سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
محور من محاور رواية غير منشورة للمختار السوسي والمعنونة ب" أحاديث سيدي حمُّو الشَّلحي في الأخلاق والعادات السوسية"..ما السبيل لسيادة الإسلام في هذا الزمان؟
ها نحن أولاء لا زلنا نواصل نشر هذه الحلقات التي خصصناها لكتابات والدنا رحمه الله والتي اعتزمنا فيها تبيين جوانب كانت غير معلومة لقرائه، وارتأينا هذه المرة أن نختار الجانب الروائي، هذا الجانب الذي ألف فيه أربع روايات، اثنتان منهما كانتا معلومتان، وهما روايته (رسالة الشباب)، التي كتبها في منفاه بإلغ وقد ضاعت منه على حد تعبيره، ورواية (بين الجمود والميع)، والتي نشرها في مجلة دعوة الحق سنتي 1957 م و1958 م. وهي رواية في أفكار إسلامية، ومجلة دعوة الحق هي من قامت بنشرها تحت اسم (بين الجمود والجحود) على غرار مقالة في العنوان نفسه نشرت قبلها. والرواية الثالثة هي (نهضة جزولة العلمية والدينية اليوم أو مدارس سوس والعلماء الذين درسوا فيها)، وهي لم تكن معلومة من قبل، وجدناها في آخر مخطوط الجزء الثاني من كتابه الإلغيات راجع ما كتبناه عن هذه الروايات في الطبعة الثانية من دليل مؤلفات ومخطوطات العلامة رضى الله محمد المختار السوسي الذي نشرناه أخيرا . أما الرواية الرابعة، التي نحن بصدد ذكرها هنا، فهي (أحاديث سيدي حمو الشلحي في الأخلاق والعادات السوسية)، ونلخص هنا ما كنا قد كتبناه عنها في الطبعة الثانية من الدليل المذكور: ...وجدنا هذا المؤلف النفيس حول العادات والأخلاق والهيأة الاجتماعية في سوس، وهو في شكل رواية خيالية تجري محاورتها بين (قلت وقال) أي بين فقيه شاب وشيخ مسن ذي السبعين سنة، معتكف في خلوة بجبل (أضاض ميدني) الواقع بسوس، فبعد أن تم التلاقي بينهما، وتعريف كل واحد بنفسه، عرف الشاب بأنه فلان ابن فلان... ثم عرف سيدي حمُّو بنفسه، وذكر بأنه لازم كثيرا سيدي محمد بن العربي الأدوزي، وذكر أسماء ممن أخذ عنهم من العلماء، وبعد إجراء محاورات عديدة بينهما في مواضيع شتى، منها محاورتهما عن كبار الصوفية والمشايخ، وكذا عن الإسلام اليوم وهل مازال عما كان عليه؟ عمد الفقيه الشاب إلى إقناع الشيخ المسن سيدي حمو بمخالطة الناس والتصدر للعمل الصالح... واتفقا على جولة يقومان بها لسوس لمداخلة الطبقات المختلفة فيه... وتواعدا على أن يبين سيدي حمو للفقيه كل ما يعرفه عن عوائد القوم... وأما المحاور التي ارتكزت عليها هذه الجولة فهي اللباس وتبيان الجديد منه والقديم، وأن الألبسة الحديثة لم تتسع إلا في أيام الحاحيين منذ 1315 ه، ثم محور عن الصحة والأتاي... ثم محور أغاني الرعاة مع تدوين بعض ما جرى بين راعيتين من أبيات شعرية بالشلحة السوسية مع ترجمتها بالعربية، ثم بعد أن وصلا إلى قرية خالية... تحاورا حول حال المساجد في سوس مع تأسفهما لخلوها بعد أن كانت عامرة... إلخ. هذا هو مسار هذه الرواية باختصار، وسنقتبس لقرائنا الأعزاء ما كتب في شطرها الأول عن محور هل الإسلام اليوم لا يزال على ما كان عليه في أيام النبي صلى الله عليه وسلم؟ والذي يعتبر بين من المحاور المهمة التي ارتكزت عليها الرواية. وختام هذه الكلمة الموجزة أوجه شكري لكل المتصلين بنا إما لتشجيعنا على مبادرتنا وإما لإبداء ملاحظاتهم، كاتصال ابن عمنا الأستاذ الفقيه الجليل سيدي عبد السلام لسان الدين، الذي نبهنا على أن المحاضرة التي نشرناها في الحلقة الماضية لم يكن والدنا قد ألقاها في معهد محمد الخامس بتارودانت، كما كنا بيناه آنذاك، وهناك أيضا من نبهنا إلى وجود أخطاء مطبعية، وخصوصا في محاضرة الأسبوع الماضي، ونقول لهم إن هذا خارج عن إرادتنا، وسنحاول تفادي ذلك بإذن الله، فاللهم افتح البصيرة ونور السريرة. رضى الله عبد الوافي المختار السوسي المكلف بنشر تراث والده ما السبيل لسيادة الإسلام في هذا الزمان؟ النص الذي ننشره اليوم له قيمة خاصة واستثنائية، تتجاوز أن تكون مرتبطة فقط بكونه يكشف عن رواية من روايتين غير معروفتين للشيخ العلامة المختار السوسي رحمه الله، حيث يقدم مؤشرا عن نوعية الهموم والانشغالات التي أخذت تهمين على علماء المغرب بعد نيل الاستقلال، متمثلة في هم استعادة مكانة الإسلام موجها للحياة العامة، أو ما ورد في ثنايا النص ب أو ترى أنه يمكن أن تسترجع الأمة حياتها حتى تكون كما كانت أيام عزها؟، وربط ذلك بمشروع أكبر تكون فيه العلاقة بين إحياء الإسلام بأخلاقهوإحياء الإنسانية بأخلاقها علاقة وثيقة. الجواب كما هو واضح في النص يتمثل في القرآن، لكن في غياب رجال يعملون لذلك لن يتحقق المقصود، فهذا الزمان لا يمكن أن يسود فيه إلا الإسلام إن كان له رجال، وهذا هو جوهر هذا الرواية التي جاءت في صيغة محاورة بين عالم وصوفي منعزل، بهدف إخراجه من أسر العزلة للخروج لإصلاح المجتمع، والتصدر للعمل الصالح العام. قد يفاجئ ذلك الكثيرين، لكن التأمل في هذا النص وفي الفقرات الأخرى منه، سيجد إرهاصات المخاض الذي انبثق منه الحركة الإسلامية الحديثة بالمغرب وما سبقها من تأسيس لجمعيات العلماء والوعظ في العديد من المدن من المغربية، وهو ما يعطي للنص هذه القيمة الخاصة التي يمكن تسميتها بالحلقة المفقودة في انبعاث دورة جديدة في الإصلاح الإسلامي بالمغرب في العقود التي تلت عقد الحصول على الاستقلال ومدى علاقتها بعقود الجهاد ضد الاستعمار، وهو مجال لم يبحث وعوضا عنه سادت تصورات تحدثت عن القطيعة وعن خصوصية ظهور الحركة الإسلامية بالمغرب، ليظهر الآن أن الأمر خلاف ذلك. ........... فقلت : وهل اطلعت على السيرة النبوية؟ فقال: نعم كان شيخنا بن العربي (1) درس معنا سيرة ابن هشام حين كان يؤلف في ذلك الفن، وكان به مولعا. فقلت: حينئذ يحق لي أن أسالك أسئلة هي التي ستفتح لنا الباب حتى تدرك ما تريد أن تعرفه عن مصدر تأوهاتي وتنهداتي الحارة. هل الإسلام اليوم وأعني الروح التي تنبعث من الإسلام النقي الخالص من كل شائبة وبدعة لا يزال على ما كان عليه في أيام النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: لا ، ولكن لا يمكن أن يبقى كما كان، لأن هذا آخر الزمان، وفي القول: "كل يوم ترذلون" وفيه أيضا: "آباؤكم خير من أبنائكم إلى يوم القيامة"، وفي الحديث: "لا تقوم الساعة حتى يكون أسعد الناس في الدنيا لكع بن لكع"، وفيه أيضا: "لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله الله"، فنحن اليوم في القرن الرابع عشر، وهو ذنب القرون، أفلا يمكن فيه إلا أن يبقى من الدين سوى رسمه؟وهذا ما كان، فإن الناس كلهم يدعون الإسلام والصلاة والحج والزكاة، ولكنها رسوم باقية جوفاء لا روح فيها، ولذلك لا يتجاوز الإسلام حناجر الذين يسمون أنفسهم مسلمين، فأين تلك الطمأنينة والسكينة والروح التي كانت تنتظر ممن يلامس الإسلام أشغفة أفئدتهم؟ فقلت: ما الحق إلا ما قلتَ وبينتَه، ولكن هذا الداء العياء، أهو الداء الوحيد في جسم الإسلام اليوم؟ فقال: هذا ما أدرك، وإن كان عندك داء آخر فاذكره. فقلت: إنك يا سيدي حمُّو حصرت الداء في ما ذكرته وحده، مع أن هناك داء آخر أعظم منه، بل هو الأصل الذي نشأ عنه الداء الذي ذكرتَه، فما ذكرتَه فرع، والآخر هو الأصل، وكلا الداءين عضال، وما منشأهما إلا نبذ مّستقَى الإسلام الصافي ظهريا. فقال: بيِّن، بيِّن، فكلي آذان. فقلت: أنزل الله القرآن وفيه شفاء لكل شيء يلم بالنفوس، فلا يغادرها إلا صافية مجلوة المرايا، مرهفة لكل ما فيه خير الدنيا والآخرة، عزوفة عن الذل، متطلبة للمثل العليا في الحياة الدنيا والآخرة، عاملة للدنيا كأنها تحيا أبدا، وعاملة للأخرى كأنها تموت غدا، لا تترك عمل الدنيا للأخرى، ولا عمل الأخرى للدنيا، بل تأخذ من هذه وهذه، فكان بذلك المسلمون سادة العالم، وقادة الأفكار، وحراس المدنية، وأساتذة الجامعات، ثم لما أعرض المسلمون عن مدارسة القرآن، وعن تفهمه حق التفهم باستغلال الفكر، دب إليهم الداء الأول، وهو داء الخنوع، وهم يحسبونه استسلاما للقدر، فلبسوا الإسلام مقلوبا، وما زال بهم هذا الداء حتى أصبحوا أذل الأمم، وأقمأ الشعوب، وأذناب بني آدم، فلم يبق في أيديهم إلا توهم أنهم مسلمون بمعاطاة رسوم الديانة كما ذكرته فكانت صلاة بلا روح لا تنهى عن الفحشاء والمنكر، وزكاة بلا قصد من المقاصد العليا التي أسس عليها الشارع، وحج ليقال: الحاج فلان، ثم لا تؤاخذني يا سيدي حمُّو إن قلت لك إن لمثل هذه الفكرة التي أحاول أن أزلزلك عنها تأثيرا قويا في استئصال هذه الأدواء العضالة في الإسلام، فكلما كان منا عالم صلب الإرادة، خالص الطوية، مخلص لدينه، يُؤتى إليه أن الخير في العزلة، فينتبذ إلى خلوة تاركا العالَم بخيره وشره ثم لم يزل ذلك يتمكن من رجالات الأمة والرجالات الذين يليقون للميدان قليلون دائما بطبيعة الحال حتى استشرى الداء، ولامس الجذور، ولعب بالأصول والفروع، فلو قام كل واحد بما قدر عليه، مما يتطلبه كل زمن ومكان لما وصل بنا الحال إلى هذا الطور. فقال: كيف تقول: إن الأمة الإسلامية ذنَب الأمم، مع أن العثماني خليفة المسلمين هو ملك الدنيا، وخاقان لا يصطلى له بنار، وهو ملك البر والبحر؟ وكذلك يوجد كثير من ملوك المسلمين في الدنيا لهم قدم عليا، كما كنت رأيته من كتب التواريخ. فقلت: يظهر لي أنك لم تمعن كثيرا في ما قرأته من كتب التاريخ، وإلا لأدركت في مثل الاستقصا مثلا ما وصل إليه الجهل بالمسلمين حتى استذل لهم الأجانب، وكانوا أبعد الناس اليوم عن صدور المحافل، حتى صدق فيهم ما قيل من قديم: فبينا نسوس الناس والأمر أمرنا إذا نحن فيهم سوقة نتنصف وما قيل أيضا: ملكنا أقاليم البلاد فأذعنت لنا رغبة أو رهبة عظماؤها فلما انتهت أيامنا علقت بنا شدائد أيام قليل رخاؤها وكان إلينا في السرور ابتسامها فصار علينا في الهموم بكاؤها وصرنا نلاقي النائبات بأوجه رقاق الحواشي كاد يقطر ماؤها إذا ما هممنا أن نبوح بما جنت علينا الليالي لم يدعنا حياؤها ثم قلت له: كم لك في هذه الخلوة؟ فقال: خمسون سنة. فقلت: إن العالم تبدل في هذا الزمان تبدلا عجيبا، فقد انطوى ملك العثمانيين، وذهبت خلافتهم كأن لم تغن بالأمس، كما ذهب كل ملك المسلمين، ولم يبق في بعض الأقطار على قلتها من آثار سلطانهم إلا ما يبقى تحت أذيال الرماد من بقايا الجمر بعد ما مضى على وقت التظائها ساعات كثيرة. فاهتز متعجبا، وقال: ذهب عبد الحميد وتلك العظمة التي يحكي لنا عنها الحجاج، وذهب أمثالهم من ملوك الإسلام العظماء. فقلت: انطوى كل ذلك، فذهبت مصر والشام والعراق والحجاز والهند وجاوة والسودان وماإليها من أيديهم، كما ذهبت طرابلس، فصار المسلمون كلهم في بقاع الأرض مسترذلين بجهلهم المطبق، إلا ما كان من فِرَق صغيرة في بعض الأطراف تتحفز اليوم للنهوض، وتعمل على الكروع في مناهل العلوم لعلها تسترجع ما أمكن لها. فقال: وحينئذ، لنا أيها المغاربة أسوة بكل المسلمين، فلا يبلغ منا الأسى والتذمر مبلغا عظيما. فقلت: لا يتذمر مما كان إلا من يجهل الأسباب الحقيقية لكل ما جرى، وإن ذلك كله من ابتعاد المسلمين عن أوامر دينهم كما هي، فلئن راجع المسلمون اليوم دينهم المستقيم ليجدون في جميع الأمم المستعلية اليوم على الأرض خير أعوان في النهوض إلى المستوى الذي يستحقه من كانوا أبناء أمجاد، كسلف المسلمين الذين كانوا حينا ملوك الأرض فقال: أنى يمكن لمسلمي اليوم أن يسترجعوا دينهم، وأن يتعودوا من جديد الوقوف عند أوامره ونواهيه؟ إن ذلك من رابع المستحيلات. فقلت: أعيذك بالله أن تكون من اليائسين، وأنت تقرأ: (ولا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون)، وتقرأ قول الذي قال: (أنى يحيي هذه الله بعد موتها، فأماته الله مائة عام ثم بعثه، قال: كم لبثت، قال: لبثت يوما أو بعض يوم، قال: بل لبثت مائة عام، فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك، ولنجعلك آية للناس)، وتقرأ قول إبراهيم: (رب أرني كيف تحيي الموتى، قال أولم تومن، قال: بلى ولكن ليطمئن قلبي)... فما كانت هذه الآيات إلا تذكرة مدَّخرة لنا، حتى نوقن أن الله قادر على كل شيء، ثم نبتدر للعمل، ونجاهد في سبيل ذلك بمراجعة ديننا، فنقوم بما علينا بين الشعوب في الأخلاق والعمران والتمدُّين. فقال: أوَ ترى أنه يمكن أن تسترجع الأمة حياتها حتى تكون كما كانت أيام عزها؟ ولا أسألك هذا السؤال إلا ليطمئن قلبي، وفي سؤال إبراهيم عليه السلام لي إسوة. فقلت: إن ذلك ليس بممكن فقط، بل هو متوقع وقريب الوقوع، إن كان رجال يقومون بما يفرضه عليهم الواجب، ونبذوا وراءهم فكرة أن هذا آخر الأزمنة، وأن الساعة حان وقتها، لأن الله لم يكلفنا أن نتماوت عندما نظن الساعة قريبة لو كان في إمكاننا أن نعرف قربها، بل أمرنا أن نعمل دائما، ووعدنا أن يهدينا دائما سواء السبيل: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا، وأن الله لمع المحسنين)، فلنحسن في أخذ العلم ولنحسن في الوقوف عند ما حدَّ لنا الدين، ولنحسن في عمارة الأرض فيكون الله معنا، ومن كان الله معه فإنه بلا ريب مهتد إلى سبل السعادة دنيا وأخرى. يا عجبا أيأتي القرآن إلى جزيرة العرب وفيها جهال قاسية قلوبهم حتى ليعمد أحدهم إلى فلذة كبده فيئدها وهي تقول: أبَتِ أبَتِ، ثم لم يمض إلا ربع قرن حتى بدل جهلهم علما، وقساوتهم ليونة، وفرقتهم اجتماعا، وتخاذلهم مناصرة، وكفرهم إيمانا، فتكشفت الجزيرة عن أشباه الملائكة زحفوا إلى العالم بمصابيح الهدى والآيات البينات، وبذور للمدنية التي لا تزال آثارها تخلب الأفئدة وتبهر الأبصار إلى الآن، ثم يعجز هذا القرآن اليوم عن أن يرمم بعض ما اندثر، وأن يَشعَب بعض ما انصدع ويرد الألباب إلى الصدور والأبصار إلى العيون، والنشاط إلى العضلات الصحيحة التي ما مسها من ضرر، اللهم اشهد أنه لا ينقص اليوم أمة نبيك إلا أئمة قادة وزعماء خبيرون بمواقع الأدواء، ليضعوا عليها الأدوية، فلئن تيسر اليوم رجال مثل هؤلاء فلا يكون إلا عشية وضحاها حتى يرفع الشرق ثانيا رأسه بمدنيته وأخلاقه ومسالمته لكل الأمم، رافعا صوته يقول: (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون)، مؤتمرا بأوامر دينه التي تقول: (لا ينهاكم الله عن الذين يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين)، فيا سعد من سبقت له العناية فوقف اليوم بين هؤلاء الرجال الذين يؤدون للإنسانية كلها ما يؤدون، وهل محاولة إحياء الإسلام بأخلاقه إلى محاولة إحياء الإنسانية بأخلاقها؟ إن لكل زمان ميادين للجهاد يشتجر فيها القنا بالقنا، وتندق فيها الظُّبا بالظُّبا، ويرتفع فيه العثير إلى عنان السماء، ويبعث صرعاه اللون لون الدم، والريح ريح المسك، وميادينُ الجهاد اليوم مجتمعة في مثل هذه الدعوة الهادئة التي تحمل في طياتها كل الخير للإنسانية جمعاء، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا، فعصرنا نرجو أن يكون عصر سلام، تتبادل فيه الشعوب الثقة، وتتقدم فيه بالمدنية النافعة إلى الأمام ونحن... فقال مبادرا: مهلا عليك أيها الرجل واخفض من صوتك، فإنما أنت تخاطب هذا الضعيف أمامك، لا أنك تخطب الجماهير المحتشدة، وهل كنت بلا شعور حتى أطلقت العنان للساق، فقد صرت تخاطبني بما لا أفهمه كثيرا، فقد ذكرت المدنية وألفاظا أخرى وعبارات لم نكن نعهدها من أشياخنا العلماء رحمهم الله. فقلت: أستغفر الله، ثم بينت له بتؤدة ما هو المقصود اليوم بالمدنية، كما بينت له ما استفسره مني من عبارات أخرى، وما أرمي إليه من أن العصر عصر الدعايات، فيها وحدها ينال كل شيء. ثم قال: إنني الآن أكاد أفهم أنك تقول: إن كل ما ورد من الأجر في الجهاد وارد اليوم في الجهاد في هذا السبيل، وقد أخذ صدري ينشرح لما تقول، وأحس بأن غشاوة تنجلي عن قلبي، فأرى أنني مقصر في الذي علي أداؤه نحو إخواني المسلمين. فقلت: يا بشراي: ما أشد فرحي أن تمكنت من إقناعك حتى فهمت عني ما أريد، ويكفيك اليوم أن تفهم أن التصدر للعمل الصالح العام أفضل بكثير من انزوائك هنا......... فقال: .........غير أنني لا أقوم حتى تفسر لي بعض الأشياء لا أزال أنتظر تفسيرها منك في الكلمات التي بهرتني بها أول وهلة، وقد قلت: اجتمع عاملان على الشعب كل واحد منهما يعمل من ناحية: عامل الجهل المطبق بالدنيا والدين معا يعمل في باطنه عملا دائما في إنهاكه ودَكًّ بنائه، وعامل آخر أجنبي دهمه بغتة من وراء المدنية الغربية قبل أن يستعد لها ويتدرع لها بما يقتضيه الانتفاع منها من حياة وفكر وعلم وعزم و...إلخ، بين لي كيف جهْلُ المسلمين المطبق بالدنيا؟ فإن جهلهم المطبق بالدين قد فهمتُه. فقلت:إن ابن آدم جعله الله خليفة على الأرض ليعمرها، ولم يجعل له من الإلهام مثل ما جعل لمثل النحل، بل آتاه العقل، ثم تركه وشؤون الحياة، فبعد أن كان سيدنا آدم يخصف عليه من ورق الجنة بعد هبوطه من الجنة إلى الأرض ترقى أولاده بعد ذلك حتى أدركوا ما أدركوا من اللباس، وبعد أن كان يتناول من نباتات الأرض كما تصنعه كل الحيوانات، ترقت مدارك أولاده حتى توصلوا إلى الطهي واستجادة الطعام، وبعد أن كان يسعى على رجليه توصل أحفاده إلى تسخير الدواب أولا، ثم السيارة والطيارة والباخرة ثانيا، فهكذا ترقى أولاد آدم بعقولهم، فظهرت بذلك معاني خلافتهم في الأرض، فعمروها العمران المتواصل، ولكن ركب فيهم إزاء هذا العقل غريزة الاستيثار، فكانت رسل من الله تترى إنذارا وتبشيرا، لتشذيب هذه الغريزة حتى تقف في الموقف الذي تنفع فيه ولا تضر، كما أنهم ألقوا أنوارا وأشعة بما أوحى الله إليهم أمام العقول فاهتدت بها في بعض حيراتها، فكان ذلك سبب الترقي الذي نراه الآن. فمن تأمل منا الآن بالنظر الممعن وقايس نفسه بالآدمي الأول في كمال الحاجيات ووفور الضروريات، أيقن المقدار الذي سارته أحوال بني آدم في معاشاتهم وتفكيراتهم، وفي كل ما إليها مما يحوم حولهم مما يطلق عليه اسم المدنية، وحين كان المسلمون أفضل الأمم، وقد صقلت عقولهم وهذبت أفكارهم، وشحذت ألبابهم بما يجدونه من مواد النهوض والحياة في أسس دينهم، كان المتبادر أن يكونوا قادة الشعوب، وأئمة الأمم، وقد كان السلف الصالح كذلك، فنبغ المسلمون في كل شيء، علما وطبا واختراعا واكتشافا، فكانت ألوية المدنية العالمية في أيديهم قرونا، وما دفعهم إلى كل ذلك إلا اتباع أوامر دينهم الذي يقول لهم : إن الله كتب الإحسان على كل شيء، ويقرأون في حديث نبيهم: رحم الله من صنع شيئا فأتقنه، ويقرأون أيضا فيه: إن الله كتب الإحسان على كل شيء (مكرر هنا)، فكان كل متقن لشيء يتقنه تعرض لرحمة ربه، فترقت مدارك المسلمين ترقيا عجيبا، وكيف لا يترقون في كل صنعة جليلة أو حقيرة، وهم إنما يؤدون فرضا كفائيا في كل ما يصنعونه فيتقنونه؟ ومن مقررات دينهم أن الصنائع كلها كيفما كانت تدخل كلها في فرض الكفاية، تأثم الأمة كلها إن فرطت فيها. هذا ماكان إذ المسلمون مسلمون، ثم لما تحولوا عن وجهة دينهم هذه، صارت الدنيا وصنائعها الضرورية وغير الضرورية تفلت من أيديهم شيئا فشيئا، وقد نشأ تحت آباطهم وبمحاككتهم أمم الغرب من أوروبا، فكانت تعض بالنواجذ على كل ما يفلت من المسلمين، ثم لم تقف عند ذلك، بل استجمعت هممها، وهذبت عقولها، ودربت أولادها، حتى أنتجت مخترعات أخرى تتكاثر مع مرور الزمان، فكانت كفة المسلمين تخف كلما كانت الكفة الأخرى تثقل بالمخترعات الجديدة والمكتشفات الحديثة، وبالتوليد عن الصنائع القديمة، حتى طلع هذا العصر، فإذا بالمسلمين في الدركات، وغيرهم من الغربيين في السماوات، فأدى الحال بالمسلمين إلى أن يكونوا عبيدا ولو لم يمد إليهم الغرب يده، لأن احتياجهم إلى ما عنده من ضروريات الحياة تكفي للحكم عليهم بأنهم أسراه احتج إلى من شئت تكن أسيره. فها نحن أولاء نتوقف على غيرنا في كل شيء، فلولا الإبرة التي تأتينا من معاملهم لما خطنا ثوبا، ولا الثقاب الذي نستورده منهم لما طهينا طعاما، وهذا ضرب مثال بالتافه مما لا بد لنا منه، فكيف بما وراءُ وراءُ. بالله عليك، أهكذا ينبغي أن يكون المسلمون؟ أبهذه الحالة نرجو أن نكون أحياء بين الأحياء؟ فأين نحن اليوم من عهد أجدادنا الذين يُصدرون ما يشاؤون ويمنعون ما يشاؤون. كما يدْرس في أبواب الجهاد التي يتعرض فيها إلى ما يجوز أن يباع لغير المسلمين؟ أكان عمر بن الخطاب يرضى لنا بهذه الدنية، وهو الذي نعلم منه ما نعلم من مبادرته إلى اتخاذ كل ما يعلي شأن الإسلام، فحث على التجارة ويقول للعرب: لا يغلبكم الحمر على التجارة، ودون الدواوين وقيد المواليد والوفيات، وعزم على بناء طاحونة تدور بالريح، أم كان عبد الملك بن مروان وهارون الرشيد والمأمون، والناصر الأموي ويوسف بن تاشفين وعبد المؤمن بن علي وأبو الحسن المريني، وغيرهم من أساطين الإسلام يعرفون أن هذا يقع في أحفادهم ثم لا يعلنون اللعنة المؤبدة على الأحفاد؟ ترقت اليوم كل صناعة في الغرب، ودخلت الكهرباء والبخار كل الآلات، فبها يُحرَث ويُحصَد ويُدرَس، وبها تستنبط المياه وبها يتم كل شيء، ونحن لانزال نائمين نوْم عبُّود، حتى ليشك من يرانا أنّ الروح لاتزال تجول في أشباحنا. ما كان المسلم خير الناس، ولا كانت أمته أمة هذا الدين خير أمة أخرجت للناس، إلا ليمثل في هذه الحياة الأولى، ثم في الحياة الأخرى أدوارا يكون بها دائما في مقام الشفوف، فهو الذي أحل الله الطيبات في دينه: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق، قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة)، وهو الذي كان نبيه صلى الله عليه وسلم يحب الطيبات، فيلبس ويأكل ويفترش كل طيب وجده بلا تكلف، وهو الذي كان سلف دينه من الصحابة والتابعين أهل الإحسان أصحابَ أموال تعد بالملايين وأصحاب حِرَف وأرباب صنائع ومديري التجارات، ثم هم مع ذلك السُّبَّق إلى كل غاية الطائرون إلى كل مكرمة، ولا خير في خلف لا يمشي على آثار السلف. إن هذا الزمان لا يمكن أن يسود فيه إلا الإسلام إن كان له رجال، لأنه دين الفطرة، ودين الحياة الدنيا ودين الحياة الأخرى، يرضي الأشباح ويرقي الأرواح، ويفرغ من الطمأنينة على القلوب ما لا يوجد مع المدنية التي تحول بين المرء وقلبه، لأن كل مدنية بنيت على المادة لا يمكن أن تكون فيها السكينة مستولية على القلوب، إلا إذا كانت مدنية مؤسسة على دين مرن حي، مبني على حرية العقل فسيح الصدر فياض الشعور، وهل في العالم دين يضم هذا كدين الإسلام؟ حقا إن المسلمين اليوم سيحاسبون على كل ما أضاعوه من مدنية دينهم بما في كل ثناياها من صنائع وحرف وعلوم، ولكن أعظم ما يسألون عنه، إضاعة هذا الدين الحنيف ، الذي لو جد له رجالا لكان يملي اليوم على العالم كيف تسود الفضيلة على الشعوب. كنت أفيض بكل ما تقدم، ومخاطبي يحدجني ببصره، والألوان تتبدل على وجهه، فلما وصلت إلى هذا. قال: واأسفاه، قد نبهت مني ما كان ساكنا وأثرت مني ما كان كامنا، فليت شعري كيف يمكن لي أن أقوم ببعض الواجب في هذا السبيل حتى أنال رضى الله تعالى؟ فقلت له، وأنا أريد تشجيعه إلى العمل: إنك وجدت أبواب الجنة الثمانية مفتوحة أمامك، فاخرج من هذا الوجار، وخالط أمتك وألق إليها ما عندك ثم ازدد أنت بنفسك في ما تدعو إليه بصيرة بمدارسة كتاب الله بالإمعان، وبمطالعة ما تيسر لك من كتب تحفز الهمم إلى العمل، وبعد ذلك تقرب من رضى الله شيئا فشيئا، وعليك الاجتهاد وعلى الله العون والنجاح. فمد إلي يده. فقال: خذ إليك يدي، فأنا أعاهدك على أن أمضي في هذا السبيل على قدر استطاعتي، وسأغادر هذه الخلوة منذ الآن، فلا خير في قبر بلا موت، بيد أنني أشترط عليك الصحبة والتنبيه على كل ما لا يعجبك من حالي.... 1 يعني به سيدي محمد بن العربي الادوزي-الناشر