أكد الباحث السياسي والشاعر، أحمد الخنبوبي، في هذا الحوار أن التجارب التنظيمية للمهرجانات غالبا ما تنتهي بالفشل إذا لم يكن وراءها أشخاص لهم شبكة علاقات داخل الدولة، ويتوفرون على رأسمال وموقع في أعلى السلطة، وقدم في هذا الشأن عددا من الشخصيات السياسية التي تقف وراء الكثير من المهرجانات على ربوع المملكة، وأضاف بأن أغلب القائمين المباشرين عليها بعيدون عن الهدف الأساسي من إقامتها ولا تربطهم أية صلة بالفن والثقافة، بل في غالب الأحيان تكون لهم نوايا غير معلنة، إما لأغراض سياسية أو تجارية محضة. كما ينتقد الخنبوبي منح مبالغ مالية خيالية لفنانين أجانب لمشاركتهم بضع ساعات في مهرجانات مغربية. وأشار إلى أن الجزء الأكبر من ميزانيات هذه المهرجانات، وخصوصا الحديثة منها كمهرجان البولفار بالبيضاء وموازين بالرباط، يصرف من أموال الدولة، ومن ميزانيات المجالس الجهوية والإقليمية والبلدية والقروية، واعتبر ذلك تبذيرا للمال العام في الحالات التي تفتقد فيها المدن إلى أبسط البنيات التحتية الاجتماعية والاقتصادية. المغرب مشهور بمهرجانات كثيرة ومتعددة (أحيدوس، كناوة، أحواش، الفنون الشعبية،….)، لو تحدثنا عن تاريخ هذه المهرجانات، وأين تتجلى قيمتها؟ إن المغرب فعلا يعتبر من البلدان القلائل التي تتمتع بغنى ثقافي و فني مهم جدا ومتنوع، وهذا التنوع يمثل فعلا الهوية الثقافية والحضارية المغربية التي تشكلت منذ آلاف السنين من الأساس الثقافي الأمازيغي، الذي احتضن كل الأسس الأخرى الإسلامية والأبعاد العربية والأفريقية واليهودية والأندلسية بل وحتى الأوروبية. وبالتالي فهذا الامتداد والتنوع ينبغي صيانته والمحافظة عليه، وهكذا كانت منذ تاريخ بعيد تقام ملتقيات فنية وثقافية عبر ربوع المغرب لضخ دماء جديدة في الفنون الأصيلة المغربية، وقد كانت هذه الملتقيات تحت مسميات مختلفة ك الموسم و ألموكار وغيرها. وقد تطور هذا الشكل من الاحتفاء في العقود الأخيرة ليصير تحت مسمى المهرجان، وهكذا ومنذ الاستقلال شهد المغرب مهرجانات مهمة كالمهرجان الوطني للفنون الشعبية بمراكش مثلا، الذي يحاول تجميع عشرات المجموعات والفرق الفنية المغربية الأصيلة عبر ربوع الوطن منذ الخمسينات من القرن الماضي، هذه المهرجانات بهذا الشكل لها أهمية وقيمة مضافة كبيرة لأنها تبرز الشخصية الثقافية المغربية، وتجعل المواطن المغربي يستحضر ثقافة و تاريخ بلده و أمجاده من خلال هذه الطقوس الاحتفالية، كما أن هذه الأخيرة تجعل جيل الشباب المغربي غير مستلب الهوية وغير منبهر بثقافة الأجنبي كما هو حاصل الآن. الملاحظ أن كل جهة أو منطقة بالمغرب تتميز بتنظيم مهرجان معين، بما يمكن تفسير هذا التنوع؟ كما أشرت إلى ذلك سابقا، فاٍن المغرب يتميز بتنوع ثقافي، هذا ما يجعل المهرجانات الفنية تغطي كامل جغرافية المغرب، كما أن هدا التنوع جعل كل مهرجان يختلف من حيث خصوصياته عن المهرجانات الأخرى، فمثلا مهرجان أو موسم كناوة بالصويرة، وهنا لا أقصد المهرجان الذي يقام حاليا والذي حاول أن يحتكر اسم كناوة وكأن تراثنا الثقافي أصبح ماركات تجارية تمتلكها شركات خاصة ووكالات الإشهار و التواصل يتميز بتجميع كافة الممارسين لفن كناوة العريق، والذي يبرز جليا الامتداد الأفريقي للمغرب ومدى انصهار ثقافة جنوب الصحراء والثقافة المغربية، كما أن مدنا أخرى تحتضن ملتقيات خاصة بفن أحواش و إبراز عمق هذا الفن والتعابير الثقافية الفنية والجمالية التي يحملها وليس بالشكل الفلكلوري الذي يقدم به هذا الفن للسياح الأجانب، وكما يحدث مع فن العيطة و أحيدوس، والطقطوقة الجبلية وعيساوة والركادة وحمادشة والكدرة وغيرها من الفنون المغربية الأصيلة الرائعة. لكن ما بدأنا نلاحظه في الآونة الأخيرة أنه تم احتكار مسميات هذه الفنون من طرف مؤسسات و جمعيات تحظى بدعم السلطات وأعيان ووجهاء المناطق، وبدأت تنظم مهرجانات بميزانيات ضخمة لكن القاسم المشترك بينها هو أنها تهمش الفنانين والممارسين الحقيقيين لتقدم أسماء فنية مصطنعة وفقاعات فنية صنعتها ما بات يسمى تليفزيونات الواقع التي ربما تتلاقى مع منظمي هذه المهرجانات في تقديم ما يريدونه للجمهور في غياب أي حس فني. أغلب المهرجانات تجعل من المحافظة على التراث وتثمينه شعارا لها، إلى أي حد تحقق هذا الهدف، مع العلم أن بعض القائمين عليها غير مثقفين بقدر ما يمثلون رؤساء مجالس بلدية أو غيرها؟ نعم إن القائمين على أغلب المهرجانات التي تقام الآن، أغلبهم لا تربطهم بالفن والثقافة أية صلة، بل يتم تعيينهم وفق عقود تجارية للقيام بمهام معينة، بل الغريب في الأمر أن بعض القائمين عليها ليسوا مغاربة بل أجانب، وهو ما يفقدها صفة المواطنة، علما بأن بلدنا يتمتع بوجود طاقات وفعاليات ثقافية وعلمية عاطلة عن العمل يمكن أن تعد وتقدم تظاهرات أحسن مما يقام الآن، إذ كثيرا ما تجد المدير أو المشرف على المهرجان إلا وتلتصق به صفة رئيس جماعة أو بلدية أو جهة أو مستشار أو نائب برلماني، وهو ما يجعل الأسئلة تطرح حول الأهداف الحقيقية لهذه المهرجانات، هل هي النهوض بالفن والثقافة؟ أم تحقيق أرباح مادية؟ أم القيام بحملات انتخابية سابقة لأوانها لكسب الأصوات؟ كما أريد أن أوضح أن كلامي هدا المتسم بالانتقاد ليس موجها إلى الحركة الفنية المغربية الجادة والملتزمة التي بالكثير من أجل إيصال الرسالة الفنية الجادة والنبيلة. ألا تلاحظون بأن المهرجانات التي تكتسي الطابع الغنائي الحديث والتي تروج لفنانين أجانب تشوش كثيرا على العمق الثقافي للمهرجانات المغربية الأصيلة وتضيق المجال عليها؟ فعلا أنا أشعر بنوع من الغموض وعدم الفهم عندما أسمع أن بعض الفنانين الأجانب تقاضوا مقابل مشاركاتهم في بعض المهرجانات في المغرب مبالغ مالية خيالية تصل إلى ملايين الدراهم، حيث أجد تناقضا صارخا كون المغرب دولة نامية تعاني من مشاكل اجتماعية واقتصادية عويصة كالفقر والبطالة والتضخم والنقص الحاد في البنيات التحتية، وبين ما يتقاضاه هؤلاء الدين يسمون فنانين أجانب. أنا لست ضد الانفتاح على فنون وثقافات العالم، فالانغلاق على الذات يجعل البنية المجتمعية بعيدة عن التطور و التقدم، لكن يجب على الانفتاح الثقافي على الآخر أن يكون في حدود اللياقة وأن لا يكون على حساب الثقافة الوطنية، وإلا فسيكون ذلك من باب المسخ والميوعة. لكن في نظري المسؤولية عما يحدث الآن ببلدنا تتحملها الأجهزة الرسمية المسؤولة عن الثقافة وعلى رأسها الوزارة الوصية، كما أن جزءا من المسؤولية يتحملها الفاعلون في الحقلين الثقافي والفني، وهنا أقصد على وجه الخصوص نقابات الفنانين وإطاراتهم المهنية التي دخل بعضها في لعبة الصمت بالمكشوف، مقابل امتيازات معينة، وقد يحين الوقت لفضح هذا التواطؤ و هدم المعبد على رؤوس الجميع كما يقال. يلاحظ بعض المتتبعين غياب ترابط بين البحث العلمي في التراث وبين هذه المهرجانات الأصيلة، بما تفسرون ذلك؟ وهل هناك مبادرات لتوثيق التراث الشفهي المغربي؟ إن ما يعكس الطابع التجاري لأغلب هذه المهرجانات هو تهميشها الكلي للثقافة والتوثيق وللبحث العلمي في ميادين الفنون بكافة تشعباتها، حيث نجد بالموازاة مع هذه التظاهرات غيابا كليا للندوات وتوثيقها وغيابا لحضور المثقفين والباحثين، هذا مع العلم أن بعض هذه المهرجانات تنظم بعض الندوات الشكلية لدر الرماد في العيون لمناقشة مواضيع فنية بحضور بعض المثقفين والباحثين الذين تربطهم في غالب الأحيان علاقات مصلحة أو صداقة مع المشرفين على هذه المهرجانات والذين تخصص لهم الفنادق من فئة الخمسة نجوم لقضاء أيام المهرجان، إلا أن ما يميز هذه الندوات هو ضعف الحضور وضعف النقاش، ما يدل على ذلك أنها تقام دون أرضيات للنقاش كما أنها تعجز عن الخروج بتوصيات أو بتوثيق لأشغالها لتوفير تراكم في البحث الفني وإنقاذ التراث الشفهي المغربي من الاندثار.على العكس نجد أن بعض المهرجانات والتظاهرات الفنية الجادة رغم قلة إمكانياتها ومواردها، تقوم بأعمال علمية هامة وتعرف حضورا جماهيريا وحضورا لباحثين ومهتمين مرموقين. أنت وغيرك من الباحثين والمثقفين بالمنطقة، هل سبق أن قمتم بتأسيس جمعيات للمحافظة على هذا الموروث الثقافي، وما هي انتظاراتكم في المستقبل؟ لي تجربة جمعوية، وسبق لي أن ساهمت في تأسيس عدة جمعيات للنهوض بالتراث الفني والثقافي المغربي، إلا أن الحصول على الدعم المالي وحماية ذوي المصالح يقتضي العمل وفق المنطق التجاري، وهنا أقول التجاري بمفهومه السلبي أي القفز على الحس الفني والثقافي وليس العمل بمنطق الماركوتينغ، فهذا شيء عادي في اعتقادي، كما أن التجارب التنظيمية للمهرجانات تبوء بالفشل إن لم تتوفر على شخص يكون وراء المهرجان ويتوفر على شبكة علاقات داخل الدولة ويتوفر على رأسمال وموقع مسؤولية في أعلى السلطة، دعنا نكون صرحاء شيئا ما، وسأعطيك أسماء مهرجانات مغربية كبرى وشخصيات نافدة من ورائها، مهرجان الصويرة لفن كناوة ورائه المستشار الملكي أندري أزولاي، مهرجان تيميتار بأكادير ورائه الوزير ورجل الأعمال عزيز أخنوش، مهرجان فاس للموسيقى الروحية ورائه المستشار الملكي السابق ووالي الدارالبيضاء محمد القباج، مهرجان موازين بالرباط و البولفار بالبيضاء ورائهما الكاتب الخاص للملك منير الماجدي، مهرجان موسيقى الصحراء بالرشيدية ورائه الناطق الرسمي السابق باسم القصر ووالي جهة مكناس تافيلالت حاليا حسن أوريد، مهرجان طنجة المتوسطي وراءه اٍلياس العماري العضو بالمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية والهيئة العليا للسمعي البصري ..اٍلخ، وبالتالي فقواعد اللعبة واضحة تقتضي وجود شخصية نافدة وراء أي مهرجان يتوفر على ميزانية ضخمة و محتضنين. الكثير يرى أن العديد من هذه المهرجانات تخرج عن هدفها العام، لتأخذ أبعادا أخرى سياسية أو غيرها، ما تعليقكم؟ الهدف الأساسي الصوري لهذه المهرجانات هو الفن، لكنها في غالب الأحيان تكون لدى القائمين عليها نوايا غير معلنة، وهو ما يمكن اكتشافه بكل سهولة حيث تظهر الأهداف السياسية من خلال صفات القائمين على هذه المهرجانات، وكذا الشخصيات النافدة داخل الدولة التي تقف ورائها، كما أن بعض هذه المهرجانات تكون لأغراض تجارية محضة، حيث يكون ورائها رجال أعمال وشركات خاصة تهدف إلى تسويق منتجاتها وإشهارها عن طريق المهرجان، مما يجعل هذه الشركات تتدخل برمجة بعض المهرجانات، حيث أن همها الأول هو جلب أكبر عدد من الجماهير دون النظر إلى الجوانب الأخرى للتظاهرة، مما يجعل هذه الأخيرة في الغالب تخرج عن منحاها، حيث نرى مظاهر الانحراف و الإجرام. المهرجانات الحديثة كمهرجان البولفار بالبيضاء وموازين بالرباط، التي غالبا ما تستقطب فنانين أجانب؟ الكثير من الهيئات تتحدث عن تبذير المال العام في هذه المهرجانات؟ ما رأيكم؟ يعتبر الجزء الأكبر من ميزانيات هذه المهرجانات، من أموال الدولة فهي تمول من ميزانية وزارة الثقافة والسياحة، ومن ميزانيات المجالس الجهوية والإقليمية والبلدية والقروية وبعض مؤسسات الدولة الأخرى، كوكالات تنمية الأقاليم و غيرها، وبالتالي فمن حق المواطن أن يسأل عن مصير تلك الأموال لاسيما و أن بعض المهرجانات تخرج عن الأهداف المسطرة لها. كما أنه يمكن اعتبار ذلك تبذيرا للمال العام في الحالات التي تفتقد فيها المدن إلى أبسط البنيات التحتية الاجتماعية والاقتصادية، في حين تخصص ملايين الدراهم لمهرجانات مدة صلاحيتها بضعة أيام، وهنا وكما أقول دائما لا يجب أن يفهم كلامي أنه ضرب للحركة الفنية الجادة بالمغرب التي ضحت بالغالي والنفيس من أجل إيصال رسالتها الفنية بصدق وأمانة كما لا يجب أن يفهم أنه تحجر و رجعية. وحتى لا أكون عدميا فقد أتت بعض المهرجانات الفنية بالمغرب بقيم مضافة في التنظيم والبرمجة والتواصل مع الجمهور، لكن هذه القيم تبقى ضعيفة ما لم تدمج في مناخ شامل بتصورات جديدة للمسار الثقافي والفني بالمغرب.