يعتبر الريع (وهو كل تحصيل للأرباح بطريقة غير صحيحة) مظهرا من مظاهر الفساد الذي ينخر مجتمعنا والعديد من المجتمعات العربية قبل الربيع العربي، وحتى بعده. وتكمن خطورة الريع بكل أشكاله ليس فقط في الانتقاص من الرأسمال الوطني وهدر المال العام، ولكن أيضا في ضرب أسس الديمقراطية التي تجعل كل أفراد المجتمع سواسية أمام القانون، وإشاعة ثقافة الانتهازية والاغتناء على حساب الآخرين وعلى حساب الثروة الوطنية المسخرة للجميع، بدلها. على أنه غالبا ما يتم الحديث عن الريع الاقتصادي ويغض الطرف عن الريع الثقافي الذي استشرى في المجتمع وكان سببا في تمييع الشأن الثقافي ببلادنا وتقويض عمود من أهم أعمدة المجتمع الإنساني ألا وهو الثقافة التي يعرّفها مالك بنو نبي بكونها ليست هي العلم وإنما «مجموعة من الصفات الخلقية والقيم الاجتماعية التي يتلقاها الفرد منذ ولادته كرأسمال أولي في الوسط الذي ولد فيه، فهي المحيط الذي يشكل فيه الفرد طباعه وشخصيته». وعليه، فالثقافة تعد الرأسمال الحقيقي للمجتمع وكل أفراده، وإذا ضاع هذا الرأسمال ضاع المجتمع برمته. والحديث عن الريع الثقافي يندرج لا شك في سياق الاحتجاجات (في مظهرها) التي صدرت عن عدة فعاليات ثقافية وجمعوية وسياسية بخصوص الشأن الثقافي في بلادنا، قبل الربيع العربي وبعده. فعلى المستوى الثقافي، نجد مثلا: «ميثاق وطني من أجل الثقافة» لعبد اللطيف اللعبي، نداء الطاهر بنجلون من أجل دعم الثقافة، ما جاء في الحوار الذي أجرته جريدة «المساء» (العدد1780، 13/6/2012) مع الكاتب محمد برادة حول واقع الثقافة بالمغرب أو مشكل الثقافة بالمغرب الذي يكمن، في نظره، في «الترويج للثقافة الجدية وتوصيلها إلى أكبر جمهور من خلال الحوار والجدال" في مقابل الوسائط الإعلامية التي تعطي «الأسبقية للتسلية البليدة والفرجة الرخيصة»، مع تأكيده على أن «هناك غياب الوعي بأهمية هذه الوسائط ودورها في تثقيف الناس والارتقاء بذوقهم وشحذ فكرهم النقدي»، على حد تعبيره. مبادرة المرصد المغربي مع الكاتب شعيب حليفي للثقافة، مقاطعة أنشطة وزارة الثقافة، خاصة معرض الكتاب، في السنة الماضية، مع تنظيم وقفات احتجاجية أمام مقر الوزارة، وصل صداها إلى الإعلام المغربي، فضلا عن العديد من المقالات المكتوبة في الجرائد والمجلات المتخصصة وغير المتخصصة التي انتقدت الوضع الثقافي بالمغرب، هذا إضافة إلى معاناة بعض الرموز الثقافية التي عانت من سياسة الإقصاء لأسباب سياسوية أو إيديولوجية، مثل ما وقع مع الدكتور عبد الكريم برشيد في سنوات خلت أيام وزير سابق. وأما على المستوى السياسي، فنجد على سبيل المثال التقرير الذي قدمه منذ مدة فريق حزب العدالة والتنمية إلى البرلمان حول الثقافة، وهو التقرير الذي دعا إلى «ضرورة تحسين حكامة الشأن الثقافي من خلال إنهاء مختلف مظاهر الريع الثقافي بوضع معايير موضوعية للدعم الثقافي على أساس دفاتر تحملات ذات التزامات واضحة، مع دعم الحكومة منافسة الثقافة المغربية ومنتوجاتها، من خلال إقرار مبدأ الاستثناء الثقافي على غرار ما تفعله بعض الدول الحريصة على لغتها وثقافتها من منافسة غير متكافئة...». السؤال هو: هل سيتم تفعيل هذا التقرير الصادر عن حزب يسيّر اليوم الحكومة التي يعول عليها كثيرا في التغيير والإصلاح؟ في هذا السياق، الكل يطرح تساؤلات ويترقب اليوم مصير شأننا الثقافي الذي لا زال يعرف تعثرات جمة، في ظل التحولات السياسية والاجتماعية التي عرفها الشارع المغربي، وخاصة مع الدستور الجديد الذي أعطى أولوية للجانب الثقافي وللمجتمع المدني. هذا الترقب هو ما عبرت عنه افتتاحية مجلة «روافد» الثقافية المغربية، في عددها 21/2012، بما يلي: «هل ستعيش أوضاعنا الثقافية زمن التحول؟ هل ستؤثر التغييرات السياسية على التدبير الثقافي؟ وبعبارة أخرى: هل سيغير المغرب سياسة ثقافية بأخرى أم سيكتفي بتغيير وزير شاعر أو فنان أو أديب بوزير رياضي؟... فلا يمكن أن نحقق تغييرا حقيقيا مرتبطا بالعنصر البشري إذا لم نغير علاقتنا بما هو ثقافي». ونعتبر الأسئلة المطروحة في هذه الافتتاحية أسئلة مشروعة، ذلك أنها أسئلة كل مثقف أو مهتم غيور على وطنه ويهمه تقدم وإصلاح الشأن الثقافي ببلادنا؛ كما تعد مدخلا هاما لهذا الإصلاح المنشود وللقضاء على مظاهر الريع الثقافي التي سنعرض لها في هذا المقال. 1 - علاقة المال بالثقافة قبل التطرق لمظاهر الريع الثقافي، لا بد من القول إن هناك علاقة جدلية بين الثقافة والمال، فكلاهما بحاجة إلى الآخر، وغياب أحدهما يحدث خللا في الجانب الثقافي بشكل عام، وإن كان المال وحده لا يكفي لبناء الصرح الثقافي لأي أمة من الأمم، لأنه لا بد من أن تكون هناك أسس راسخة لثقافة أصيلة يدافع عنها المجتمع. لكن المال ينمي البنى الثقافية التحتية ويخلق دينامية ثقافية من خلال دعم المشاريع والوسائل وكل ما يتعلق بهذه البنى، من أجل ازدهار الثقافة. ودون هذا الازدهار، يبقى المجتمع ناقصا لأهم أوجه الحضارة، كما يظل متخلفا وبعيدا عن الإسهام في الحضارة الإنسانية ككل. وفي تراثنا العربي أمثلة حية على علاقة المال بالثقافة، فقد كان هارون الرشيد يضع الكتاب في الميزان، ويدفع بوزنه ذهبا، مما جعل الثقافة تزدهر وتتطور في عصره. كما فتح سيف الدولة الحمداني مجلسه للعلماء والمفكرين والشعراء والفنانين، وتلك ذاكرة ناصعة أخرى لتداخل الثقافة والمال. لكن الملاحظ اليوم في الوطن العربي هو غياب الاستثمار في الثقافة التي هي رأس المال الحقيقي، لأن بناء الثقافة يدخل في الواجب الوطني؛ فالأموال مسخرة في كل شيء إلا في الثقافة، فكم من مجلة ماتت وكم من جريدة أقبرت وكم من مبدع لم يجد المال اللازم لطباعة إبداعه، بسبب غياب الدعم في الوقت الذي تهدر فيه الأموال في أنشطة تافهة. وفي هذا الصدد، قامت مجلة «دبي الثقافية» (عدد 73، يونيو 2011) بإنجاز تحقيق حول علاقة المال العربي بالإبداع، من خلال استطلاع رأي وحوارات مع كتاب ومثقفين ومبدعين عرب أكدوا أن «المال العربي معاد للفكر وللثقافة»، كما أن هذا المال أصبح يأتي بالمثقفين و«يعتاش» عليهم، بمعنى أن المال يستثمر في المثقف لا في الثقافة، بحيث يصبح المثقف خادعا لصاحب المال وإيديولوجيته، متخليا عن آرائه وكتاباته ومواقفه ومبادئه، بل يصبح المثقف مستثمرا لصحاب المال لا للثقافة. وعليه، فالمثقف هو الآخر يتحمل المسؤولية في تردي الوضع الثقافي لكونه أصبح لاهثا وراء «المال العربي»، لتصبح الأزمة أزمتين: أزمة ثقافة أي عدم دعمها ماديا، وأزمة مثقف أصبح مسخرا للبهرجة الثقافية. من هنا نفهم القطيعة التامة بين المثقف والجماهير التي صنعت ثوراتها في غياب حقيقي لقيادات ثقافية. 2 - مظاهر الريع الثقافي في بلادنا في اعتقادنا المتواضع، يمكن تقسيم الريع الثقافي إلى قسمين: الريع المادي والريع اللامادي، فالريع المادي هو كل ما يتعلق بالاغتناء والاستفادة من المال العام بطرق غير مشروعة تعتمد الحزبية والمحسوبية والزبونية؛ أما الريع اللامادي فيتجلى في المنتوج الثقافي أو مضامين الإنتاج الثقافي (الفكري والفني والسينمائي) التي يصرف عليها من المال العام والتي تستهتر بعقول المواطنين أو المتلقين وتهدف إلى تمييع الفعل الثقافي، من خلال اجتثاثه من وظائفه الجمالية والقيمية والتغييرية وجعله فعلا عبثيا بدون رسالة أو وظيفة. وفي نظرنا، فالريع المادي يشكل، في حالة استفحاله، خطرا على الإبداع وعلى الثقافة وعلى الذوق العام وعلى الإنسان وكينونته وهويته. أ- الريع المادي: في الوقت الذي نعيش فيه غياب البنيات الأساسية لاحتضان الثقافة ونشهد فيه فشل تدبير الملف الثقافي رسميا، يعرف الميدان الثقافي في المغرب بشكل عام حالة من الريع، تتجلى أساسا في تحول العديد من الجمعيات وبعض المهرجانات إلى مصدر رزق دائم لرؤسائها وحاضنيها الذين لم يتغيروا لعدة عقود، حيث أصبحت المنحة التي تقدم إليهم -والتي أصبحت سببا حقيقيا للصراعات- موردا قارا لاغتنائهم في ظل عدم المساءلة والمحاسبة؛ هذا بالإضافة إلى التكتم الحاصل حول ميزانيات تلك الجمعيات أو المهرجانات وحول حجم الغلاف المالي الحقيقي الذي يصرف على أنشطتها. لقد عملت وزارة الثقافة المغربية منذ سنين على تعميم المهرجانات الفنية على جميع مناطق المغرب واستغلال الخصوصية الجغرافية لكل منطقة في ذلك، وانخرطت في دعم العديد منها. لكن هل تساهم تلك المهرجانات في إحداث دينامكية فنية وثقافية أم في تكريس مفهوم الفلكلورية؟ وهل تساهم فعليا في التنمية وفي التعريف بالإرث الثقافي المغربي؟ هل تنخرط بالفعل في انفتاح المغرب على الآخر أم تسخَّر لمآرب أخرى؟ وهل هذه المهرجانات دعمت الفنان المغربي بكل ديمقراطية وساهمت في مساره الفني وفي إعلاء شأن الأغنية المغربية والترويج لها أم العكس؟ الأغنية المغربية التي هي الأخرى تعاني من غياب دعم حقيقي لها. إن هذه الأسئلة نابعة من واقع ثقافي وفني مزر لطالما عانى منه المثقفون والفنانون المغاربة وهم يرون ميزانيات ضخمة تصرف على مهرجانات لا تحقق أغراضها ولا يستفيد منها المغاربة شيئا، بل إلى غاية اليوم لم نحقق صناعة فنية تنافس المشرق الذي ظل السوق الوحيد المحتكر لهذا النوع من الصناعة. وما قلناه عن استفادة بعض الجمعيات أو المهرجانات من المنح المقدمة إليهم ينسحب أيضا على الدعم المسرحي الذي تستفيد منه دائما بعض الفرق المسرحية دون أخرى، حيث الإقصاء والتهميش، لكونها بعيدة عن مراكز النفوذ أو لأنها تفتقر إلى "الركيزة" التي توصلها إلى مبتغاها. ناقد فني وسينمائي