ليس هناك بلد ازدهر فيه الإنتاج الفني دون استثمار للقطاع الخاص. وروسيا البولشفية؛ ورثت ثورتُها في أكتوبر 1917 كنزا أدبيا ثمينا راكمته البلاد في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين؛ يتمثل في تراث «بوشكين» و«تولستوي» و«دوستيوفسكي» وغيرهم؛ ونفس الشيء أيضا في الإرث الموسيقي الزاخر ل«تشايكوفسكي» و«سترافينسكي» و«كورساكوف»... وفي المسرح ورثت أكبر معلم عرفه التاريخ؛ لا زالت منهجيته في التكوين تُدرس في أكبر المعاهد في العالم؛ هو «كونستونتان ستانيسلافسكي». إنه إرث ضخم كان بإمكانه أن يشكل أساسا تُبنى عليه نهضة ثقافية وفنية كبيرة. فماذا فعلت روسيا بهذا الإرث الثمين بعد أن أممت كل شيء؛ بما في ذلك الإبداع الفني؟ لا شيء. إن النهضة الفنية والثقافية إنما استفادت دائما من وجود طبقتين في المجتمع: طبقة البورجوازية الوطنية؛ التي تجعل من أهم مهامها النهوض بالبلاد صناعيا وثقافيا وفنيا، والطبقة الوسطى التي تساهم في استمرارية الإنتاج باستهلاكها للمنتوج الوطني. الريع يقتل الإبداع المشكل في المغرب يتمثل في غياب هاتين الطبقتين معا، فاقتصادنا الذي بني من أول يوم على الريع أوجد طبقة تستفيد من مال الدولة، تستثمره لحسابها الخاص، وفي المجالات الأقل مغامرة وبعيدا عن خدمة أهداف مجتمعية مثل الحاجة إلى صناعة فنية راقية. والطبقة المتوسطة عندنا اندحرت تقريبا، لدرجة أن موظفي السلم الحادي عشر أصبحوا يُكملون الشهر بالكاد. بل إن بلدا فيه أغنى مواطن هو موظف الدولة لا يمكن أن تتوفر فيه طبقة وسطى حقيقية. أمريكا مثلا التي أصبحت رائدة في الصناعة السينمائية نجد أن الذين بنوا صرح الصناعة الفنية هم أولائك الموسِرون الذين كان لهم الفضل في وضع اللبنات الأولى لمدينة الصناعة السينمائية «هوليود» منذ أواخر القرن التاسع عشر؛ من أمثال «هوراس» و»دايدا ويلكوت»؛ ثم في بداية القرن العشرين مع ظهور مستثمرين آخرين في الصناعة السينمائية من أمثال «ماك سينيت». أما الدولة هناك فلم يسبق لها أن استثمرت في السينما ولا في المسرح ولا في أي فن آخر؛ فمهمة الدولة في هذه المجالات هي أن توفر القوانين والتشريعات التي تشجع على الاستثمار في الفن؛ لأن الفن هو الواجهة التي تُعرف بالبلد وبحضارته وتجلب له الاهتمام سواء من طرف السواح أو المستثمرين أو غيرهم. في مصر صناعة فنية مهيكلة.. وفي المغرب فنانون رواد بدون صناعة في مصر التي هي أول دولة عربية توفرت لها صناعة فنية جعلت منها أساسا بداية أي فنان يسعى للانطلاق؛ كانت البدايات الأولى في هذا المجال على يد مستثمرين وطنيين، من أمثال طلعت حرب؛ الذي بنى استوديو مصر منذ عشرينات القرن العشرين؛ الذي كان أول استوديو للإنتاج الفني في العالم العربي، وتبع خطاه مستثمرون غيره أغلبهم جاؤوا من لبنان ليستثمروا في مصر التي سنت قوانين مشجعة للاستثمار في الفن من أمثال «ماري كويني»و «آسيا داغر»، وكذلك المنتج المصري «رمسيس نجيب». فلماذا لم يكن لنا في المغرب أي مجال للاستمرارية في الإبداع الفني رغم توفر فنانين كبارا؛ منهم من لولا هجرته إلى خارج الوطن لما توفرت له أية إمكانية للظهور؟ بل إن أغلب ما أبدعه الفنانون المغاربة كان بفضل مجهودات ومبادرات فردية لم تتمكن من الاستمرار؛ لأنها لم تجد المناخ المناسب للاستمرار؛ رغم أن المغرب كان سباقا في العديد من المجالات. فالمغرب هو أول بلد عربي بادر إلى الإنتاج في الدبلجة؛ عندما استعمل إبراهيم السايح رحمه الله استوديو السويسي منذ أربعينات القرن العشرين لدبلجة الأفلام الأجنبية، ثم انتقل إلى باريس حيث وفرت إنتاجاته ورشات عمل لممثلين مغاربيين من المغرب والجزائر وتونس. ولكنه عجز عن الاستمرار لغياب مستثمرين خواص يدعمون مشروعه؛ بعد أن كنا أول من شاهد «إدي كونستوتين» و»دوليب كومار» وغيرهم من ممثلي العالم يتكلمون بالعربية؛ لينتهي بنا المطاف اليوم إلى اقتناء مسلسلات وأفلام مدبلجة في لبنان؛ ليس من طرف أي لبنانيين؛ بل هي شركات يديرها كتائبيون مارونيون لا زالت أيديهم ملطخة بدماء أطفال صبرا وشاتيلا، هم الذين يختارون لنا من المسلسلات المكسيكية والتركية والبرازيلية ما نشاهده ويتربى عليه أطفالنا؛ بعد أن كنا سباقين إلى المجال، وكان ممكنا أن نجعل من بلدنا مُصدرا للمتنوج الفني كما نريده نحن. والمغرب كان هو أول بلد عربي ينشئ فرقة متخصصة في المسرح الإذاعي بينما في اغلب دول العالم العربي يعتمدون في تمثيلياتهم الإذاعية على ممثلين من المسرح والسينما؛ لسيت لهم دراية بالتمثيل الإذاعي؛ والعارفون بهذا المجال يعرفون أن للتمثيل الإذاعي تقنياته الخاصة به؛ ولكنها فرقة رغم تبنيها من طرف جهاز رسمي هو الإذاعة الوطنية لم تستمر، وتم حلها مع الأسف. والمغرب كان أول من بادر إلى تنظيم مهرجان لسينما البحر الأبيض المتوسط بطنجة سنة 1968، ولكن المبادرة توقفت عند بدايتها، وفي سنة 1965 كان المغرب أول بلد عربي ينظم مهرجانا للمسرح المتوسطي بشالة، ثم بعد ذلك في وليلي، ولكن الاستمرارية كالعادة لم تتوفر؛ فلماذا؟ إن الخلل عندنا بنيوي؛ هو نفس الخلل الذي بني عليه الاقتصاد الوطني؛ الذي بنيناه منذ البداية على الريع وانتظار ما يأتينا من الخارج؛ من سياحة وتحويلات عمالنا بالخارج. عوض أن نبنيه أولا على الصناعة والفلاحة. سياسة المنتج المنفذ أمام الباب المسدود وفي المجال الفني ظل الفنانون المغاربة يعولون منذ البداية على الريع الفني الذي قد تجود به الدولة أولا تجود؛ عوض العمل على استصدار تشريعات تشجع على الاستثمار في الفن وتجلب له رؤوس الأموال سواء المغربية أو غيرها. وها نحن اليوم نعيش انسداد أفق الريع الفني هذا بعد أن أبانت سياسة الشركات المنفذة لإنتاج التلفزيوني عن محدوديتها؛ وعن عجزها على الاستجابة لدفاتر التحملات. لماذا لا نغير من نظام الإنتاج برمته؟ لماذا عوض أن تمنح التلفزة للشركات أموالا طائلة مقابل منتوج فني لا يمكن أن تتوفر فيه الجودة؛ للسبب البنيوي ذاته، لماذا لا تقوم الدولة فقط بسن التشريعات الضرورية للاستثمار في الصناعة الفنية، كما شجعت على الاستثمار في الفلاحة التصديرية؛ مما حفز المصدرين على التخلي عن الفلاحات العائلية والاستثمار في فلاحة تعتمد على تقنيين ومهندسين محترفين؛ لأن أصحاب الضيعات أصبحوا يعلمون أن محاصيلهم التي لا تتوفر فيها الجودة سوف ترد وترفض للتصدير؟ بعد أن كان الأبناء يشرفون على ضيعات آبائهم، ويجنون القليل كما وكيفا؟ لماذا لا ننشأ صندوقا لدعم الإنتاج على غرار صندوق الدعم في السينما الذي وفر للمغرب منتوجا فنيا مسترسلا، وتكتفي التلفزة - عوض منح الشركات الأموال للإنتاج- بتمويل برامجها السياسية والثقافية والفكرية، التي لديها منتجين وصحفيين قادرين على مضاهاة كبريات القنوات في هذه المجالات؛ ولكنهم مجمدون ومحرومون من العمل؛ لأن أموال التلفويون تستثمرها شركات من خارج الدار. إن مرد غياب الجودة في منتوجنا التلفزي مرده إلى أن أصحاب الشركات المتعاملة مع التلفزيون المغربي في إطار نظام المنتج المنفذ؛ الذي يمارَس في المغرب بشكل مغلوط ومختل، يكون همهم دائما هو توفير أكبر قدر من ميزاينة الفلم أو المسلسل أو السيتكوم، فهم يتعاملون مع ممثلَين محترفَين اثنين أو ثلاثة على أكثر تقدير للأدوار الرئيسية، ويسندون ما تبقى من الأدوار إلى أشخاص من أفراد عائلاتهم لا علاقة لهم بالتمثيل ولا يهمهم إلا أن يظهروا في التلفزيون دون مقابل. بل إن بعض أصحاب هذه الشركات يقومون بأنفسهم بكتابة السيناريو والحوار وغيرها من المهام بأسماء مستعارة، أو يسندون هذه المهام إلى أبنائهم وبناتهم ليوفروا أجور المحترفين، ولا تهمهم الجودة مادام المال ليس مالهم، وإنما مال التلفزيون. ولو كانوا يستثمرون أموالهم، وتفرض عليهم الجودة لقبول منتوجاتهم لسعوا إليها سعيا؛ ولتعاملوا مع محترفين ومبدعين حقيقيين. الريع لن ينتج إلا الرداءة على الدولة أن تعمل فقط على الدفاع على منتوجها الفني والثقافي كما تدافع على منتوجها الفلاحي والسمكي، مع اشتراط الجودة؛ وفي هذه الحالة فقط سوف يضطر المستثمرون في الفن إلى تشغيل المبدعين الحقيقيين الذين هم منذ مدة مهمشون لحساب متطفلين على الميدان يجدون في الريع مرتعا سهلا لارتجال أنفسهم فنانين. وهكذا نجد في المغرب فقط الذي كان دائما سباقا إلى الإبداع الفني الرائد، في بلد عبد السلام عامر ملحن القمر الأحمر وميعاد وغيرها التي تعد من أحسن ما لُحن في تاريخ الموسيقى العربية، وبلد محمد سعيد عفيفي الذي أبهر بأدائه منذ الخمسينات كبار رجال المسرح من أمثال عملاق «الأودون» «جون لوي بارو» الذي ظل مشدوها يشاهد أداء عفيفي ويستمتع به، وبلد الجيلالي الغرباوي؛ أب الفن التشكيلي التجريدي؛ الذي مات في إحدى حدائق باريس بعد أن تجمد الدم في عروقه من البرد؛ وبلد أحمد الطيب العلج؛ العصامي الذي مغرب موليير؛ لدرجة أن كبير نقاد المسرح الفرنسيين في الخمسينات «جون جاك غوتييه» قال عنه: «لقد أرانا موليير بالبلغة المغربية» وغيرهم من الفنانين؛ نجد اليوم بفضل سياسة الريع الفني أن «الِْحْمِيْر كَاتّْبُورْدْ وْ الْخَيْلْ فْالْكُوِري». إننا لا نشتري المسلسلات والأفلام من التلفزات الأجنبية؛ بل من شركات خاصة. ووحدها شركات تستثمر أموالها في الفن قادرة على توفير الجودة. أما الريع فلن يعطينا إلا الرداءة. ما دامت الشركات تستثمر أموال الدولة وتستفيد من الريع.