إن المسار الذي تتبعناه في نشرنا لهذه الحلقات هو اكتشاف جوانب عطاءات والدنا رحمه الله، وخصوصا منها التي لم يتمكن قراءه من الاطلاع عليها، وقد ارتأينا هذه المرة أن نلقي نظرة على فن من الفنون، كان فيه من الرواد الأوائل الذين خاضوا فيه، ومن السباقين إلى الكشف عن خباياه، وسنحاول في هذه الحلقة تبيان ما كتبه في فن الدراسة السوسيولسانية، ولنا أن نقول البحث العلمي في ميدان الثقافة الوطنية، لهذا فإننا سنقلب صفحات مخطوط كتابه (الألفاظ العربية في الشلحة السوسية)، وهو بحث لغوي تتبع فيه الألفاظ العربية الدخيلة على الشلحة السوسية، وأما برنامج كتابه هذا كما ذكر ذلك في مقدمته فإنه يأتي بمصدر الكلمة الشلحية ويتتبع مشتقاتها، وفي الكلمة المتصرفة، يذكر المصدر والماضي والمضارع والأمر واسم الفاعل وأمثلة المبالغة واسم المفعول، وأحيانا يتتبع ذلك بمثل شلحي مضبوط ومشكل تكون الكلمة المذكورة محوره، ثم يقوم بعد ذلك بشرحه بالعربية، ووضع في آخر مؤلفه هذا ما يشبه قاموسا صغيرا تتبع فيه كل الألفاظ العربية مع ما يقابلها بالشلحة مع الشرح والشكل. وسننشر هنا مقدمة هذا المؤلف النفيس، الذي يظهر فيه جليا كل ما ذكرناه ورأيه الصريح وتعريفه لهذا الفن. وإتماما للفائدة سننشر كذلك هنا لأول مرة وثيقة هامة، وهي عبارة ربما عن محاضرة وجدناها بخط يده في ثنايا خزانته، وهي في نفس هذا الموضوع، وتتحدث عن مدى انتشار العربية وملامستها للغات، وللأسف فإننا لا نتوفر منها لحد الآن إلا على صفحتها الأولى، وسنضيف كذلك تعميما للفائدة إعادة نشر مقالة هامة في نفس هذا الموضوع كانت قد نشرت له بعد وفاته في مجلة (اللسان العربي) التي يصدرها المكتب الدائم لتنسيق التعريب (العدد الثاني رمضان 1384 ه يناير 1965 م)، وتعتبر هذه المقالة تتميما لما يود ذكره في كتابه الذي ألفه في هذا الموضوع. وكنا قد نشرنا في العدد السادس من هذه الحلقات ليوم الجمعة (17 يونيو 2005) درسا قيما لوالدنا تحت عنوان (برنامج ومقدمة دروس تاريخية حول ماضي القطر المغربي) قال في آخره: وقد وصل البحث النزيه إلى أن البربر ساميون من إخوان العرب، يشهد لذلك زيادة على ظواهر تاريخية، الاستواء في العادات وتقارب اللغتين: لغة العرب ولغة البربر، فكلتاهما لغة الضاد، فكما يوجد حرف الضاد في اللغة العربية يوجد في لغة البربر سواء بسواء، وكذلك مخارج الحروف فلا فرق بينهما، وقد قابلنا هذا نحن في اللغتين في هذه الناحية، زيادة على وجود آلاف من الألفاظ العربية في الشلحة، لا يمكن في غالبها إلا أن يحكم بأنها كانت معروفة عند البربر قبل اتصال البربر والعرب بالإسلام... . هذا ما جاء في ذلك الدرس القيم، وهو من الأسباب التي دفعتنا الآن إلى أن نبين ذلك بشيء من التفصيل في مضمار ما كتبه والدنا في هذا الباب، وهدفنا هو لم يكن دراسة ما كتبه والدنا، وإنما نشره كمادة خام وعلى ذوي التخصص في هذا الميدان استخلاص الخطوط العريضة وتبين اتجاه والدنا في بحثه هذا، وكنا نود أن نأتي بنماذج مما كتب داخل مخطوطه هذا (الألفاظ العربية في الشلحة السوسية)، إلا أن احتياطنا وخوفنا من الاقتباس هو الذي دفعنا إلى عدم تبيان طريقته في كتابته لهذا المؤلف. بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه. الحمد لله اختار رسوله من أفضل أرومة، وجعل كتابه الذي أوحاه إليه خير كتاب أنزل للناس، فكانت تلك اللغة التي اختيرت لذلك الكتاب العجيب خير لغة التوت بها الألسن، ولفظت بها الشفاه، ولذلك قدرت أن تعبر من مقاصد الوحي العالي عما عجزت دونه أرقى اللغى اليوم، فإن أحد العلماء المستشرقين المنصفين حاول أن يترجم القرآن إلى الفرنسية وهي ما هي رقيا ورقة تعبير فأعلن أخيرا بعدما أخرج ترجمة علية نفسية خالف في بعضها تراجم آخرين يتسكعون في الجهالات بمقاصد الوحي أحيانا، أن تلك اللغة مع اتساعها وذلاقتها وعلو مجالاتها، لم تهيء له كل ما يتوقف عليه في ترجمة اللغة العربية التي كأنها خلقت للروحيات، قبل أن تخلق للماديات، ولكنه قارب إن لم يكن صادف، وقد بذل جهده بذل الجاهد الذي ملأ باعه طاقته. ثم كان لتلك الترجمة حركة غير عادية مما هو معروف ومنشور في الجرائد الكبرى الغربية، وذلك بعد الحرب الكبرى (1)، تلك اللغة الروحية هي التي بسطت ظلها على العالم، وتمشت تحت رايات أصحابها، فكانت تمازج اللغات بقدر ممازجة دينها القلوب، فاستقلت بغالب ألفاظ الآداب فيها، وببعض أسماء ما استحدث تحت ظلها أو ما نقلته معربا من أمة إلى أمة، كما اختصت بكل أسماء الدينيات والمعارف، فلا تكاد تجد لهذه الأسماء غير الإسم العربي، إن كانت التركية والفارسية والحبشية والهندية والصينية، مثل الشلحة التي درسناها وعرفنا مقدار تأثيرها فيها. قال طاغية من طواغيت الغرب: إن العربي قد أدى مهمته في العالم فليذهب، ومقصوده بذلك أن العربي قد انماع اليوم كما انماعت أمم كانت حينا حملة المعارف، وقادة المدنية، ثم بلغها الهرم، فلم يبق إلا أن تلفظ نفسها الأخير، فيمزعها الدود حتى لا يبقى منها إلا ما يبقى من حكايات التاريخ، ذلك ما يرمي إليه قوله، ويحفز إليه فعله إن قدر، ونحن لسنا بصدد محاجته، إن كان مثل ذلك الرأي القائل يحتاج إلى من يحاجه ليرده، وإنما نرى أن نقول إن هناك إزاءه من يرون أن اللغة العربية هي التي ستبقي وحدها حاملة للمعارف وجذور المدنية في طي الكتابة، لأنها ذات خصيصا بين اللغات، حين لا تتحول عن محورها، ولا تعلو منها طبقة على طبقة، كلغى أمم أخرى تتحور في كل جيل، فتحتاج إلى قاموس جديد، فيرى صاحب هذا الرأي أن ما كتب اليوم باللغة العربية سيقرأ بروح اليوم بعد أمد بعيد، في حين أن غيرها من اللغات سيتبدل فيها كل شيء (2). أما بعد، فقد كنت يوما نحو سنة 1341ه، قرأت لبعض كتاب الجزائر، أظنه الشاعر الزاهري، مقالا في اللغة الشلحية، فيه بعض كلمات عربية شلحية سرد منها ألفاظا، فأعجب به بعض من جلس إلي، فقلت له: إن في الشلحة لألفاظا أحسبها إذ ذاك أكثر من مائة، كلها عربية صحيحة فصيحة، فصرت أسرد عليه بعض ما استحضرته، ثم لما أويت إلى مضجعي صرت أجيل فكري في ذلك، فرأيت من بين تلك الألفاظ ما يظهر لي أنه قديم في الشلحة، عُدْمُلِي فيها من زمن جاهليتها، ومنها ما دخل مع الإسلام بلا ريب، ومنها ما يمكن أن يكون من هذا أو ذاك، ثم في الصباح لاقيت جليسي أمس، فألقيت إليه ما جال فيه فكري، وقلت له: إن في الألفاظ التي يظهر أنها قديمة، لدليلا يمكن أن يستدل به من كانوا يذهبون إلى أن أصل البربر من الشرق، وإنها إحدى الموجات العربية القديمة التي كانت قبل زمن التاريخ، ولا يرد ذلك ما صححه مؤرخون من أن أفريقش لم يدخل المغرب، فيكون البربر بقية جيشه هناك كما قيل به، لأن ما نريده أن تلك الموجة كانت قبل ذلك الوقت بكثير، فقال: إن الألفاظ وحدها ربما لا تستقل بدلالة ما تقول، وهي أوهن دليل للمستدل، فقلت: إنني لا أزعم استقلال ذلك بتلك الدلالة، وإنما يكون كدعامة يدعم غيره، وعلماء ذلك الفن لا شك أنهم يقبلون كل شيء ثم ينصبونه إزاء النقد، فإن صحت دلالته مع غيره فذاك، وإلا فيجيبون بما يصح أن يكون جوابا مقنعا. إن عندنا من الألفاظ ما ربما لم يكن له مرادف في الشلحة، ولا يمكن أن يبقى مسماها لا اسم مثل: 1 اللسان 2 اليافوخ (3) للرأس 3 الأديم للوجه 4 الدم 5 الموت 6 الحياة 7 الماء 8 العُمُر والمنخر 9 النار فهذه وأمثالها مما نراه قديما من تلك الألفاظ وليس لها مرادف فيما نعلمه من اللهجة الجزولية التي درسناها، أفلا يسبق إلى الذهن ما ذكرناه؟ ثم إن هنالك أيضا ألفاظا في الشلحة لم نكن نعرفها رائجة في الذي يروج من كلام العرب المشهور في الكتابة، مما يكتبه الناثرون والناظمون من قدماء العرب حين تحضروا، كما لا نعرفها أيضا في الكلام الدارج من القبائل العربية، التي خالطناها وعرفنا ما تتكلم به، ولم نكن نحسبها مما يمت إلى العربية، حتى صرنا نقف عليها في زوايا القواميس، أو أثناء الكلام التي ليس بمشهور الاستعمال، مثل: 1 الكرزيم للفأس. 2 الفدَع لنوع من الكسر. 3 الضنى 4 الحميا (محيا) 5 الكرناف (أقرنيف) في النخل 6 الخالق السقاء 7 الاحتباء بالثوب (إحبا) 8 ملقه ضربه بعصا (أمريق: الضرب بالراحة) 9 الصقر القيادة على الحرم (إِزْقّرْ إِتْمْغَرِينْ) 10 تزلَّع تشقق وتغرق (إِزْلّعْتْ) إن ألقاه فبعض هذه الكلمات مشهورة في الكتابة، لكنها في العربي الدارج غير رائجة عندنا في المغرب، وبعضها لم تعد القواميس التي جمعت كل ما تستعمله العرب من قديم، مع أنها كما ترى كلمات عادية في الشلحة، ولها نظائر غير قليلة، وهي كلمات تمت إلى ما في القواميس العربية بالمعنى نفسه حقيقة أو مجازا أو اشتقاقا صغيرا أو كبيرا، كما نألفه في تصريف اللغة العربية، أو ليس أن مثل هذه الألفاظ أيضا مما يلفت أنظار الباحثين في أصل البربر؟ وكذلك يوجد حرف الضاد ينطق به بفصاحة تامة كالعربي في كلمات شلحية قحة، كما وجدنا مخارج الحروف كلها في الشلحة مثلها في العربية، وإن لم يكن في الشلحة حروف كالثاء المثلثة والذال المعجمة والضاء المشالة، أفلا يحمل هذا كله على نتيجة تكاد تلمس؟ فلو كان لي من ذلك الفن باع، أو كنت ألممت باللغات التي يحتاج إليها من يجلس إلى منصة إصدار مثل هذا الحكم، لقلت ما ظهر لي، ولكن ليس لي من ذلك إلا أن أعرض ما وقفت عليه من هذه الالفاظ، ثم أدعها أمام علماء الفن، يزيفون أو يصححون، وهل لي أن أعدو ذلك، وأنا الذي أقرأ في كتابي (ولا تقف ما ليس لك به علم). وبعد: فهذا قاموس صغير جعلته للكلمات العربية التي تروج في لهجتنا في هذه الجهة، وكل ما أقوله مستعمل عندهم أو عند طائفة إن نسبت ذلك لطائفة، وقد اعتبرت كل طبقات الناس إلا العلماء العربيين وحدهم، لأن كلامهم مستمد مما جعلوا درسه هجيراهم، وقد يتداولون الألفاظ وهي عادية عندهم، لكنها عند غيرهم غفل غير معلومة. إنني أستمد من العامة ومن أشباه العامة كالمدررين فأذكر ما هو مصطلحهم، والألفاظ التي يديرونها، لأنهم وإن كانوا من حملة الكتاب، فقد ضرب بينهم وبين فهم معناه بحجاب مستور، والعلة التي تركنا من أجلها الفاهمين للعربية، منتفية منهم. إنني أبني على ما يبني عليه مثل ابن جني في درسه لمعاني اللغة العربية. فألاحظ الاشتقاقين، والأخد والقلب والنحت، و إطراد حذف حروف الحلق، وتبديل بعض الحروف المتقاربة بعضها ببعض، بل ربما يحملني المعنى الواضح على الحكم باستبدال بعض الحروف مما هو بعيد عن مخرجه، إن توافق غيره من الحروف، وكل هذه الملاحظات معتادة عند علماء الاشتقاق، ولا تعزب إلا عمن يجهل ما هناك، كما أنني أيضا ألاحظ المجاز بأنواعه، وهو من مبانى العربية، وفي المرسل منه متسع لمن يسلك هذا المسلك. إنني سأتتبع إن شاء الله حروف المعجم، بجعل الحرف الأول أساسا بالأبواب، ثم الثالث فصولا، وفي أثنائه فصول الثاني من غير أن نعتني بترتيب العين من الكلمات، والاعتماد على مبدإ الكلمة هو الطريقة التي وقع عليها الاستحسان اليوم، بعدما استبعدت الطريقة الأخرى. إن الشلحة لترفع لأختها العربية، أو لأمها إن صحت تلك الافتراضات شكرها الجزيل على ما أسدته لها منذ وطئ عقبة بن نافع ومن قبله أمكنة قومها، وما لاتزال تسديه ما دام بين أهلها من يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله. إن أثار آل حنبعل على توطد قدمهم، وممازجتهم للشلحيين لا تعد شيئا مذكورا إن قيست بآثار الموجة العربية الإسلامية، لأن في طيات الإسلام ودينه، ما ليس في طيات دين تلك الموجة العربية الأولى التي ماج بها القرطاجنيون، وبينها ما بين تفكير من يعبد بعلا الذي هو الشمس وكانت معبودة القرطاجنيين وتفكير من كان موحدا قد حرره دين التوحيد من أن يخضع للشمس أو للقمر، أو ليسجد لهما، (لا تسجدوا للشمس أو للقمر، واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون). ثم إنني سأجتهد في إحصاء تلك الكلمات وتتبع مشتقاتها، إن كانت المادة متصرفة في الشلحة، وإلا ذكرت فقط ما يقال منها بأسلوبه، كما أجتهد أن أبين كيف تمت الشلحية إلى العربية، إن لم تكونا متحدتين من كل وجه، وأنا وراء ذلك ربما آتي بكلام شلحي ليرى القارئ كيف تستعمل الكلمة. فالله أطلب أن يكون هذا العمل عملا مجديا نافعا معليا شأن العربية، ومبينا قدر تأثيرها في لغة قوم اعتنقوا دين العرب بقلوب صافية، لا تذبذب فيها منذ ظهر لهم أنه هو الحق الصُّرام. ثم إنني في الكلمات المتصرفة أذكر المصدر والماضي والمضارع والأمر، و اسم الفاعل، وأمثلة المبالغة، واسم المفعول، فأشير إزاء ما أستعمل منها هكذا: (المصدر.....................در) (الماضي.....................ضي) ( المضارع..................رع) ( الأمر......................مر) (اسم الفاعل...............عل) (أمثلة المبالغة.............لغة) (اسم المفعول..............عول) (الاسم......................سم) ولا أتتبع ما سوى ذلك كالمبني للمجهول، وكتصريف الضمائر معها، لأننا لسنا في صدد تبيين الشلحة و كيف تستعمل ألفاظها، و إنما المقصود تتبع ما نحن بصدده، وإذ كنا نحسب كل كلمة من كلمات الاشتقاق صرنا نتمشى على هذه الوثيرة، ولا نتعرض لغير تلك التصاريف، بل نقتصر عليها إن استعملت كلها أو بعضها، إن لم يستعمل منها إلا البعض، و إن لم يكن إلا اسم فقط نقتصر عليه، أو أحد ما ذكرناه من طرق الاشتقاق نقتصر عليه، ونحرص على تفسير كل ما نذكر بالعربية بعد أن نذكر بالشلحة كما يتلفظ به مضبوطا بالشكل، وسنذكر أولا المعنى العربي ثم نتبعه بالشلحي، والله يسددنا ويقوينا، ويجمع فكرنا حتى نوفي المراد. محمد المختار السويسي لطف الله به الهوامش: 1 وعند السيد أحمد التيجاني الجزائري الموظف في دار المخزن بالرباط الخبر اليقين من تلك القضية يحكيها بكل حرارة. 2 كان ذلك منشورا في بعض المجلات المصرية عن بعض الجرمانيين. 3 يقال للرأس أيضا أقْلاَّلْ وأكرِيرْ، ولكنهما ليس بمطلقين في كل الأحيان ، وإنما يقال هذان عند مخاصمة أو عتاب. تأثير العربية في اللهجة الشلحية مقالة نشرت في مجلة (اللسان العربي) التي يصدرها المكتب الدائم لتنسيق التعريب / العدد الثاني (رمضان 1384 يناير 1965) يشرف هذه المجلة أن تنشر بين دفاتها هذه النواة القيمة لبحث طويل كان فقيدنا تغمده الله برحمته قد اعتزم تحريره وقد طالما ناجانا بأسراره في خلواتنا الرقيقة وأمسياتنا الطافحة بسلسبيل علمه الفياض وعسى أن نتمكن من نشر ما استكمله رحمه الله من هذه الأبحاث الشيقة متى توفرت الإمكانيات: إن أول ما يبده الباحث في الشلحة عندما يقابلها بالعربية أشياء منها: 1 أنه يجد مخارج الحروف متساوية في اللغتين، حتى حرف الضاد، فإنه ينطق به عند الشلحيين كما ينطق به عند العرب سواء سواء. فإنهم يقولون: أَضَاضْ للأصبع، ويقولون أبضت من بضعه أو قطعه، ولا يفوت الشلحة من حروف العربية الا المعجمات منها، كالثاء والضاء والذال، وهي نفسها تهجر في اللغة العربية الدارجة الآن. 2 إذا أردنا أن نعرف مقدار ما في الشلحة من عربية فلنتتبع المصطلحات المتعلقة بالمنزل واللباس والمركوب وأحوال الإنسان، وما إليها من ملابسات شخصية، فإننا سنلمس هذا الثأتير القوي، ففي المنزل مثلا نلاحظ توافر الألفاظ منها الموضع والبيت والباب والعتبة والشرجب والقفل والمقصورة والحش والأروى والهرى والصهريج والساقية والجابية والحانوت والقوس والكرة والدكان والقنديل والفتيلة، وكذلك المجمر والقدر والملعقة والزلافة (أي السلطانية) والصاع والكأس والغراف (آنية للشرب) والسطل والبراد والمرجل والمائدة والموسى والمغسل والفوطة والجراب والإشفى والزيف (المنديل) والكسوة والقشيب والدراعة والملحفة والإزار والفراش والزربية والسراويل والإبزيم والمضمة والصدرة والمخدة والجبة والخيط والحرير والقطين والسدى. كما نجد حول (المركوب): الحلس والقتيب والحمدل والركاب والمهماز والجوالق والشكال واللجام والسمط. أما تطورات الشخص في أحواله، فإن المفردات الملحقة بها تتخلص في بد وذرى والحزن والفرح والقلق والجرى والذهاب والمقل (النظر بالمقلة) والاحتباء بالثوب والحنان والهدوء والهدنة والصلح. فهذه كلها وكذلك غيرها تستعمل على نسق استعمالها العربي في أصل المعنى ولأسماء الذات طرف من هذا. فاليا فوخ والقلة والمقلة والصماخ واللسان والمنخر والشعر والقلب والرئة والترب والرجل والبطن والعرق والخزر يقصد بها الشلحي ما يقصده العربي. ثم إذا ملنا إلى الأشجار وما إليها من النبات نجد عندهم: الشجر والزيتون والإدام والكمون والجزر واللوبيا والحمص والبلح والباكور والكراويا والقصيل والإبزار والزبيب. وهكذا نجد في كل ناحية من مناحي حياة الشلحيين ألفاظا عربية كثيرة التداول في كلامهم، منها ما هو جامد لا يدخلها التصريف ومنها ما يدخلها التصريف فيأتون منه بالماضي والمضارع والأمر والوصف والمصدر. وليس بعجيب أن نجد عند الشلحيين الذين يغادون العرب ويماسونهم ويمازجونهم أزيد من ألف سنة ألفاظا مستعملة في لغة العرب الرسمية والدينية تنتقل إليهم بأقل مخالطة. وإنما العجيب أن نجد ألفاظا غير قليلة عند الشلحيين، لا تروج غالبا في لغة هؤلاء العرب المخالطين للشلحيين. لكننا نجد عند الشلحيين مثل: السرى... بمعنى الجدول، والأوق(1)... و الثرب شحم الكرش، والفدع التواء المفصل، والسمط الخيط المعلق في آخر الرحل، والقلزم والفأس والخلف زق الإدام، وأفت الإنسان عن وجهته: صرفه عنها، والبكت: الضرب بالعصا وذرى بمعنى سقط، وآل إذا بكى. فإنها وكلمات كثيرة قد تعد بالمآت لا يكاد يعرف أن لها أصلا في العربية الآن إلا من خالط قواميس اللغة العربية وإلا، فقد يسمع سامع إطلاق الشلحيين لفظة الزبل على الشعرة، فلا يجول في ذهنه أن أصل الكلمة الأنسب بالسين وهو شعر الركبتين، ثم قلبت السين زاء، وزيد فيها الام فجاة كلمة ازبل، بل الاوضح أنها مأخودة من السبلة التي بمعنى الشعر مطلقا، وقلبت السين زايا، وكذلك يسمع لفظة الردن بمعنى الولدان جمعا فقلما يهتدى إلى أصل الكلمة. وكذلك يسمع إسوا بمعنى شرب الماء وهي كلمة تتصرف عندهم غالبا على حرف السين فقط، ماضيا ومضارعا وأمرا ومصدرا فلا يكاد يعرف أن أصل الكلمة من احتسى الماء أي شربه. وكذلك يسمع (كا) (الكاف المفخمة) فلان العالم، أي كان فلانا عالما، ولا يحسب أن الكلمة هي المفخمة كان المعروفة نفسها في العربية، وإنما قلبت الكاف كافا (مفخمة) وهي لهجة عربية صحيحة، ثم تحذف النون في الكلمة أحيانا كما يقع غالبا في الكلمات التي تلوكها السنة لغة أخرى، مثلما نسمعه الآن عن لفظتي ابن رشد والفارابي وأمثالهما عند الغربيين. وهذا التأثير يقوي في الكلمات الدينية التي هي سيل طافح، فقد التهمت الشلحة كل الألفاظ التي تؤدي المعاني المتعددة في الصلاة والزكاة والصوم والحج، فشلحت كلها، فأنت مثلا تسمع تِمْزْكِيدَ أو تَزَلِّتْ وتَلْفْطْرْتْ فتعلم أن أصلها المسجد والصلاة والفطرة التي يقصدون بها صاع زكاة الفطر. وهذا الباب الديني كثير جدا وغالبه معرف بالألف واللام حتى صحت القاعدة التي تقول: إن كل لفظة جامدة في الشلحة بدأت بالألف واللام فإنها عربية الأصل، وربما شلحو جملا عربية تامة، كقولهم ما تريد مازكانتك أرياتا، ومما اتفقت فيه اللغتان كاف الخطاب فإنه يستعمل في الشلحة استعماله في العربية، وكذلك ما الاستفهامية. وهناك غيرهما مما لا مجال لذكره في هذا المقال الوجيز، ونريد أن نعلن الآن أنه قلما تكون جملة أو جملتان متصلتان من الشلحة إلا وتجد فيهما أثرا من العربية. فلننشد هذا البيت الشلحي: إمرب أوررحم أه أل متتنين افلتد بجر أمد أرت اتن ويض ففي هذا البيت أربع كلمات عربية: رب، رحم، افل، ويض. ولننشد بيتا آخر: أوشن زلن اوراك ايكى ايمي غوتا غاط او لو كان ايلي بلابويد نغسار اورى الشيات وهناك بيت آخر: وانا مود لا يبد أوزمزأرسول ايت مشى وير او لو كان ايكي اللي الزانس أتنسول امين وهنا يحق لنا ان نتساءل عن العوامل التي انتشرت بها العربية ذلك الانتشار في شلحة السوسيين، مع أننا نعرف أن السوسيين قلما يخالطون العرب باستمرار لانزوائهم في صعقهم المنعزل. وقد يستوقف ذلك أنظار الباحثين ما لم يحللوا فيه ذلك تحليلا يعبد الطريق للنتائج الصحيحة وقد حاولت ذلك وقسمت الألفاظ التي جمعتها إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: ما جاء عن طريق الدين من كل ما يتعلق بالشرع، وما جاء عن طريق المدنية العربية من أسماء أدوات المنزل واللباس وآلات الأعمال التي نزاولها، ومن أسماء الأشجار والعلوم التي انتشرت بانتشار تلك المدنية، فهذا القسم تسرب من مؤلفات العلوم ومدارس الدين والمخالطة في الأسواق والمقايضة في المتاجر فهناك مؤلفات كثيرة ترجمت إلى الشلحة، فشلحة كلمات كثيرة من العربية وتكثر هذه المؤلفات في الفقه والمواعظ والحساب والفرائض والتوقيت، فالمترجمات في هذه الفنون متعددة. وكذلك لا ننسى المدارس العربية المنبثة في قبائل سوس التي تصل أزيد من ستين قبيلة وهي مدارس تنيف على المائتين. أولا ينتظر من كل هذه الجهود العربية أن تترك أثرها العميق في ألسنة الشلحيين؟ أما القسم الثاني: فهو ما أراه قديما عند الشلحيين مما سبق الفتح الإسلامي. ويظهر لي أنه متأصل في اللغة الشلحية، لأنني لا أعرف ما يقوم مقام تلك الألفاظ عندهم مع ملاحظة أنه لا بد من تلك الألفاظ لأية أمة، ولو كانت لاتزال من الهمجية الأولى في الدركات. وذلك كالموت والحياة والدم والريح والأب والأم والصوت والبر والبحر والقرب والبعد، وهي ألفاظ تصل عندي الآن إلى مائة كلمة ولا أعلم لها مرادفا شلحيا يمكن أن نقول إنه هو الأصل الأصيل، ويكون الآخر من الدخيل. وهذه الألفاظ وما على غرارها يتفق على التلفظ بها في معناها كل ما عرفناه من أصحاب اللهجات البربرية المتفرقة حوالي الأطلس زيادة على ما في سوس. وكون أمثال هذه الألفاظ أقدم من الفتح الإسلامي هو الراجح عندي، وأكاد أجزم به، ثم لا أدري أهي ألفاظ غمرت مرادفاتها من الشلحية منذ تسربت من العربية القديمة على عهد الفتح الأول للفينيقيين الذين نعرف من هم بالنسبة لأبناء الجزيرة العربية وهم من أبنائها الصميمين؟ أم هي ألفاظ قديمة في اللغة الشلحية؟ فتكون حجة للمؤرخين الذين يؤكدون أن البربر موجة من موجات الشرق في عصور ما قبل التاريخ. وأما القسم الثالث: فهي ألفاظ تتردد ما بين هذين القسمين ولا يترجح فيها جانب على آخر كالتلعة والاحتباء والاحتساء والأفول بمعنى الغروب، والموافاة إليه بمعنى الوصول إليه، ويستعملونه بمعنى وجده، إلى غيرها من ألفاظ كثيرة تأتي على غرارها ليس عليها طابع محقق من المدنية العربية ولا من الدين الإسلامي، كما أنه ليس هناك أيضا ما يرجح أنها قديمة. محمد المختار السوسي الهامش: (1) الأوق في الفصحى الثقل والشؤم