلى أمن آمن من أقاربه بالعذاب والتنكيل، ففتحت صفحة من الصفحات التي يألف أصحاب الطغيان أن يفتحوها كلما آمنوا ضعفهم عن إحقاق الحق وسماع الحجج والبراهين الحق، فكان بلال وأمثال بلال يبطحون في الأيام الحارة في حمارة القيظ على الرمضاء، وعلى صدورهم الصخور، ليرتدوا عن الحق الذي عرفوه حقا، ولكن متى ضعف قط المحقون أمام التعذيب والتنكيل، فكما صبر أبناء قطرنا هذا في الأمس القريب، وهم يطلبون حقوقهم تحت مثل هذا التعذيب حتى انتصروا أخيرا، فكذلك صبر بلال وإخوان بلال حتى انتصر الحق على الباطل فدمغه، فما استقلالنا اليوم إلا من بذور صبر بلال وإخوان بلال، فلولا أن بلالا تحت العذاب لما سمع اليوم فوق صوامعنا الله أكبر الله اكبر. حقا تفنن أبو جهل والوليد بن المغيرة وأبو لهب وصفوان بن أمية والنضر بن الحارث ونظراؤهم في إرهاق المسلمين وإرهاق نبيهم، حتى أدى ذلك إلى عقد جمعية سرية في دار الأرقم بن أبي الأرقم، كانت هي الجمعية السرية الأولى في الإسلام، فلا يتسرب إليها إلا المؤمنون القليلون، ولم يستتموا بعد إلا تسعة وثلاثين في خمس سنين، حتى إذا أراد الله إظهار الحق عيانا رغم الأنوف، تأيد المؤمنون بعمر بن الخطاب، الذي كان تتمة الأربعين، فإذ ذاك خرج المسلمون صفين في المظاهرة الأولى من مظاهرات الإسلام، فتوجهوا إلى معاقد مجالس قريش، فلم يكد الكفار يبصرون هذه المظاهرة حتى علتهم كآبة الذلة، إذ علموا أن كيدهم في اضمحلالهم قد ذهب سدى، ثم فكروا تفكيرا آخر، فمكروا مكرا كبارا، فعرضوا على أبي طالب، الذي يحمي محمدا ابن أخيه من الفتك به حلولا جديدة، كأن يُمَلِّكوا ابن أخيه، وأن يعطوه حتى يكون أغنى من في مكة، وأن لا يبرموا أمرا إلا بمشورته، بشرط أن يكف عما يدعو إليه الناس من دينه الجديد، ثم إذا لم يقبل منهم ذلك فإنهم لفي صدد مقاومة عنيفة لكل بني هاشم لا تبقي ولا تذر، فأرسل أبو طالب إلى ابن أخيه يعرض عليه هذا الحل، ويشير عليه بأن يلاطف قريشا، معتذرا بأنه لا يقدر وحده على مقاومتهم، ثم لم يجب النبي العظيم إلا بما يجيب به كل ذوي النفوس العظيمة الأبية، الذين إذا عزموا لا يقبلون الحلول الوسطى، أجاب بتلك الكلمة العظيمة التي هي كالقنبلة الهيدروجينية: ياعم والله لو وضعوا الشمس عن يميني والقمر عن يساري ما ارتددت عن هذا الأمر حتى يتمه الله أو أهلك دونه، ألقى هذه الكلمة العظيمة في وجه عمه، وقد قام على رجليه. كما ألقاها أيضا حفيده محمد بن يوسف منذ سنوات في موقف كان أشبه المواقف بموقف جده في وجه المغتصبين، فكانت تلك الكلمة الصارمة العازمة هي القول الفصل، وعنوان الصرامة والأنفة والعزيمة، وإنذارا بأن الحق يعلو ولا يعلو عليه. هكذا عاش المسلمون الأولون ثلاث عشرة سنة في مكة يعذبون ويمنعون حتى مما يسد الرمق، ويحاصرون في شعب وحدهم، فصابروا صبر الكرام وهم يجابهون الباطل بالحق الصرام الذي في أيديهم، ثم لا يتسلحون إلا بالصبر، صبر أولي العزم من الرسل، ولم يؤذن لهم بعد بالمدافعة بالقوة، حتى إذا ضاقت بهم مكة، ولم يبق في قوس صبرهم منزع أذن لهم بمغادرة مكة إلى الحبشة أولا ثم إلى المدينةالمنورة ثانيا، فحين رأى المشركون أن آفاقا أخرى مفتوحة لأهل الدين الجديد، ائتمروا في دار ندوتهم ائتمارا عاد عليهم بما يعود به الكيد على أصحابه، فقد أذن للرسول الكريم أن يلتحق بأصحابه المهاجرين، فكان في طريقه ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا، وكيف يخيب من كان الله معه، وهو اللطيف لما يشاء، ومن يتوكل على الله فهو حسبه، ومن لا يتخذ ناصرا إلا الله فأحرى به أن يكون منصورا، ومن يجهل منا ما قاله محمد بن يوسف لبعض الطغاة وقد سأله على أي شيء يعتمد حين طلب الاستقلال سنة ,44 فأجابه: لا أعتمد إلا على الله، فكان ذلك الطاغية يتندر بذلك دائما، ويقول إنني ما نفضت منه يدا إلا يوم سمعت منه أنه لا يعتمد إلا على الله وحده، أو يقول عاقل هذا، ما هذا إلا هراء الأغبياء، ولكن الزمان أتى بمصداق ما قاله إمامنا زاده الله نصرا إلى نصر، وقال رأي من يعتمد على غير الله. فكما أن نبينا ذلك النهار فاز وانتصر بعد قليل في المعركة الأولى من معارك الإسلام، بدر، حيث أحكم السيف المسمط في أولئك المعاندين، فكذلك إمامنا حفيده انتصر انتصارا باهرا بعد قليل في معركته الأخيرة التي حكمت فيها العزائم بالمفاوضات السلمية حكمها المسمط. فها نحن أولاء نشاهد بأبصارنا كيف انتصار إمامنا، فسنرى في الكلمة الآتية إن شاء الله كيف انتصر النبي الكريم يوم بدر انتصارا باهرا، وإن غدا لناظره قريب