بحلول الصيف، تكثر المهرجانات المنظمة بعدة مدن مغربية، وبجانب البعد الفني والثقافي والسياحي للمهرجانات، فإن هناك بعداً سياسياً يتجلى في رهانات متعارضة لطرفين يجدان نفسيهما في صراع بمناسبة تنظيم تلك المهرجانات. هناك الدولة من جهة، وهناك الحركة الإسلامية المشاركة في المؤسسات المنتخبة من جهة ثانية. هذا الطرف الثاني لا يعلن صراحة رفضه المبدئي لفكرة المهرجانات ككل، ولكنه يمعن في تعداد مساوئها وعيوبها، إلى درجة أنه يأمل ربما ألا ينعقد أي مهرجان بالمرة، إنه ينظر إلى ظاهرة المهرجانات كما لو كانت نكبة أو كارثة وطنية ويعتبرها جديرة بكل الأوصاف السلبية. والسلبيات التي تنسب إلى المهرجانات يمكن إجمالها في: تنظيمها في توقيت غير ملائم أحياناً. وهكذا اعتبرت يومية التجديد مثلا أن اختيار توقيت مهرجان «موازين» الذي انعقد بالرباط «يثير الكثير من التساؤلات»، بسبب تزامنه مع استعدادات التلاميذ لاجتياز امتحانات الباكالوريا وشروع الطلبة الجامعيين في اجتياز امتحانات نهاية الطور الثاني من السنة الجامعية (ع 1896). وفي مقال صادر بعد يوم من ذلك، أكد الكاتب أن «الذين خطفت نانسي عجرم عقولهم حين بثوا سهرات راقصة في القناتين الرسميتين في قلب الفواجع التي حلت بالمغرب (ذكرى أحداث 16 ماي الإرهابية وزلزال الحسيمة، حريق البيضاء...) هم أنفسهم الذين يستمرون في استفزاز مشاعر الفقراء..» (ع 1897). الظروف الاقتصادية التي يجتازها المغرب تجعل القيام بالإنفاق على مثل هذه المهرجانات وجها من أوجه السفه والتبذير، وأن هذا الإنفاق كان يتعين أن يتوجه إلى مجالات أخرى احتراماً لضرورات التقشف. وفي هذا الإطار يؤكد المقال الصادر بالعدد 1897 من جريدة التجديد أن «الفقراء ممن لا يجدون ما يردون به جوعهم والمعطلين من الشباب الطامحين في عمل كريم وعموم المواطنين الذين أنهكتهم الأسعار الملتهبة، هؤلاء جميعا يتم استفزاز مشاعرهم حين يرون مشاهد التبذير والبذخ والرقص تتنافس عليه المدن المغربية». وتعود الجريدة إلى التنويه بالاحتجاج الذي عبر عنه عدد من المستشارين بمجلس جهة الدارالبيضاء، بسبب قيام والي الجهة ببرمجة 4 ملايين درهم من الفائض المالي ل2007 لفائدة جمعية منتدى الدارالبيضاء المخول لها تنظيم مهرجان البيضاء «ضدا على الإجماع الذي حصل في لقاء اللجنة المالية للمجلس المنعقد الأسبوع الماضي، والقاضي بتحويل هذا الغلاف المالي لمجالات اجتماعية يستفيد منها البيضاويون»، كما لو أن المهرجانات الفنية لا يستفيد منها البيضاويون. وتساءل عزيز رباح من فريق العدالة والتنمية بمجلس النواب عن السر في «الإسهال في تنظيم المهرجانات في زمن أعلنت فيه الحكومة نهج سياسة التقشف». مبدئياً، يجب أن نعتبر الاستثمار في المجال الثقافي استثماراً منتجاً إذا خضع لحكامة في التدبير وتطابق مع الإمكانات، مع ضرورة التنبيه إلى أن تقدير مدى وجود غلو أو اعتدال في الإنفاق يتوقف أساساً على حجم المستفيدين، فمهرجان موازين كلف ما بين 22 و24 مليون درهم، ولكنه عرف مشاركة 120 ألف شخص كل يوم في تتبع فقراته بمختلف الخشبات (مجلة لوجورنال 24-30 ماي 2008 ع 351). وجود اختلالات في تدبير مالية المهرجانات. وفي هذا الإطار يشدد عزيز رباح على أن «مظاهر الاختلالات التدبيرية لمالية المهرجانات تتخذ عدة صور، منها عدم عرضها لطلبات عروض عمومية، وتفويتها لصفقات خارج القانون، والنفخ في الفواتير، والتسبب في صرف الميزانيات بعيداً عن الشفافية ومبادئ الحكامة الجيدة». هذا الوجه من النقد لا يطرح أي إشكال، إذ إن من حق المواطنين أن تمنح لهم كافة الضمانات عن التدبير السليم والشفاف لمالية الأنشطة التي تتلقى الدعم العمومي (تقدر نسبة هذا الدعم في الميزانية الإجمالية للمهرجانات ب75%، حسب المنسق الوطني للسكرتارية الوطنية لحماية المال العام). حصول أعمال مخالفة للآداب والنظام وسلامة الأشخاص بمناسبة المهرجانات كتناول المخدرات والسكر العلني والمشاجرات... إلخ. وهكذا أوردت التجديد في ع 1904 أن النائب الثالث لرئيس جهة الدارالبيضاء (وهو عضو المكتب السياسي للحركة الشعبية) صرح بأنه «ضد دعم مهرجان يمارس فيه الشباب انحرافاتهم بالتعاطي للمخدرات وارتكاب سيئ الأخلاق». وأكد محمد الحمداوي رئيس حركة التوحيد والإصلاح: «نحن نركز على الجو المصاحب الذي يساعد على الانحراف. مثلا كنت يوماً أمام مركز للشرطة، فكانت كل مرة تأتي سيارة رجال الأمن تحمل فتيات وشباب سواء في حالة سكر أو تعرضوا لجروح، كانوا حاضرين في إحدى سهرات مهرجان موازين، وهذا متعب حتى لرجال الأمن». ووصف قيادي من العدالة والتنمية ما يقع بمناسبة المهرجانات ب«النجاسة»، في حوار تلفزيوني. والواقع أن كل تجمع لآلاف الشباب كما يقع في اللقاءات الرياضية يمكن أن يكون مناسبة لأعمال شغب أو إخلال بالحياء أو مس بالنظام العام، وذلك في العالم كله، وهي لدينا لا تمثل الوجه البارز للمهرجانات، ولا تمنع تنفيذ فقراتها المبرمجة. فهذه المهرجانات في النهاية ليست الفرصة الوحيدة لقيام بعض الشباب بأعمال ضارة، حتى تجعلنا نصدر حكم إدانة إجمالي وشامل في حق المهرجانات ومنظميها. صرف أجور خيالية أحياناً للفنانين الأجانب، وبدون تحملات ضريبية، والإغداق عليهم بالامتيازات، وتهميش وإهمال الفنانين المغاربة ومنحهم أجوراً وتعويضات تقل كثيراً عما يقدم لنظرائهم الأجانب. هذا واقع يجب تغييره. المهرجانات ضرورية للفنان المغربي لأنها تتيح له مجالاً للاشتغال وتعويض جزء من الخسارة الناجمة عن قرصنة المنتجات الفنية، ولكنها يتعين أن تخضع لمعايير جديدة تنصف الفنان المغربي. المهرجانات هي وسيلة للترويج لفن ساقط ورديء وتزكية فناني الميوعة والإسفاف. يقول الأستاذ الحمداوي: «إذا كان بعض خصوم الحركة الإسلامية يعتقدون أنه من خلال التمييع أو الفن الساقط سيمنعون من انتشار التدين فهم واهمون، لأن هذه الشريحة الشبابية إذا وصلت إلى حالة من الضياع ومن اللاقيمة، فإن الوطن سيكون ضائعاً، لأنه سيصبح جيلاً لا يعي ولا يحس بقوة انتمائه لبلده». وأبرز مثال يقدم حالياً في شأن رداءة العروض المقدمة، هو إقدام عضو بفرقة دلينكونتيس الإسبانية بالتعري أمام الجمهور. لقد كان هذا الحدث وحده كافيا ليخصص خطيب مسجد الزاوية الناصرية خطبة الجمعة للموضوع، ولكي يصرح البعض بأن من يجب أن يحاسب ليس الذي قام بهذا السلوك، بل الذين قاموا باستقدام هذه الفرقة، كما لو أنهم قد اتفقوا معها مسبقاً على ذلك، ولكي تخصص جريدة التجديد مانشيط الصفحة الأولى للحدث، وتنشر تصريح نائب رئيس حركة التوحيد والإصلاح مولاي عمر بن حماد الذي قال: «إن هذا السلوك يكشف عن تردي خطير وخلل كبير في ما وصل إليه واقع المهرجانات في المغرب». «لقد آن الأوان لأن تحتج كل الجهات وتعترض على مثل هذه التصرفات، وتقف في وجه العلل التي ينقلها مثل هؤلاء الفنانين إلى المغرب». والواقع أن مواجهة الجمهور مباشرة لذلك المغني بالصفير، هو رفض لهذا العمل. إن هذا النوع من الاحتجاج لا يكفي في نظر «التجديد»، يجب إذن رفع الاحتجاج إلى مستوياته الأعلى، وتحويله إلى احتجاج سياسي يطال «سياسة المهرجانات» ككل، بسبب ما «يرافق المهرجانات من سلوكات تتنافى وقيم المغاربة»، بينما العري المتعمد في مكان عام وخاصة إذا كان ذلك يمكن أن يقع تحت أنظار قاصرين، هو عمل معاقب عليه في التشريعات الغربية ومن بينها القانون الإسباني طبعاً، فالأمر هنا لا يتعلق بقيم المغاربة وحدهم، بل بالقيم الإنسانية المتعارف عليها، كما أكد ذلك الأستاذ عبد الله اكديرة رئيس المجلس العلمي بالرباط. تشكي المواطنين القاطنين بالقرب من الأماكن التي تقام فيها المهرجانات. وقد عبر عن ذلك عبد الإله بنكيران في برنامج حوار، وقال إنه يتوفر على نماذج لهذه الشكايات. طبعاً يجب هنا أخذ تظلمات المواطنين بعين الاعتبار ورفع كل أشكال الضرر الذي قد يلحقهم جراء الأنشطة الفنية التي تقام قرب مساكنهم، ولكن ذلك لا يعني منع المهرجانات بالمرة، فالتقارير الصحفية تفيد بأن القاطنين بالمناطق المجاورة لمكان الحفل يكونون أول المشاركين (أنظر مثلاً تغطية لوجورنال لمهرجان موازين-ع351)، وهؤلاء المشاركون بحماس وتجاوب والذين يقدرون بعشرات ومئات الآلاف هم أيضاً مواطنون مغاربة يجب أخذ حاجاتهم ورغباتهم بعين الاعتبار في دائرة احترام القانون وحريات الآخرين. إن حزباً كالعدالة والتنمية، عندما يختار «قضية» المهرجانات كموضوع للاحتجاج السياسي، لا يصنع ذلك عفواً، فبغض النظر عن الاعتبارات الفنية والأخلاقية، فالحزب يستخلص من ذلك ربحاً سياسياً ويبرر به وجوده بالمعارضة، فهو لم يختر واجهة أخرى للمعركة كتنظيم مسيرات ضد ارتفاع الأسعار أو لمحاربة الفساد الاقتصادي أو لتشغيل المعطلين، ولا يمكن له أن يظل هكذا أمام الناس وأمام أنصاره بدون معركة، إنه يختار طبعاً المجال الذي يوفر له أكبر حصاد بأقل الخسائر، والذي يسمح له بإبراز صورة محددة عن نفسه وعن المجتمع من شأنها أن تخدمه، فهو يريد أن يقدم نفسه كقيم ومؤتمن على الأخلاق في المغرب وكحام للمجتمع المغربي من أكبر خطر يتهدده اليوم وهو استهداف أخلاقه وقيمه، ولذلك يعلن تعبئة عامة لتأمين الحصانة الثقافية للذات المغربية. طبعاً تدخل أحياناً في إطار هذه «التعبئة» مبادرات للحزب، لا يمكن إلا التنويه بها كقيام فريقه بمجلس النواب بإثارة نقاش حول المقاييس المعتمدة في اختيار الجمعيات والمهرجانات التي تستفيد من الدعم العمومي لوزارة الثقافة (6 ملايين درهم)، وأفضى ذلك إلى إعلان الوزيرة التزامها بوضع نظام جديد للافتحاص يسمح بمراقبة فاعلة لمصير ذلك الدعم (جريدة لوسوار ع 85). هذا جيد، ولكن خلف الشعارات، هناك أحياناً حسابات أخرى تخفي حقيقة الأشياء، فالحزب يخشى ربما على نفسه من خطر آخر، يمثله ازدهار ثقافة المهرجانات، وهو أن تضعف هذه الأخيرة مكانته في المجتمع وأن تهدم أساس بعض أطروحاته. إن الإقبال الجماهيري الواسع على المهرجانات، يبرز حدود التأثير الثقافي للإسلاميين على أوسع قطاعات الشباب وعلى نمط الجيل الصاعد في التفكير والممارسة. فعندما يفوق المتفرجون في مهرجان فني محلي عدة مرات عدد المساهمين في التظاهرات والمسيرات والأنشطة المحلية التي تنظمها الأحزاب والحركات، ويتسم برنامج المهرجان بانفتاح على أنواع موسيقية حديثة وألوان جديدة ومستوردة، فإن ذلك يكذب أسطورة أن «أغلبية» الشعب المغربي هي مع التصورات المحافظة في الثقافة والفن التي يروج لها الإسلاميون. ولقد ظل هؤلاء يرددون مراراً أنهم يمثلون أحسن تمثيل الأكثرية داخل المجتمع، ويطلبون من القوى الأخرى احترام رأي هذه الأكثرية وتوجهاتها، فكأنهم من خلال المهرجانات يكتشفون «شعباً» آخر «غير مرئي»، فيشعرون بلا شك بحرج شديد. إن صورة المجتمع المغربي كمجتمع محافظ، يقيم مع هويته علاقة انغلاق وتشنج، ويرفض الانفتاح على الثقافات والفنون الأخرى، ويعتبر أن انتماءه الديني يفرض عليه عدم التجاوب مع مختلف أنواع الموسيقى والرقص، تنهدم ربما أمام ما تتمتع به المهرجانات عموماً من شعبية كبيرة مهما اختلفت الجهات والمناطق. وكلما تم الإقلال من المهرجانات، ستتوفر فرص أكثر لإمكان النجاح في رسم صورة محافظة عن المجتمع المغربي كله، وإساءة تأويل تشبث المغاربة بدينهم وهويتهم. ولقد ظل البعض يردد أن الأعمال التي تقع في المهرجانات تخالف قيم المجتمع المغربي، كما لو أن الذين يأتون تلك «الأعمال» ليسوا مغاربة. إن إقبال عشرات الآلاف من الأسر على أنشطة المهرجانات يرسم لنا جميعاً حدود التغلغل الأصولي في الفكر المغربي، ويبين إفلاس فكرة فرض نمط فني واحد على كل المغاربة، وينازع في حق نخبة معينة في أن تختار للمغاربة نوع الفن والغناء الذي يتعين عليهم التعامل معه. من السهولة بمكان أن يدعي أحد ما أن فناً معيناً لا يعجبه هو فن «ساقط» لا يستحق الحياة ويتعين الأمر بإعدامه، أو أن يفتي بأن أبناءنا اليوم يجب أن يتبعوا نهج آبائهم وأجدادهم في التعاطي مع الفنون. وصحيح أن هناك ضرورة لانتقاء العروض الغنائية والفنية المقدمة، ولكن هذا الانتقاء يجب أن يراعي تعدد واختلاف الأذواق، وأن يعتمد على المعايير العلمية المعروفة دوليا لدى المتخصصين في الموسيقى. ومع ذلك، علينا أن نعترف بأن حزب العدالة والتنمية هو الآن ربما بصدد إعادة «تقويم» مقاربته للمهرجانات بعض الشيء، وذلك بعد تقديم الملك لهبة ملكية لبعض الفرق الموسيقية المغربية الشابة التي شاركت في مهرجان «موازين»، وأن مقاربة الدولة لظاهرة المهرجانات أيضاً تستحق هي الأخرى أن توضع موضع مساءلة...